كتاب عربي 21

النهضة الجديدة

1300x600
المؤتمر العاشر للنهضة. حديث الناس في الشوارع والمقاهي والكواليس. الحديث الوحيد لشهر مايو في تونس. بعد أيام قليلة قد لا نتحدث عن النهضة سيخرج الحزب من مؤتمره باسم جديد. وسيقضي الفارغون وقتا طويلا لملء فراغهم بتدبير سخرية جديدة من الاسم الجديد. الساخرون سيدخلون مناطق التكييف الاصطناعي لمواجهة حر التغيير المناخي وحر تغيير النهضة لوجهها وفعلها التي تسبق به الجميع وتفرض قواعد اللعب السياسي على ساحة جامدة تبدو فيها المتحرك الوحيد. 

لأقل بشيء من مجاز إنها اللاعب الوحيد الذي يمكنه تسجيل أهداف. بعض هذه الأهداف ليس بالضرورة في مرمى خصومه فبعض القذفات ستكون في مرماه ففائض النشاط الذي يخترق الحزب مقارنة ببقية لاعبي الساحة قد يجعل بعض كراته ترتد عليه. هل على النهضة أن تقف مكانها حتى يفكر الآخرون في تغيير ما بهم. قانون الحركة يقول من لا يتحرك يموت. فليمت الجامدون نحن نتابع فعلا تأسيسيا ولنا الحق في حسن التوقع ولن ننسى الحذر.

نهضة خاصة لكل تونسي

الحديث عن النهضة فيه الكثير من العاطفة وليس كله تحليلا عقلانيا مستندا إلى خلفيات نظرية في السياسة والاجتماع. كل يريد نهضة على مزاجه. وقليل ممن يرضى بها كما هي. البعض يريدها ذكرى في التاريخ، كأن تحل نفسها وتندثر. دون أن ينتبهوا إلى أنها قد تفقدهم باندثارها مهمتهم الوحيدة التي كرسوا لها حياتهم وهي الحرب ضد النهضة. البعض يريدها كتلة انتخابية مطواعة وبلا برنامج ليتخذها سلما لمجده الشخصي. والبعض يريدها أن تخوض الحروب جميعها من أجله وتسلمه بلدا بلا منظومة فاسدة. ولا بأس أن تختفي بعد المهمة. البعض يريدها أن تعيد بناء مجد الأمة الإسلامية فيفيق صباحا على أمة الإسلام قائمة. لكن النهضة ليست لأحد إنها الآن لنفسها ولمشروعها الذي تخوض من أجله معركة وجود. وتتلون ليراها الناس فلا ينكرونها وربما طمحت أن يقبلوها ويغيروا مطالبهم منها فتصير منهم بعد طول نكران وجفاء. وهي لا تنكر رغبتها في الحكم ولو بعد حين. العقلاء من كل هؤلاء سيهتمون بالمشروع الجديد. من هي النهضة القادمة؟

من هي النهضة القادمة؟

تعلن النهضة إطلاق عملية تطوير أحزاب الإسلام السياسي في المنطقة العربية بالتحول إلى حزب سياسي مدني ذو مرجعية إسلامية. ولكنا لم نسمع بهذا في آبائنا الأولين. فلا أحد يمكنه إجراء مقارنة توضيحية لتجارب مماثلة سابقة فيقال كما فعل الحزب كذا في البلاد كذا. البعض يتذكر خروج الأردوغانية من حجر الاربكانية. البعض يقارن بتطور تجربة الأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا. لكن التجربة في المجال العربي تبدو مستجدة وتفتح باب حديث في الاجتماع السياسي قد يكون له أثر بالغ في التنظيرات وفي الممارسات في كافة المنطقة. النهضة تطرح تحديا فكريا جديدا لكن أسئلة أعمق من التحدي النظري تطرح نفسها:

هل مطلب اللحظة السياسية التونسية والعربية هو ابتكار نظرية في الحكم أم ابتكار منوال تنمية يكرس مبادئ الثورة والاستقلال السياسي والاقتصادي ويؤسس لثقافة بديلة؟

إذا كان تطور النهضة سيتجه إلى وضع قواعد اجتهاد جديدة في النص الديني (مرجعيتها) وفي تطوير الممارسة السياسية (مجال حركتها) فهو أمر مشروع بصفتها تيارا فكريا وحزبا سياسيا في آن واحد ولكن هذا الاجتهاد سيظل معلقا ولا ينزل إلى الأرض إلا بشرط الرد على الجانب الثاني من السؤال أي اقتراح عملية تنموية استقلالية ذات مضمون اجتماعي فعال. فهنا سيختبر الاجتهاد فيصير نموذجا أو يسقط الحزب وفكرته مهما بدت عبقرية. ربما علينا أن نستعير هنا مفهوم البراكسيس لنقول لنمارس حتى يتبين الاختلاف.

