كتاب عربي 21

كيف يُستعبد المواطنون تحت شعارات "النيوليبرالية" والتقشف

شهيد بولسين
1300x600
1300x600
"ستكون أياما ثورية..." هكذا صاح أحد الثوار في بلدة فلينت بولاية ميتشيغان، معترضا على تلوث الرصاص الذي أصاب مخزون مياه المدينة، وعلى تعنت الحكومة في الإعلان عن هذه الكارثة. فبينما ظل الأطفال يتساقطون مرضى واحدا تلو الآخر، ظل المسؤولون يصرون على أن الأهالي فقدوا عقولهم وأن "المياه بخير!" كما أخبروهم، ولكن المياه لم تكن بخير، فقد كانت مسمومة. والآن أعلنت ولاية ميتشيغان عن حالة الطوارئ، وبعد أن تسمم الآلاف من البشر لم يعد هناك أي ماء في فلينت حتى إن الناس يضطرون للاستحمام بمياه الشرب المعبأة.

في ديترويت، تتهاوى المدارس العامة فعليا، فالمباني مهترئة لدرجة أن الفطر انتشر في جميع أركان الفصول، والجدران أصيبت بالعفن وتكسرت وظهرت عليها آثار الأعيرة النارية، ونتيجة لكل هذا فقد تراجع الالتحاق بالمدارس.. إلا أن بعض التلاميذ أرادوا أن يتحملوا المخاطر ويذهبوا للمدرسة في ظل هذا الجو البائس والخطير، بعد أن سقطت المدارس في دوامة من تخفيضات الميزانيات وتقليص عدد المعلمين وتدهور الأوضاع عن أي وقت مضى، فكيف كانت استجابة الحكومة لكل هذا؟ المدير الجديد للتعليم في ظل هذه الطوارئ في ديترويت هو نفسه المدير السابق لحالة الطوارئ التي حدثت للمياه في فلنت... فديترويت وفلينت مدينتان تعبران بمثالية عن المدن النيوليبرالية وهي توليفة عبارة عن: وعود وردية وطوباوية + تخطيط تقوم به شركات كبرى= النتيجة، وهي أن الأهالي يحصلون على واقع بائس.

في عام 2014، قامت فلنت بنقل خطوط إمداد المياه الخاصة بها من البحيرات العظمى (حيث النبع النقي والعميق والبارد لكل أمريكا الشمالية) ليصبح الإمداد من نهر فلنت الذي وصفه عضو الكونغرس لمدينة ميتشيغان (دان كيلدي) بأنه "مجارير صرف المصانع"، ولكن لم حدثت هذه النقلة؟ لكي يتم توفير الأموال، فهذا هو الأمر الوحيد الذي يهم أي مدينة عندما تتراكم عليها الديون.

في البلاد النامية يطلقون على هذا التصرف "نيوليبرالية"، أما في أمريكا وأوروبا فيطلقون عليه مصطلح "تقشف"... فقط لكي تكونوا على نور، فإن هذا التصرف لم يوفر أي أموال. لقد وعد المسؤولون في فلنت بأن هذه النقلة ستوفر للمدينة ما قيمته خمسة ملايين دولار في سنتين، ولكن هذه النقلة لم تتسبب فقط في كارثة التسمم، ولكن من المتوقع أن تصل تكلفة إنشاء بنية تحتية كاملة للمياه إلى ما يزيد على مليار دولار.

السيناريو ذاته أدى إلى تدهور المدارس العامة في ديترويت، فالامتناع عن تمويل التعليم تم تحت شعار التقشف لأجل خفض الإنفاق العام، وتحقيق التوازن في ميزانية العاصمة الصناعية السابقة والمتعسرة ماليا. وتلك هي الاستراتيجية الرائعة في إنعاش الاقتصاد التي يتم إهداؤها إلى العالم الإسلامي..

ففي المغرب خفضت الحكومة تمويل التعليم، ومثلما حدث في ديترويت، قام المدرسون بالاحتجاج؛ لأن الامتناع عن التمويل ما هو إلا أول طلقة بندقية في الحرب ضد التعليم العام، فهو الدافع لخصخصة المدارس وتسليم تعليم أطفالنا إلى الشركات الخاصة. ولكن في المغرب أعلنها الشباب صراحة: "نحن طلاب ولسنا زبائن!"، وهكذا أصبح (الشباب) يبتعدون أكثر وأكثر عن محاولة قيام دولة إسلامية أو خلق مجتمع مثالي، ليقتربوا أكثر وأكثر من مجرد محاولتنا البائسة للتمسك بحقوقنا الأساسية.

في تونس يحتجون لكي يطالبوا بفرص عمل، وهذا هو جوهر النظام الإمبراطوري الجديد، فهم يهيمنون ليس عن طريق التهديد بحرمانكم من الحياة، ولكن بحرمانكم من أرزاقكم. فهم يحددون لكم ما إذا كنتم ستعملون أم لا، ثم يحددون لكم نوع العمل الذي ستقومون به إذا سُمح لكم بالعمل، وهذا طبعا سيحدد طبيعة دخلكم، ما سيحدد نوعية حياتكم والآفاق المستقبلية لأطفالكم. هذا المستوى من السيطرة الاستعمارية لم يسبق له مثيل في التاريخ! فبواسطة إفلاس المدن والولايات والبلدان، وعن طريق تكبيل الحكومات المحلية والوطنية بالديون، يصبح أصحاب رؤوس الأموال العالمية قادرين على استعباد شعوب بأكملها من دون الاضطرار لغزو أراضيهم عسكريا، ومع عولمة الأعمال تصبح كل الشعوب مؤهلة للاستعباد، في اليونان كما في غامبيا، وفي إيرلندا كما في الهند، وفي ديترويت كما في دمشق.

من ميتشيغان إلى المغرب تجتاح الشركات الكبرى العالم كله وتنهبه، وبغض النظر عن المكان الذي تعيش فيه، فيبدو أنها بلا شك "ستكون أياما ثورية!".
التعليقات (0)