كتاب عربي 21

الأزهر والبحيري وحنتيتة و فيلم "لي لي"

1300x600
"اسمع يا أخ إنت، عاجبك تشتغل في الجامع تبعنا على هوانا، أهلا وسهلا ورقبتنا ليك. لكن كتقعد توعظ في الناس تبقى تشوف ليك جامع تاني. الجوامع أكثر منها مافيش".

بهذه الجملة البليغة من فيلم (لي لي) للمخرج مروان حامد، المقتبس من قصة قصيرة للكاتب يوسف إدريس والذي منع الأزهر عرضه لسنوات، خاطب المعلم (حنتيتة)، كبير حارة الباطنية، إمام الجامع عبد العال، الملتحق حديثا بالحارة للإشراف على المسجد الكائن على ترابها. وليس أبلغ من هذه الكلمات تعبيرا عن واقع الحياة الدينية بالباطنية ومن خلالها مواقع كثيرة بجغرافيا الوطن العربي الممتد، وعن صعوبة مهمة الإمام إن هو أراد السير ضد التيار المسيطر عليها وعلى أبنائها.

منذ اليوم الأول لحلول الشيخ عبد العال، الفقيه الشاب الأزهري المتحمس لأداء دوره الديني المبني على إمامة الناس وتقديم النصيحة والوعظ لهم علّهم يستقيموا أو يعودوا إلى الله تائبين نادمين، اصطدم بواقع مرير تمثل في هجر السكان للجامع واستنكافهم عن حضور الصلاة. فما كان منه إلا التوجه إلى كبير الحي طالبا تدخله لحث الآخرين وإقناعهم بارتياد المسجد.

تلك العادة التي لم تعد طقسا في يومياتهم بعد أن شغلهم تناول المخدرات والاتجار بها وممارسة المفاسد بكل أشكالها. هنا توضحت، منذ البدء، رؤيتان مختلفتان للفهم الديني: رؤية الفقيه المتدين ورؤية السكان المتخفية وراء ستار التيسير. فالجامع يمتلئ عن آخره بالمريدين يوم الجمعة لأداء فريضة الجماعة أما غير ذلك فلا صلاة ولا تعبد ولا نسك. إنه "الإسلام الشعبي" الذي تحول من ممارسة مقدسة واجبة إلى ممارسة اجتماعية اعتيادية مؤسسة على العادة والتقليد لا الإيمان الحقيقي بوجوبها.

قطع على الواقع..

في ساحة (مدرسة فضل الحديثة)، اجتمعت مديرة التربية والتعليم بالجيزة ومعها مجموعة من الأطر "التربوية" وتحلقوا حول كتب مرمية على الأرض، قبل أن يبدأوا في حرقها مؤرخين للحظة بصور جابت المواقع الالكترونية وشاشات القنوات التلفزيونية إيذانا بانبعاث "التتار الجدد" و"محاكم التفتيش" بأرض الكنانة، بعد أن أعلنت المؤسسات الأمنية فشلها في مواجهة "الإرهاب"، صك التفويض الذي أوصل "كبير البلد" إلى سدة الحكم.

ليس في الأمر من مفاجأة، فالنظام الذي أحرق الناس في الميادين وقتلهم تعذيبا في مخافر الشرطة وخنقا في سيارات ترحيلات السجون، لن تقف أيديه مكتوفة أمام "شوية أوراق" أو "آيات شيطانية" إخوانية وقطرية. لكن التبجح بالواقعة وتصويرها واعتبارها إنجازا، تحت رفرفات الأعلام المصرية، تؤكد بالملموس أننا لم نصل بعد إلى القاع الذي يتنافس عليه مسؤولو الدولة ومريديهم من عامة الناس و"خاصتهم" دون تفريق.

قبلها بأيام تقدم الأزهر ببلاغ إلى النائب العام ضد إسلام البحيري الذي يقدم برنامجه "مع إسلام"، والسبب "اعتراضا على ما يبثه من أفكار شاذة، تمس ثوابت الدين، وتمس تراث الأئمة المجتهدين المتفق عليهم. بالإضافة إلى ما قام به مقدم البرنامج من سب وقذف علني لعلماء الأزهر الشريف، وتعمده إهانة المؤسسة الأزهرية...".

هي إذن دعوة من شيخ الأزهر أحمد الطيب لإعدام برنامج تلفزيوني، لا تختلف في شيء عن إعدام السيدة بثينة كشك لكتب منها "الإسلام وأصول الحكم" و"جمال الدين الأفغاني" وغيرهما.

