كتاب عربي 21

لص الدراجات

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
أؤسس هذه الورقة على حادثة فردية (Micro) في سياق إجمالي (Macro). واعتمد منهج (Erving Goffman) في اعتماد الجزئي لمقاربة الكلي الاجتماعي الأشمل إذ يبدو أن النظريات الكبرى ذات المدى الكوني قد توَّهتنا عن التفاصيل الصغيرة وأعدمت قدرتنا على تفهم الإنسان حيث يتحرك في مربعاته الفردانية الضيقة. لقد توهمنا دوما أن المركز قادر على مراقبة فروعه وامتداداته لكن يتبين عبر الممارسة أن الفرعي (الفردي) قد يجتهد لصالحه بما لا يراه النظام الكلي. فالدافعية ليست محكومة بالنظام الأخلاقي الإجمالي. والجزئي هنا هو حادثة استلاء مسؤول محلي على مساعدة اجتماعية لصالحه. أمَّا الكلي فهو فساد نظام التعيين المركزي للإدارة المحلية (برادقيم/ نموذج الدولة المركزية الكولبرتي).

الواقعة: سرقة موصوفة

في إطار التحديات الكبرى لجماعة الحاضرة (العاصمة) من المثقفين الشجعان أُمر الإرهاب بالصمت ليلة كاملة حتى أمكن لهؤلاء الاحتفال برأس السنة في جبل الإرهاب (الشعانبي) بمنطقة القصرين الفقيرة وفي إطار التفضل على الفقراء (طبقا لتقاليد مولانا باي تونس المعظم) ترك المحتفلون بعض الإعانات المادية لدى معتمد المنطقة ليوزِّعها بعلمه على بعض التلاميذ في المدارس الريفية المعزولة وكانت بعض المساعدات دراجات هوائية مخصصة للأطفال. ولأن المعتمد المكلف (في غياب الوالي/المحافظ ) له ولدان جميلان فقد احتفظ لنفسه بدراجتين وقديما قيل الأقربون أولى بالمعروف حتى إن كانت مساعدة لذوي حاجة.

لقد أمكن للنشطاء فضح الأمر ويقومون الآن بحملة بر وسم (هاشتاق) "رجّع البسكلات". وهو المعطى الجديد في الصورة القاتمة للمسؤول اللص. فقد منحت الثورة أبناءها حق فضح اللصوص في انتظار استكمال مسيرة القضاء عليهم.

من أين جاء المسؤول اللص؟

يتذكر التونسيون أن قد تم في فصل خريف 2015 تكليف عدد كبير من المعتمدين الجدد في مواقع عملهم من الموالين لحزب النداء الأغلبي الحاكم ونشطائه. وقد اعترض الكثير من النشطاء المستقلين على أسماء بعينها لما يعرفونه عن تاريخهم الفردي من سلوكيات لا تؤهلهم لتحمل مسؤولية في مؤسسات الدولة وخاصة في ظرف مضطرب وغير مستقر. فبعض هؤلاء كان أميا تقريبا وبعضهم مطلوب وفي قضايا حق عام وبعضهم لا يعدو كونه فُتوَّةَ حي شعبي يعيش من الابتزاز. لقد أجبر النشطاء رئيس الحكومة على تأخير التعيين وقيل إنه راجع القائمة لكن لم يثبت استبدال أي منها. وكان التأجيل تمويها تحت الضغط الشعبي فضغط من اختار القائمة كان أقوى. فمن اختارها؟

الوقائع تذكر ببعضها وتعيدنا إلى أسلوب في الحكم خلنا الثورة قد وضعت له نهاية لكنه لا يزال يتسرَّب من شقوق كثيرة إلى المشهد، ويثبت أمرا مهما هو أن التعيين لا يتم على أساس الكفاءة والاستعداد للمسؤولية بل على أسس أخرى منها الولاء المعلن لشخص الرئيس ولمن هم قربه، بحيث يتقدم للمسؤولية أشخاص همهم الأول الغنيمة الجاهزة التي يمكن أن توفرها المسؤولية الإدارية. هؤلاء الأشخاص مغامرون جريئون ويتحدون بشكل سافر معاير الكفاءة ويقدمون ذواتهم ومصالحهم على ضمائرهم إن كانت لهم ضمائر.

لكن لماذا يوجد هؤلاء أصلا في مجتمع من المجتمعات؟

تقديري أن هؤلاء إفراز طبيعي لنظام سياسي يشتغل بالولاء لا بالكفاءة. وعندما تصبح هذه قاعدة اختيار المسؤول فإن المتقدِّمين يتميَّزون بحسِّ المغامرة. فيظهرون حماسهم للمسؤول ويثبتون قدرة على التعاطي مع المسائل العارضة بطريقة غير أخلاقية كممارسة العنف والابتزاز، ويخضعون للابتزاز بدورهم والمسؤول الأعلى يضمن ولاءهم لشخصه ولسياسته بضعفهم لا بقوتهم (فلكل منهم ملف سري من الأخطاء يعرفها ولا يخجل منها). والمهم هي نتيجة ما يحصل عليه من المسؤولية من غنائم. ولسان حاله يقول الجميع متورط بشكل ما ولن أحرم نفسي ويتمادى فيغنم. 

هؤلاء هم جوهر ماكينة الفساد السياسي والاداري التي عاشت منها الأنظمة الدكتاتورية وقد اختفوا وقت الثورة ثم كشفوا عن وجوههم في حملة حزب النداء الانتخابية فأرهبوا الناس وأجبروهم على التصويت للحزب ولرئيسه مقابل مغانم منتظرة بعد فوزه. وقد عرف واستجاب. فعادت الماكينة إلى سالف عهدها. بما ذكر الناس المقهورين بنظام بن علي وطرق عمله. فقد كانت إدارته تعمل بمثل هؤلاء منذ تمكن من السلطة وحتى قبل ذلك في عهد حزب الدستور بل منذ هيمنة الحزب على الدولة في الستينيات.

