قضايا وآراء

الصادق المهدي والموت احتجاجا

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
ذكر المفكر الإسلامي الكبير عباس العقاد في "عبقرية الإمام علي" أن الزمن الذي تواجد فيه الإمام لم يكن يتطلب حاكما حكيما عادلا، بل كان يطلب ملكا سياسيا نافذا، وهكذا غاب الإمام رضي الله عنه وعن معاوية؛ أول ملوك الأمة وأحد أعظم زعماؤها. وسيكون ملفتا هنا أن الأستاذ العقاد استثنى معاوية بن أبي سفيان من سلسلة عبقرياته، رغم أنه كتب عنه كتابا هاما فصّل وأصّل فيه لنجاح معاوية في إقامة الدولة الاسلامية كزعيم سياسي كبير، لكنه كان يرى أن العبقرية شيء آخر.

وسواء كان موت الزعيم السوداني الكبير الصادق المهدي بتقدم السن (1935- 2020م) أو بمضاعفات "كوفيد 19"، لكن موته في هذا الزمن الذي تمر به السودان كان حتميا (ككل موت)، لكنه كان مصحوبا ببرقية احتجاج شديدة وسريعة على ما يجرى فيه الآن، ليس فقط لقفزة الظلام المجهولة التي قفزها النظام في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي بالتطبيع مع إسرائيل!! (السودان الخامس في التطبيع بعد مصر في 1979، والأردن في 1994م، والإمارات والبحرين في 2020م).

ولكن أيضا، وهو ما لا يقل أهمية عما سبق لأنه مترتب ترتب عليه، أن ترى "سيد الخرطوم" الجديد شابا أربعينيا لم يكمل الدراسة الإعدادية متفرغا لتجارة الإبل، ولا حقا لتوفير الحماية لمن يدفعون، وليصبح قائدا عسكريا يرتدي لباسا عسكريا دون المرور بأي دراسة عسكرية ولو على مستوى صف الضباط والمساعدين، وكي تتبلور البللورات وتتبروز البراويز وللمسارعة بتكوين أرقام جديدة في معادلة باتت ضرورية؛ أصبح قائدا لما يعرف بـ"قوات الدعم السريع"، وحين تسمع الاسم سيخيل لك أنها من القوات الخاصة لمشاة البحرية الأمريكية، ولأن الإناء السوداني تعجن فيه أياد كثيرة مؤخرا، فتم تثبيت الصورة السياسية الآن على ما نراه.. فحق لمن مثل "الصادق" أن يغيب.. فغاب.

* * *

ستتفق مع حفيد المهدي الكبير ما شاء لك أن تتفق، وستختلف معه ما شاء لك أن تختلف.. لكنك أمام سيرة ضخمة لزعيم ولد ليكون كذلك! فنشأ وتربى وتعلم وكبر، فكان بالفعل كذلك.

حفظ القرآن في الخلوة كما يقول أهلنا في طريقة "الأنصار"، والتحق بالتعليم النظامي الذي بدأه في الخرطوم، ثم في كلية فيكتوريا التي مكث بها عامين فقط من 1948-1950.

و"فيكتوريا كوليج" أسسها عام 1902م المندوب السامي البريطاني في مصر لتخريج الصفوة التي ستخدم الإمبراطورية، ودرس فيها الملك حسين بن طلال، وولي عهد العراق الأمير عبد الإله، وعمر الشريف الممثل المعروف، لكنها أيضا خرجت لنا أحد كبار مفكرينا في العصر الحديث، "إدوارد سعيد"، أيضا المفكر الإسلامي الكبير د. عبد الله النفيسي.

سيتركها الشاب المتمرد على القوالب الثابتة.. ويمكث غير بعيد في بلاده عامين من المراجعة والتأمل والمراقبة ليعود ثانية إلى التعليم النظامي عام 1952م. سيحصل على ثانوية أوكسفورد (مثل الآي جي في مصر) ويلتحق بجامعة أكسفورد.. كان طبيعيا أن يتجه لدراسة الزراعة لرعاية لأطيان العائلية الكبيرة، لكن الأمر لم يتعد الفكرة والاقتراح، فولى شطره باتجاه مستقبله الذي كان وراءه كما يقولون، ودرس الفلسفة والسياسة والاقتصاد ثم الماجستير في الاقتصاد.

وليعود إلى بلاده في العام 1957م طارقا دولاب الحكومة ليعرف ويفهم أسرار البيروقراطية الإنجليزية العتيقة، لكنه لم يلبث إلا واستقال احتجاجا على الانقلاب الأول في تاريخ السودان الحبيب (السودان عرف عشرة انقلابات عسكرية نجح منها ثلاثة: عبود 58/ 69، النميري 69، البشير 89، وفشلت منها سبعة).