القصة كلها تنازع مواقع بين "إسلام" البحيري و"إسلام" حنتيتة، والأزهر عاجز بينهما، رافض لمن ينازعه في التفسير والتأويل، فاختار الانحياز من عقود،  ل"إسلام" حنتيتة باعتباره الأسلم ل"كبير البلد"، رغم كل دعواته في خطاباته العصماء إلى تجديد الخطاب الديني. فأي تجديد يعني بالضرورة إعمالا للعقل، وفي ذلك خطر على الانقلاب مخافة أن يتسرب الاجتهاد إلى مناطق أخرى مصونة للطبقة الحاكمة "الآمنة".

"إسلام" حنتيتة معتمد على الدروشة والخرافات والعادات الاجتماعية التي صارت من أركان "الإسلام الشعبي" وهو بهذا الشكل وسيلة تخدير و"عز الطلب" عند الانقلابيين ينضاف للبانغو والحشيش والترامادول.

صدقت (صابرين) حين أسمته "الإسلام الجميل" الذي يبيح بالمناسبة التمثيل في مسلسلات بلاتوهاتها منحصرة في غرف النوم وفي الكباريهات ب"باروكة" تغطي الشعر بدلا عن "حجاب".

عودة إلى الخيال..

الإمام عبدالعال في حوار داخلي: "هداية قوم ينصرفون عن دينهم ليس بالأمر الهين. ولكن، أليس هذا مرادك الذي طالما سعيت إليه؟ أليس هذا هو ميدانك الذي طالما رددت أنك تود أن تجاهد فيه؟ فلتبدأ من الآن. حببهم في الإيمان وادعهم ليعبدوا الله حق عبادته وليجعلوا خشيته دائما نصب أعينهم. اذهب إليهم مصحوبا بالهداية وإن شاء الله تفلح وتجد عندهم استجابة".

 مرت أيام وأيام على حلول الإمام بالحارة لكن لا أحد من ساكنة الباطنية يهب للصلاة غير عبدالعال ومساعده وشخص مطرود من بيت الزوجية يتخذ المسجد سكنا.

أحد شباب الحي (موجها كلامه للإمام): "يا مولانا، الصلاة ده فيها جاجات أنا مش عارفها. وضوء وحفظ فاتحة، ومش بس فاتحة ده كمان عايزة سورة ثانية جنبها.اديني ثلاث أربع شهور وأكون زبون عندك في الجامع..".

الحلاق (موجها كلامه للإمام): "خليك خفيف خفيف علشان العيشة تبقى خفيفة. بلاش عكننة الله يرضى عليك".

لم يعد هناك من فاصل بين الواقع والخيال..

للانتصار لرؤيته، قرر الشيخ عبد العال الانطلاق في رحلة "نشر الدعوة" لاستقطاب المريدين إلى "مسجده" وإعادة الحياة إليه دون جدوى، إذ أن البقية مشغولون بالدنيا ومتعها وملذاتها دون وازع ديني أو أخلاقي. هكذا حاول الفقيه التقرب أكثر من العالم السفلي للسكان لدرجة تحوله، مع مرور الوقت، إلى طبق غنائي ضروري في سهرات المجون التي يحضرها الحشاشون وكبار تجار المخدرات وعلية القوم الذين في حلفهم.

وكم كان التناقض مستفزا حين اعتاد عبد العال أداء الموشحات الدينية، حيث يناجي ربه وينشد رضاه ومغفرته، في المقاهي وبؤر الفساد بحيه، فيتماهى الرواد مع غنائه وصوته الرخيم وترانيمه دون أدنى اهتمام بما تحمله الموشحات من معان وعبر. أهو حوار الصم أطبق على الجميع؟ أم تعايش متواطأ عليه بين "الدين" و"الدنيا"؟ أم هي بداية تدجين الفقيه وتفكك رابطته العقدية التي ظلت حتى حضوره إلى الحارة متماسكة ومتجانسة؟

 لقد صار لعبد العال مكانة وقدر لدى أبناء الحارة ونسائها اللائي لم يتورعن عن عرض أنفسهن عليه. هي الأضواء لا تختلف من "جامع" أومن استوديو تصوير تلفزيوني اعتاد عليه كثير من خريجي الأزهر والدعاة "المستقلين" و"مجددي" الدين الإسلامي المستحدثين لقضاء حاجة. وكما انغمس عبد العال في حياته الجديدة لا يجد إسلام البحيري غضاضة عن الحديث عن "مواصلة نضاله" واعتبار صدور أي قرار بوقف برنامجه "إهدارا لدولة القانون".

هنا تطل (لي لي) بكل إغوائها كما ظهر التلفزيون بكل غوايته على "الدعاة" والمشاهدين ، والمنصب على "شيوخ" الأزهر بما يضمنه من قرب واعتداد بالسلطة.