منوال التنمية الجديد محرار للتغيير الفعلي

في منوال التنمية المطلوب سيصطدم الحزب بالقوى الاجتماعية الفاعلة والتي تبدو لي غير مشغولة بالاجتهاد في النص الديني بقدر انكبابها على المكسب الدنيوي المحسوس. أي أن مطالبها متعددة ومتناقضة لكن ليس من أولوياتها فتح نقاش في علاقة الإسلام بالدولة المدنية أو بسبل التوفيق بين التعبد والتكسب. حتى ليظن المتابع أن النهضة قد وقعت في فخ جرت إليه جرا. فالرد المطلوب على مطلبية القوى الاجتماعية المتناقضة هو كيفية إعادة بناء البلد اقتصاديا بما يسمح بحل معضلات التشغيل ومعالجة الوهن الذي يكبل الإدارة وعلاج الفوارق الجهوية التي جعلت البلد يعيش إعاقة تنموية دائمة يمكن أن تفتح في أية لحظة على حرب أهلية.

هل كان على النهضة أن لا تتغير فكريا لأن القوى الاجتماعية تبدو لمن يتابع نضالاتها غريزية فاحشة في نهمها وغير مهتمة بأي مشروع فكري أو فلسفي؟.

بين النهم الاجتماعي الذي يقود فئات واسعة من الناس إلى مكاسبهم الخاصة والقطاعية الفئوية وبين ابتكار نظرية جديدة في الحكم تمر النهضة من زاروب ضيق لتفرض على الساحة نقاشا عميقا لا يتجاهله إلا كسول. أما كيف يستوعب المشروع الفكري الجديد (الإسلام المدني أو الإسلام الاجتماعي) منوالا تنمويا استقلاليا فاعتقد انه الإبداع الحقيقي المنتظر من النهضة الآن وهنا لا لأنها كانت حزبا إسلاميا (وترغب أن تتمدن)، بل لأنها ملكت شجاعة التعبير عن التغير من الداخل وقبول التغيير الخارجي الذي فرضته الثورة بعد نصف قرن من تكلس الأفكار والمواقف والسياسات لدى جميع التيارات. فهل تملك النهضة الوسيلة لذلك؟

عوائق بنيوية وأخرى موضوعية

النهضة ليست وحدها وإن كانت الأكثر نشاطا. النهضة تتحرك بجسد لم يعالج كل قروحه. فإعاقات السجون لا تزال تكبل الكثيرين نفسيا وماديا. والنهضة رغم مشاركتها في الحكم لم تستطع تطبيق نص العفو التشريعي الذي ينصف مساجينها. كما أن هناك قطيعة حقيقية بين أجيال في الحركة جيل ما قبل 1990 وجيل الأبناء والأنصار الجدد ممن تربي خارج التنظيم السري ولم يتعلم من نفس المدرسة النضالية وهناك شبيبة تعلمت الدين من شيوخ التلفزة ولديها ميول شريعية منغلقة وربما تكفيرية يعاني الجيل الأول الآن في كبحها. فضلا على إعاقة شاملة هي تفشي الكسل الفكري فأبناء الحزب لم يعودوا من القراء وقد أقر بذلك الغنوشي نفسه بنبرة حزينة (جيل الفاست فود الفكري).

أما محيط النهضة فلا يفتح أحضانه. فالقوى الاجتماعية التي أشرت إليها لا تنتظر حزبا من الصالحين بل لعل العكس هو المطلوب (مطلوب حزب فاسد لفاسدين مهما كان اسمه ولن تقبل النهضة إلا إذا ورطتها في الفساد). كما أن الخصوم السياسيين يسارا ويمينا لن يقبلوا النهضة ولو خرجت من جلدها. فكل قبول لها يعني السماح لها بالتهام المشهد والتهام الحكم فالجميع يقيس قوته إليها ويجد نفسه ضعيفا. وقد تخصص البعض في عدائها وكلف نفسه بمهمة وحيدة هي قطع الطريق عليها مهما تلونت.

أما خارجيا فالمشهد التونسي تحكمه بالأساس العلاقة مع فرنسا العدو الأشد شراسة للنهضة وما شابهها. تصنف فرنسا النهضة عدوا وهي لا تصدق أطروحة تحولها مهما خففت من غلواء الخطاب الديني. ما نقرأه من صحافتها يكشف عداء مسبقا لهذه التحولات الداخلية بالحزب. وقد بدأت منذ جائزة نوبل في تجهيز أذنابها. ورغم ما يقال عن محاولة الولايات المتحدة تمكين تجربة إسلامية من التأقلم إلا أن الحذر غالب على الموقف خاصة إزاء ما يفعله الأميركيون بالإخوان المسلمين في مصر.

الحركة إذن في محيط محلي وإقليمي ودولي معاد. وتصر على التقدم في مشروعها. يجب أن نصنف هذا في الشجاعة الأدبية والسياسية ونتوقع تأثيرا مباشرا وعميقا في المشهد التونسي وربما يذهب البعض إلى توقع ارتدادات ذلك على بقية الأحزاب الإسلامية السياسية في المنطقة العربية. هذا أفق تفكير ونقاش. لكن ليتذكر النهضويون دوما أن عمق الصراع الاجتماعي هو الكسب المادي وليس المتعة الفكرية. وربما نهمس إليهم على سبيل التهنئة بنجاح مؤتمرهم أن يحولوا اسم الضاحية حيث يوجد مقرهم إلى حومة معاوية. فسيرة معاوية الآن صالحة للقراءة.