* * *

سينخرط في صفوف المعارضة من 1961 إلى 1964م، ثم رئيسا لحزب الأمة بعد وفاة والده (الصديق) عام 1964. في هذه الفترة سيكتب أهم كتبه عن أهم قضية في تاريخ السودان ووادي النيل كله، كتاب "مسألة جنوب السودان"، سيتسلم رئاسة الوزراء منتخبا وهو في عمر الواحد والثلاثين لمدة سنة واحدة (1966- 1967م) ليخرج على إثر انقسام حزبي..

سيحدث انقلاب النميرى 1969م، فيسجن ثم ينفي إلى القاهرة ثم يعود إلى بلاده، ثم يسجن ليخرج بعد حرب أكتوبر 1973م وما صاحبها من مناخ قومي متصالح، ليقوم بجولة الترحال المهمة في حياته وفي وقت مهم من حياة أمته الإسلامية والعربية، والتي من ضمنها كتابه المهم "أحاديث الغربة". ذلك أن هذا الوقت كان العصر الذهبي لتيار الصحوة الإسلامية والتي له بها ألف قرابة وقرابة، فكرية وعائلية (حفيد المهدي وابن الصديق وصهر حسن الترابي)، في الوقت الذي كان فيه الغرب يشرئب ويتطلع ليفهم الظاهرة التي يبدو أن أجهزته توقعتها أو انخرطت فيها أو أي شيء.

يلقي العديد من المحاضرات في أماكن عديدة من العالم عن الحل الإسلامي والصحوة الإسلامية، ليعود إلى بلاده عام 1977 م، بعد أن تكون تجربة العمل الموحد بين الفرقاء السياسيين قد مرت بما تمر به كل تجارب العمل الموحد في باقي الأوطان العربية، من أحقاد شخصية إلى اختراقات أمنية إلى تلاعبات سياسية (الجبهة الوطنية الديمقراطية المعارضة حزب الأمة، والحزب الاتحادي، والإخوان المسلمين).. سيعتقل مرة أخرى بعد ست سنوات من عودته بعد اعتراضاته الشهيرة على طريقة تطبيق الشريعة. وكتب خلال سنة الاعتقال هذه كتابا مهما سيظل يُقرأ قراءة مرجعية في موضوعه وهو "العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الاجتماعي الإسلامي".

سيذهب النميرى عام 1985م بعد غضبة (نيسان) أبريل الشعبية الشهيرة ليأتي بعدها "الصادق" رئيسا للوزراء لثلاث سنوات (1986- 1989م) حتى انقلاب البشير الذي سيعتقله ثلاث سنوات، ثم ليرفع راية الجهاد المدني كما أسماه لأربع سنوات أخرى، قبل أن يهرب خارج البلاد ويستقر في إريتريا عام 1996م..

في عام 1997م كان في إثيوبيا وحكى لنا في كتابه "مياه النيل الوعد والوعيد" كلاما مهما وجديرا بأن يُروى، ذلك أنه التقى الرئيس الإثيوبي ميليس زيناوي الذي قال له: أنتم في وادي النيل تتعاملون معنا بفرض الأمر الواقع، كما في الاتفاقية المصرية السودانية في عام 1959م، وسيأتي يوم نعاملكم فيه بالمثل ونفرض عليكم "الأمر الواقع". يقول الصادق: وبعد أسبوع من هذه المقابلة التقيت الرئيس مبارك ونصحته بالتعامل مع دول المنابع بأسلوب مختلف، فكان رده: من يمد يده للنيل سوف نقطعها.

سيلتقي بعدها بصهره وصديقه اللدود ومهندس "الانقلاب البشيرى"، د. حسن الترابي، في جنيف عام 1999م، ولكن لقاءه بالبشير في جيبوتي في نفس السنة سيمهد لعودته عام 2000م.

بعدها سيوجه اهتمامه الأكثر لهيئة "شئون الأنصار" الذي سيُنتخب إماما لها عام 2002م، ثم رئيسا لحزب الأمة عام 2003 م.. ثم ليراقب المشهد تارة من أقصى المدينة وتارة من قلبها، إلى أن يضطر للخروج منها عام 2018م ليعود بعد ستة شهور، وليظل "حكيم القرية" الناصح أحيانا والمراوغ أحيانا، إلى أن ينتقل إلى رحمة ربه الخميس الماضي (26 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020م).

رحم الله الصادق الصديق المهدي.. والذي برحيله يرحل عنا سيد كبير من سراة القوم، ما أصعب أن تعوضه الأمة، في زمن الأسئلة الأخيرة الذي نحياه وتلك اللحظات التي راحت تخبو فيها الكثير من الآمال.

twitter.com/helhamamy
التعليقات (0)