كتاب عربي 21

الجنين الميت

1300x600
ما نشاهده الآن منذ عشرة أشهر هو السيناريو البديل الذي كان من الممكن أن يقع سنة 1954 حينما كان الثوار يحاصرون قصر عابدين للفتك بعبد الناصر الذي أمر بفتح النار على طلبة جامعة القاهرة، فخرج الطلبة يحملون قمصان زملائهم وهم يهتفون (دم الشهدا بدم جمال).

 منذ البداية رفض الإخوان مغادرة الشارع، ولجأوا للاعتصام، وبعد أقل من شهرين كان أمام سلطة الانقلاب أمر من اثنين، إما أن تترك الاعتصام يتمدد أفقياً وإما أن تقدم على فضه، وكانت مجزرة رابعة والنهضة الشهيرة، كانت هذه النقطة تحديداً نقطة تحول في الصراع المكتوم بين دولة العسكر وبين الدولة المدنية.

 فلأول مرة ينتقل القتل من الجدران المغلقة في معتقلات عبد الناصر إلى الشوارع وأمام شاشات المحطات التليفزيونية، حينها أدرك الثوار أن الصراع صراع وجود لا يمكن الفوز فيه إلا بالسلمية وتحمل ضريبة الدم الفادحة، هي معادلة صفرية، الخاسر فيها طرف واحد والرابح طرف واحد.

 لم يعد أمام العسكر سوى المجاهرة بالقمع والعنف ولم يعد أمام الثوار سوى المجاهرة بالثورة وهو ما أحدث حالة من المقاومة النفسية لدى قطاع ضخم من المصريين والمقاومة مستمرة منذ عشرة أشهر، ولا يبدو أنها ستتوقف بل وأفرزت مشهداً يفوق في روعته مشاهد المقاومة السلمية لغاندي إبان الاحتلال الانجليزي للهند, فالمصريون ببساطة رفضوا المشاركة في كوميديا انتخابات العسكر ! وكان من الممكن أن يصحح الشعب الانقلاب الباطل بالمشاركة في انتخابات العسكر، ولكن الشعب أو معظم قطاعاته أحجموا عن المشاركة وهو ما حرم الانقلاب من الشرعية القانونية ! وحتى شرعية الأمر الواقع لم ينجح الانقلاب في اكتسابها عبر عشرة أشهر حتى الآن، فإدارة الانقلاب بكل مؤسساتها لم تفلح في إثناء قطاعات كبيرة من الشعب عن التظاهر والاحتجاج وتوسيع دائرة الثورة، وعلى الرغم من امتلاك الانقلاب لكل وسائل القوة المؤسسية التي تمتلكها أي دولة إلا أنه لم ينجح في فرض الأمر الواقع، وصل وزير دفاع الانقلاب ذو ((اللنضة)) إلى الكرسي وحصل زوراً على اللقب الذي أزهق آلاف الأرواح من أجله ولكنه وصل كسيراً ذليلاً عُفِّرَ وجهه في التراب ! 

وانقلب الوضع وبدأت أكبر عملية صيد في التاريخ المصري، فوزير الدفاع الذي يمتلك كل أوجه القوة، مختبئ في قبو لا يعلم أحد مكانه، يخشى الظهور لكيلا تتخطفه أيدي المصريين، يخفي الخلفية التي يصورونه أمامها لكيلا يعرف أحد مكانه، يخاطب مؤيديه عبر سكايب، يتغذى على الرعب، وتتآكل نفسه من الذعر الذي يبدو أنه لا يفارقه بينما المتظاهرون الذين وصموا بالإرهاب هم الأحرار مطلقو اليد في الشوارع يطلبون رأسه ورؤس مجلسه العسكري، وفاز منكس الرأس مسود الوجه زوراً في انتخابات لم يحضرها أحد واكتشف الجميع أنه لا يتمتع بالشعبية إلا على الشاشات فقط ! وحتى رقصات بلطجيته وحفلات الرقص المفتعلة في التحرير بدت أشبه برقصة المذبوح، وكلما اقتربت الكاميرا منهم ظهرت أعدادهم الحقيقية وظهرت نوعيات من استأجروهم من البلطجية ومن مجندي الأمن المركزي الذين شحنوهم على ميدان الثورة، وكالعادة انتهى اليوم بحوادث قتل بين مؤيدي الانقلاب في عدة أماكن وبوصلات التحرش المعتادة ! 

ولم يخل اليوم من طرافة، فقد أصبح ظهوره بكل طبقات المكياج التي حرص على تلطيخ وجهه بها ووجهه المسود، مثار سخرية وتندر النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى ما يسمونه بحفل التنصيب هو محاولة عصبية لنيل الشرعية، وما هو إلا أسبوع وسينفض الحفل العصبي وسيظل محاصراً، لا يجرؤ على الخروج للناس، وسيستمر حصاره وسيضيق حتى يلقى مصير القذافي، وخصوصاً مع توسع دائرة الثورة التي لا يبدو أنها ستتوقف حتى تطيح برأسه وبنظام العسكر كله الذي حاولوا بعثه من جديد بانقلاب ولد ميتاً.