كتب

كيف يوظف الحكم السلطوي القيود والعنف؟ قراءة في كتاب

كلما كبح المستبدون الحريات السياسية المدنية تطلب الأمر مزيدا من العزم والحزم من الاحتجاجات المعارضة..
الكتاب: سياسة القمع في ظل الحكم السلطوي، رسوخ العرش الحديدي
المؤلف: داغ تانبرغ
المترجم: عبيدة عامر
الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر

يحدد الباحث في العلوم الاجتماعية داغ تانبرغ سمتين أساسيتين للحكم السلطوي، ينتج عنهما تحديان جوهريان في السياسة السلطوية. السمة الأولى؛ أنه ليس هناك سلطة عليا متفق عليها تحظى بالثقة، ويمكن أن تسوي النزاعات بين اللاعبين السياسيين. والثانية؛ أنه عندما يشتد النزاع، يضيق الخناق وتصبح السياسات السلطوية عنيفة. وهذا يخلق تحديين هما تشارك السلطة الاستبدادية بين نخبة الحكم السلطوي، والسيطرة السلطوية التي تشير إلى النزاع بين أصحاب السلطة وعامة الشعب.

القمع السياسي يعالج مشكلة السيطرة السلطوية، لكنه في الوقت نفسه يولد مشكلة تشارك السلطة، وللحفاظ على السيطرة على الشعب من دون زعزعة اتفاقات تشارك السلطة، يلجأ الديكتاتوريون لاستخدام أشكال مختلفة من القمع السياسي بطريقة تكاملية. أشكال مختلفة تندرج تحت نوعين من القمع؛ القيود، والعنف.

المقولة الرئيسية لهذا البحث، يمكن تلخيصها بأن القيود والعنف يكمل بعضهما بعضا. تحدد القيود معايير السلوك السياسي المقبول تحت الحكم السلطوي، لكن الأفراد المعارضين يطورون الكثير من الآليات لمواجهة هذه القيود، لذلك يلجأ الحكم السلطوي إلى فرض هذه القيود فرضا، باستخدام تهديد غير اعتيادي بالعقاب، واستخدام العنف قد يؤدي إلى ارتدادات سلبية، إذ يدفع الواقفين على الحياد للتخلي عن حيادهم، إضافة إلى ذلك قد يزعزع العنف اتفاقيات مشاركة السلطة الاستبدادية بزرع مقاومة مبدئية ضد الحكم السلطوي، فتعود القيود للتقليل من هذا التأثير السلبي للعنف، بمعنى آخر تقوم التكاملية بين القيود والعنف على سد مواطن الضعف في كل منهما بشكل متبادل، ومن ثم يحولان القمع السياسي لأداة حكم سلطوي فعالة.

سياسة مقصودة

ابتداء، يعتمد تانبرغ في كتابه تعريف أستاذ العلوم السياسية ميلان سفوليك للنظام السلطوي، وهو كل نظام لا ينتخب سلطته التشريعية أو التنفيذية بانتخابات حرة وتنافسية، لكنه يلفت أيضا إلى أن الكثير من الأنظمة السلطوية المعاصرة كانت"مبدعة بشكل مدهش باستخدام المؤسسات الديمقراطية اسميا لتحقيق غايات غير ديمقراطية". ويميّز تانبرغ بين شكلين من القمع السياسي، يتضمنان انتهاك حقوق الإنسان المختلفة، ويعالجان مشكلة السيطرة السلطوية بطرائق مختلفة. ويقول؛ إن القيود تحد من فرص تشكيل الهوية والتعبير عن الذات في السياسة. فهي تحجب وسائل التنسيق السياسي التي يحتاجها الأفراد ليشكلوا ويحشدوا جماعات سعيا لمصالح مشتركة.

وبانتهاك حريات التعبير والتنظيم، تهدف القيود لتقويض القدرة على النشاط الجماعي. وعلى النقيض، يستهدف العنف إرادة المشاركة بالنشاط الجماعي. إنه يعتمد على التعذيب والقتل خارج القانون، والإخفاء القسري، والسجن السياسي، وهذه كلها تنتهك السلامة الجسدية. ويتابع أن العنف يزدري المعايير العالمية للسلوك الرشيد للحكومة، بالإظهار العلني لحزم الحكومة ونشر الخوف من الانتقام التعسفي.

القمع السياسي يعالج مشكلة السيطرة السلطوية، لكنه في الوقت نفسه يولد مشكلة تشارك السلطة، وللحفاظ على السيطرة على الشعب من دون زعزعة اتفاقات تشارك السلطة، يلجأ الديكتاتوريون لاستخدام أشكال مختلفة من القمع السياسي بطريقة تكاملية. أشكال مختلفة تندرج تحت نوعين من القمع؛ القيود، والعنف.
يرى تانبرغ أنه لا يمكن للحكام السلطويين التخلي عن القمع السياسي؛ لأنهم يرفضون ترسيخ النظام السياسي بما يتوافق مع رضا الشعب صاحب السيادة.  وبسبب ذلك، تعتمد السلطوية على التهديد غير المشروع باستخدام القهر من الحكومة. فلضمان البقاء السياسي، يجب أن يمنع المستبدون الثورة الشعبية، والقمع هو وسيلة تحقق هذه الغاية؛ فهو يكبح النقد العلني، ويقوض النشاط الجماعي، ويفرض من حين لآخر الالتزامات تحت ظل الحكم السلطوي، وعليه، بحسب ما يضيف تاتبرغ، يشكل القمع السياسي سياسة غائية، مختارة عن قصد، للتعامل مع المعارضة الفعلية أو المتوقعة. وبينما يصف البعض القمع السياسي بأنه العمود الفقري للحكم السلطوي، يرى آخرون بأنه أحد السمات المعرفة له، لكن الجميع يتفق على أنه علامة مميزة للحكم الاستبدادي.