لقد كان صندوق 26- 26 (المسمى تعسفا صندوق التضامن الوطني) بوابة رشوة سياسية بيد بن علي يستجمع به الأموال غصبا وترهيبا من الموظفين والتجار. ثم يضخُّ بعضها في دواليب الإدارة لمثل هؤلاء فيستولون منها على المستطاع ويغمضون بها عيون بعض الطامعين على أساس درجات أدنى من الولاء للمسؤول المحلي. حيث كان الحصول على بعض العطاء مرهونا بولاء مطلق للحزب وللمسؤول (ومن ذلك أعمال الجوسسة لصالح النظام باسم مقاومة الإرهاب والحفاظ  على الدولة من المتطرفين). ولم يكن جهاز البوليس السياسي في جوهره إلا هذه الماكينة الفاسدة التي ارتكبت من المظالم في حق الأبرياء ما تعجز عنه أعتى أجهزة البوليس المدرََّبة.

هل يمكن القضاء على اللّصوص؟

لماذا يوجد هؤلاء الناس في مجتمع من المجتمعات؟ ولماذا يسهل توظيفهم في ما لا يليق من العمل؟ إن الزعم بوجود مجتمع خال من هؤلاء الأشخاص هو زعم تَطَهُّرِيٌّ لا يفهم قواعد السلوك الإنساني. فالفرد (الفاعل الاجتماعي) ميال إلى تحقيق رغباته وهو أناني دوما لذلك يختار الطرق الأسهل والأكثر ضمانة لتحقيق مصلحته. والأنظمة الفاسدة تعرف ذلك وتحرّضه في الشخص لتستفيد من خدماته. إنه الجانب الغريزي غير المهذب بالثقافة الذي يوجه السلوك الفردي. هؤلاء يبنون في السلم الإداري نظاما موازيا غير شكلي يتغذون منه ويغذون منه الفساد خارج كل أشكال المراقبة الشكلية (القانونية) وهو في جوهره أقل كلفة على رأس النظام من النظام الشكلي. فمسؤول محلي فاسد يمكنه إخراس قرية كاملة بترهيبها بطرق غير مراقبة خاصة إذا مس الناس في قوتهم وأمنهم وسلامة  أجسادهم.

هل من سبيل للخروج؟

يعتقد بعض السياسيين الطهوريين من التيارات الوطنية والإسلامية التي تفكر بشكل هرمي مركزي (كولبرتي) أنه يكفي أن تجمِّع عددا من الأفراد وتحدثهم عن الضمير المهني والأخلاق السامية لتصنع منهم مسؤولين أكفاء. فإذا عينتهم في مواقعهم ضمنوا لك سلامة النظام وتطبيق القانون وتطوير الأداء على أساس من القانون الشكلي. وهذه في تقديري مقاربة خاطئة (جربت ففشلت) لأن الإصلاح الأخلاقي ليس كافيا. قد يفيد الأمر مع البعض لكنه بحسب تجارب الإدارات المتقدمة ليس كافيا. إذ يمكن للفرد أن ينافق هؤلاء الطهوريين أيضا ويتسرب ضمن برنامجهم وقد أثبتت تجربة الترويكا القصيرة في تونس ذلك، إذ لم يكن من عينتهم ملائكة نجباء. 

لذلك، فإن الحل الذي يفرض نفسه للقطع مع الممارسات الفاسدة في التعيين والعمل هو المرور إلى الديمقراطية المحلية.. أي اختيار المسؤول بالانتخاب من قبل القاعدة الأقرب إليه أي الجمهور المحلي. فيكون المسؤول المنتخب تحت الرقابة الفعلية لمن انتخبه، فتكون خشيته من الرقابة اللصيقة قوية ويكون عارفا أن أي فساد في الممارسة مهما صغر قابل للكشف السريع، بما يجعل بقاءه في الوظيف (المغنم) مرهونا بإخلاصه لبرنامج انتخابي معلن ومتفق عليه ومحل مراقبة يومية من الجمهور لا من مسؤول أعلى في التراتب الإداري وبعيد عنه في المركز.

لقد توصلت الديمقراطية العريقة بعد طول مِران إلى هذه القناعة. وهي تتقدم في تطبيق تجارب الديمقراطية المحلية الشكلية، ووجدت فيها بديلا عن الفساد المستشري في مفاصل النظام المركزي.

ولا يجب هنا أن نفرط في تخيل ملائكية المتقدمين لعرض أنفسهم على الانتخاب المحلي فالانتهازي الأبدي موجود دوما لكنه لن يكون قادرا على إخفاء دراجة في بيته، لأن الرقابة الشعبية النبيهة لن تسمح له بذلك ويجب تخيل مؤسسات مدنية وأهلية مكملة للانتخاب المحلي تمارس عبرها المراقبة على المسؤول الذي تضيق أمامه بوابات الفساد والإفساد، إذ يصير جمهوره هو رقيبه وضمان تمتعه بالمسؤولية وفوائدها المشروعة.

آن الأوان لنخرج من مقاربة السياسة  في شكلها الإجمالي. فالنوايا الطيبة المريحة للنخب المركزية طريق سالكة لأخطاء قاتلة. وهذه هي غنيمة الثورة الحقيقة لمن ألقى السمع وهو شهيد.
التعليقات (0)