كتاب عربي 21

الدولة المندسة في القصرين: ديمقراطية دون عدالة

1300x600
هذه المرة كانت التحركات الاجتماعية الشبابية أساسا في مدينة القصرين، شرارة لحراك اجتماعي واسع في البلاد، يعيد بوصلة الجميع بعيدا عن رفاه "التوافق" والصالون السياسي الشكلي إلى ميدان الواقع. 

بناء الديمقراطية أمر عصيب، وفي كثير من الأحيان أمر نخبوي يبقى أنه دون معنى إن غابت العدالة. ديمقراطية دون عدالة هي ديمقراطية تمشي بسيقان من عجين. آيلة للسقوط لا محالة. 

المثير كان عودة الخطاب الذي ميز بروباغندا الاستبداد: "مندسون" يقفون وراء تأجيج الأحداث. الحقيقة لا يؤجج الأحداث إلا الوجود الشكلي للدولة التونسية بوصفها حامية للهوة الاجتماعية طويلة الأمد، التي تم التأسيس لها بعناية منذ أكثر من ستة عقود. الدولة في القصرين مندسة وينظر إليها المجتمع بوصفها عبئا. كيف لا يحصل ذلك عندما يرى دافعو الضرائب أنهم لا يصيبهم شيء من ثورات البلاد، وأن السياسة العامة للدولة تخدم أساسا فئة اجتماعية أقلية. 

كان أحد المقاطع الطريفة التي رددها كثيرون هو رد المحتجين من الجهات المهمشة على من يطالبونهم بعدم الإضرار بمكتسبات جهاتهم، هو الدعوة لعدم اللاضرار بالنزل خمس نجوم والمول التجاري الضخم والمنتجعات الترفيهية والوحدات الاستشفائية الجامعية. الحقيقة هذه الجهات فارغة مكفهرة. لا يوجد هناك ما يمكن الإضرار به.

علينا جميعا كنخبة سياسية الإقرار أن الانشغال النخبوي في بناء الديمقراطية مقابل اهتراء ثقة الشباب في الدولة، إنما يؤسس عمليا لتقويض الإيمان بالسياسة ذاتها. في الأخير لن يكون هناك ناخبون حتى يمكن لنا أن نضمن استمرارية الديمقراطية مادامت غالبية الناخبين ترى في الأطراف المنتخبة اجترارا لذات العقلية التنموية القديمة: خدمة الأقلية ضد الأغلبية. 

في هذا الحراك الاجتماعي مثلما الذي قبله لا أحد يرفع شعارا يخص "الشريعة" أو "اللباس" أو "المثلية الجنسيبة" أو غيرها من القضايا المصيرية، لنخبة تهوم بعيدا في العقد الأيديولوجية. ليس لديهم وقت يضيعونه في إشكاليات كهذه. 

في المقابل يغرق البعض في تسجيل النقاط السياسية والاستغراق في صراعات النخبة السياسية، بعيدا عن الحدث الكبير وهو الانفلات الاجتماعي المتزايد عن منظومة السياسة التقليدية. 

الشباب وقضاياه الاجتماعية هو البوصلة، ولا يمكن ترسيخ الديمقراطية بسياسات "هو يسرق وأنت تخلص" ودعم فئات اجتماعية تحظى بالامتيازات على حساب غالبية مهمشة قامت بالثورة. وعلينا جميعا في عموم النخبة السياسية تحمل المسؤولية والتعلم منهم في ترتيب الأولويات.

كل من دعم وصول السبسي للسلطة بما في ذلك عبر "قطع الطريق"، لا يملك أي مصداقية في إعطاء الدروس وتصدر الاحتجاجات في القصرين. ولاية القصرين وخاصة شبابها كان موقفهم واضحا وموثقا بالأرقام في الانتخابات الماضية في الدورين الأول والثاني، ولم يساندوا قطع الطريق وكانوا يعلمون مساوئ وصول السبسي للسلطة، وعاينت ذلك بنفسي في الحملة وحماسهم الكبير والعفوي في اجتماعات الدكتور المرزوقي، رغم إغراءات الطرف المقابل، والعديد منهم كان نادما على عدم التسجيل في الانتخابات. 

من جهة أخرى كل من يخوفنا من مساندة هؤلاء الشباب من خلال اجترار نظريات مؤامرة سمجة واستعادة خطاب الشعب ولجان التنسيق حول "المندسين"، إنما يفعل ذلك لتبرير دعمه لمنظومة السبسي في السلطة وخدمتها بكل طاعة طوال سنة 2015 بما في ذلك عبر قوانين يمينية، تدعم حكم اللوبيات القديمة (إعادة رسملة البنوك، بنود "المصالحة الاقتصادية" في قانون المالية..) وينسى معطى أساسيا وبديهيا، وهو أن الشرعية الديمقراطية لا تستديم أو تستقيم إلا بالعدالة والثقة في الدولة، لا تستقيم إلا بالثقة في مقاومتها الفساد. وأن عزوف الشباب على المشاركة في الانتخابات من أهم مؤشرات القصور الديمقراطي في تونس. وأنه مقدمة واضحة على نزعتهم لممارسة السياسة عبر الشارع، وليس عبر الصندوق. 

في المقابل الحكومة تقوم بكل ما في وسعها لإسقاط نفسها. ودخلت في حالة تيه مثيرة للانتباه. آخر الأمثلة ما يلي: إذ نفى وزير المالية سليم شاكر الوعود التي أعلنها الناطق باسم الحكومة بأحداث خمسة آلاف موطن شغل، و قال "إن الناطق الرسمي باسم الحكومة خالد شوكات كان حاضرا خلال الاجتماع  لكنه أخطأ". علامة واضحة على التخبط. 

المنظومة التي انبثقت عن انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر 2014 بصدد التهاوي، وهي منظومة مبنية على أولوية التوافق النخبوي التقليدي على أساس الحفاظ على مصالح اللوبيات المهيمنة. الحراك الاجتماعي سواء توسع واستمر أو لم يستمر، تذكير للجميع بقواعد اللعبة الحقيقية.
إن الديمقراطية بلا عدالة لعبة محدودة النتائج. وإن الدولة مادامت غير مندمجة في مجتمعها تعبر عن خيارات لا تضمن العدالة بين المواطنين، سيتم النظر إليها ككائن غريب لا يستحق الثقة، فما بالك الانتخاب. لهذا تحديدا الوضع أخطر من موقف مائع؛ إذ بين ثنايا انعدام الثقة في الدولة يكمن كل من يريدون العودة إلى الاستبداد، وكل من يريدون التوحش وداعش. 

على القوى الديمقراطية والوطنية التي تعتبر أولويتها القضايا الاقتصادية والاجتماعية ومواجهة الفساد، فتح نقاش فوري لاقتراح خريطة طريق لإنقاذ تونس. وصياغة خطة حكم بديلة عملية واضحة لعرضها على المواطنين في انتخابات مبكرة. النخبة السياسية لم تكن في المستوى، ودون ضغط دائم من الشباب المعطل لن تتغير هذه النخبة. في المقابل لا تغيير اقتصادي واجتماعي جدي دون سياسة وسياسيين.