ففي خضم التيه الذي يعيشه الفقيه عبد العال تظهر (لي لي) في حياته وهو المحروم العطشان التواق، رغم ورعه، للنهل من ملذات الحياة إرواء لظمئه المكبوت. تدخل (لي لي) حياة عبد العال بذريعة تعلم اللغة العربية الفصحى، شيطانا ماردا حاول الهروب منه وتفادي الانفراد به مخافة الافتتان. لكنها وفقت في إصابته في قلبه ، رغم كل شيء، بحمى لم يسبق له الإحساس بها. وصار شبحها يتبدى له، وهو في عز استعداده للآذان، مسترقا النظر إليها عبر نافذة غرفتها وهي تتغنج في لباس نوم خفيف أحمر.

يومها استيقظت الحارة على يوم جديد بلا آذان فجر يكسر سديم الليل وسكونه، واستمعوا بدله لدعوات المناجاة المؤثرة، التي أصدرها الفقيه من على شرفة صومعته، يطالب فيها ربه بقوة الإيمان ويستعطف رحمته عله يجتاز الامتحان العصيب. لقد أصبح الشيطان أقرب ما يكون من هزيمته هو الذي دخل الحارة مسلحا بالتكوين الديني الصحيح بهدف إخراج نفس الشيطان منها.

عبد العال يناجي ربه وصوته يزلزل الحارة الغارقة في لحظات فسق سكانها المعتاد: "يا رب اغثني، يا رب خوفي ليس من الشيطان بل من نفسي.. يا رب أعلم أنه كلما زاد الابتلاء زاد الأجر، وكلما زاد الصبر كلما نعمت من حلاوة القرب منك. إني طامع في الاقتراب منك أكثر. سأنظر أكثر، سأضاعف الإغواء... يا رب إني أهوي .. يا رب لم أعلم أني بكل هذا الضعف.. يا رب رحماك ... أغثني يا إلهي..".

حرب نفسية داخلية أصبحت تتنازع الفقيه الورع وتدفع به دفعا لارتكاب الخطيئة والسقوط في الرذيلة.

وكم كان مشهد إمامته الناس يوم الجمعة  وتصوير المخرج لتوازي التجاذبات النفسية المسيطرة عليه بين ضرورة التخشع في الصلاة وتهيؤاته الجنسية المعلنة على بداية هزيمة نفسية تتسلل إلى معتقدات الفقيه وتزلزل اليقين المتأصل عنده منذ سنوات.

وكم كان المخرج موفقا في لعبه على تصوير الواقع والانتقال إلى الخيال في تواز رائع تداخل فيها الاثنان لدرجة عدم القدرة على التمييز بينهما، خصوصا في المشهد الذي بدا فيه الفقيه منهيا سجدته ومتسللا من المسجد، دون إعلام المصلين المستغربين لطول السجدة، ملتحقا بمنزل (لي لي) عارضا عليها خدماته كأستاذ مستعد للاختلاء بها، وهو الرافض قبلها لكل شبهة انفراد، فردت له الصاع صاعين بإغلاق الباب في وجهه دون مواربة، قبل العودة إلى المشهد الواقعي الذي يعلن فيه عبد العال نهاية السجدة كخاتمة للشريط لا كنهاية لحالته النفسية المهتزة دلالة ضعف إنساني كبير وكثير عناء في تحمل وضعه الجديد.

لقد هوى كثيرون وزيّن الشيطان لآخرين أعمالهم، وصاروا بالدين يتاجرون وبما درسوه من فقه وعقيدة يصوبون السهام إلى الإسلام. ولا تزال التلفزيونات تشعلها بين الضيوف استدرارا لنسب مشاهدة توزعت بين مئات القنوات المتناسلة كالفطر في الفضاء العربي أخبارا ودينا وغناء ورقصا وانحلالا.

تضاء الأضواء وينطلق جينيريك البداية معلنا عن حلقة جديدة من برنامج "مع إسلام"، قطب الرحى في الدعوة ل"إسلام" البحيري. وفي قاعة فسيحة مليئة بالضباط من كل الرتب العسكرية، يواصل "كبير البلد" خطبته العصماء عن تجديد الخطاب الديني قبل أن يلتفت إلى شيخ الأزهر يسأله : هو الدين بيقول إيه؟ والجواب من الشيخ: حلال حلال حلال، على هوى "صاحب" الجامع الجديد. 

ترتسم الابتسامة على شفتي "الكبير" فقد قضى "حنتيتة" على "إسلام" عبد العال، ولا قدرة له على فهم شخبطات "إسلام". أما (لي لي) فانطلقت تنشر الدعوة الجديدة وتشعل النيران في كل بقعة ظهرت فيها "آيات شيطانية" إخوانية كانت أو قطرية.