يطرح تانبرغ السؤال التالي: هل يمنع القمع الاحتجاجات المعارضة الناجحة؟ ويجيب بأن القيود والعنف يقومان بذلك تماما إذا استخدما بشكل تكاملي. ويقول بأن الاحتجاجات المنظمة تقاوم الحكم السلطوي من خلال تكتيكات حاشدة ملحوظة ومستمرة، وتسعى لتحقيق أهداف سياسية بعيدة التأثير. ولأنها تحفز مشكلتي السيطرة السلطوية وتشارك السلطة، إذ تكشف عن غياب الدعم للنظام الحاكم، وتظهر فرصا للنشاط الجماعي، وتشجع النزاع الكامن في الصفوف العليا للديكتاتورية، فإنه من المستحيل تجاهلها من النظام السلطوي، الذي يرد عادة بالقمع السياسي. ورغم أن القيود تكبح السلوك المستقل لكنها لا تلغيه، كما أن العنف يفرض تكاليف فردية باهظة للمعارضة، لكن "سحره عادة ما ينقلب على الساحر"، وتقل سلبية هاتين الأداتين عندما تعملان بشكل تكاملي؛ فالقيود تمنع رد الفعل السلبي الناتج عن العنف؛ لأن الاستجابات المنسقة ضد فظائع الحكومة تصبح أكثر صعوبة بالتنفيذ، وبذلك "تحول التكاملية بين القيود والعنف القمع السياسي إلى دفاع واعد" ضد الاحتجاجات المنظمة، خصوصا إذا كان القمع استباقيا.

الدليل الأخير

في موقع آخر من الكتاب، يبحث تانبرغ في التأثير الذي تملكه تكاملية القيود والعنف على احتمالية اندلاع انقلاب ما. أي تلك "المحاولات العلنية غير القانونية من الجيش أو النخب الأخرى، ضمن أجهزة الدولة، لخلع السلطة التنفيذية القائمة". يقول تانبرغ؛ إن حملات المعارضة المنظمة تقدم لشخصيات النظام الحريصين على حماية أو توسيع مكتسباتهم، فرصا للقيام بمحاولة انقلابية. بالنسبة إليهم العنف هو الدليل الأخير على أن القيادة الحاكمة ضعيفة، الزيادة نفسها بالعنف يجب أن تكون مفضية إلى محاولات انقلابية عندما يضغط المواطنون لأجل تحقيق تغيير سياسي.

وكلما كبح المستبدون الحريات السياسية المدنية، تطلب الأمر مزيدا من العزم والحزم من الاحتجاجات المعارضة، وكنتيجة لذلك، تصبح الاحتجاجات أكثر مبدئية ومن ثم أكثر تهديدا لكل أعضاء النظام. وفي ضوء ذلك، لا تستطيع النخب إلا أن تضع،أخيرا، خلافاتها جانبا وتحتشد حول الحاكم. بمعنى آخر، فإن التأثير العكسي للعنف على تشارك السلطة الاستبدادية، سيصبح أصغر في السياقات السلطوية عالية التقييد.

لضمان البقاء السياسي، يجب أن يمنع المستبدون الثورة الشعبية، والقمع هو وسيلة تحقق هذه الغاية؛ فهو يكبح النقد العلني، ويقوض النشاط الجماعي، ويفرض من حين لآخر الالتزامات تحت ظل الحكم السلطوي.
يضيف تانبرغ، أن العنف يؤدي إلى كل أشكال المشاكل، بما فيها رد الفعل السلبي والانقلابات والتمرد المسلح والحروب الأهلية، لذلك، فلا بد من التساؤل عن الظروف التي يستطيع المستبدون فيها اللجوء إلى العنف والنجاة بذلك. والجواب على ذلك، ليس الاستخدام التكاملي للقيود، بحسب تانبرغ، لكن قد تكون "الذخيرة السلوكية" للمعارضة تمثل إجابة محتملة. فالأبحاث حول المقاومة المدنية تحاجج أن اللاعنف الاستراتيجي يحبط القمع السياسي، ويزيد قدرته على رد الفعل السلبي. أيضا  يجب ألا تكون كل أشكال المعارضة عرضة بالقدر نفسه للعنف. كما أن "قيادة وبنى التعبئة ما قبل القمع بجانب المؤسسات الإعلامية الموازية"، تحمي المعارضين من العنف.

يشير تانبرغ إلى أن نتائج بحثه الذي استند إلى تحليل كمي، تنطبق حصرا على فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويلفت في خلاصة كتابه إلى أن النظام السياسي يقدم أفضلية لمجموعة من القوانين على أخرى، وبهذا يكون دوما قمعيا بالحد الأدنى. لكن المشاكل تبدأ حين تستخدم الحكومات القمع لتحصين نظام سياسي قائم بوجه التنازع، وهذا ما يحاول الحكم السلطوي تحقيقه بالضبط.