قضايا وآراء

جمال الجمل.. أجراس العودة هل تقرع؟

قطب العربي
1300x600
1300x600

على مدار سبع سنوات عقب الانقلاب العسكري في مصر وهجرة عشرات الآلاف من المصريين المعارضين إلى الخارج بحثا عن مواضع آمنة يواصلون فيها نضالهم من أجل الحرية، أو يكملون بها مساراتهم العملية أو التعليمية، لم يعد من هؤلاء المهاجرين خلال تلك السنوات سوى أربعة أشخاص؛ أحدثهم الكاتب الصحفي جمال الجمل، وقد سبقه إعلاميان آخران هما المذيع السابق بالتلفزيون المصري طارق عبد الجابر، والناشط القبطي رامي جان، والقاضي عماد أبو هاشم.


يختلف جمال الجمل عن الثلاثة الآخرين بشكل كامل، فهو صاحب مشروع فكري، وصاحب موقف سياسي أصيل، عصي على الكسر، على خلاف النماذج الأخرى التي انهارت تماما أمام ضغوط الغربة فقررت تسليم نفسها للشيطان، وتنفيذ ما يطلبه منها. ولذا فقد ظهر ذلك الثلاثي في برامج تلفزيونية مرددين ما طلبه منهم قائد الأوركسترا الإعلامية في مصر؛ من نفاق ظاهر للنظام، ونقد قاس للمعارضة في الخارج، وتقديم ما لديهم من معلومات خاصة عنها، وقد أدوا الدور المطلوب منهم مقابل منحهم حق الحياة وسط ذويهم بعيدا عن السجون. وهو أسلوب لا يصلح مع شخص مثل جمال الجمل واجه عدة نظم سياسية، وليس متصورا أن ينهي حياته السياسية وهو في منتصف السستينات من العمر بفعل سياسي فاضح.

صاحب مشروع فكري، وصاحب موقف سياسي أصيل، عصي على الكسر، على خلاف النماذج الأخرى التي انهارت تماما أمام ضغوط الغربة فقررت تسليم نفسها للشيطان، وتنفيذ ما يطلبه منها

قبل ثلاث سنوات اضطر الجمل لمغادرة القاهرة بعد أن تعرض لتضييق أمني وسياسي ومعيشي كبير، ورغم أنه كان من معارضي حكم الرئيس مرسي ومن داعمي مظاهرات 30 حزيران/ يونيو 2013، إلا أنه ككاتب ومثقف لم يستطع الصمت على أخطاء نظام السيسي عقب انقلاب 3 تموز/ يوليو، وتناول بعضها في مقالاته الصحفية التي كان ينشرها وهو داخل مصر، ولأنها كانت مقالات ذات تأثير فقد أجرى السيسي نفسه اتصالا معه دام عشرين دقيقة لحثه على وقف الانتقاد، والنظر إلى الإنجازات التي تحققت أو في طريقها للتحقق. وكان من الممكن لجمال الجمل أن يستغل هذا الاتصال لتلميع وتسويق نفسه، والبقاء في مصر نجما إعلاميا (تحت سقف النظام)، لكن شخصيته لم تكن تسمح بذلك، فبدأ التضييق عليه بمنع مقالاته ومنع ظهوره في وسائل الإعلام، ووضعه وأسرته تحت ضغط أمني بتعيين رجال شرطة لمراقبة وحصار منزله بشكل مستمر، وهو ما دفعه في النهاية للهجرة خارج مصر، وكانت تركيا هي وجهته ليكمل من خلالها رسالته عبر قناة الشرق التي يديرها صديقه الدكتور أيمن نور.

لم يكد يمر عام على هجرته حتى بدأت أثقال الغربة تضغط على الجمل، خاصة أنه عاش وحيدا بعيدا عن أسرته التي لم تتمكن من اللحاق به، كما أنه لم ينسجم كثيرا مع الحياة في تركيا، ولم ينسجم كثيرا مع المعارضة المصرية المقيمة فيها (مع استثناءات قليلة كنت واحدا منها)، حتى أنه قضى وقتا طويلا في الريف التركي بعيدا عن إسطنبول، المقر الرئيسي للمصريين المهاجرين. وبدأت فكرة العودة تراوده مرارا، غير أن نصائح الأهل والأصدقاء كانت تمنعه، كما أن اعتقال أقرب أصدقائه في مصر، مثل الدكتور يحيي القزاز ومعصوم مرزوق، كان بمثابة رسالة تحذير قوية له. وقبل عدة شهور فكر مجددا في العودة، وقام بتصفية متعلقاته وحدد موعدا للعودة، لكن نجله بهاء رفض تلك العودة ووسّط أصدقاءه ليقنعوا والده بالبقاء، حيث أن عودته لن تكون أمنة، وأن السجن سيكون مصيره، وقد استجاب الجمل مؤقتا لهذا الضغط العائلي، غير أنه لم يستطع صبرا طويلا حين عاودته فكرة العودة مجددا قبل أيام.

كنت من القليلين الذين تجمعهم صداقة قوية مع الجمل، وكنت دائم الاتصال به حتى اختفى عن الأنظار لعدة شهور قضاها في عزلة اختيارية في الريف التركي، ولم يكن التواصل معه متاحا، حتى فوجئت باتصال منه قبل عودته إلى مصر بأسبوع تقريبا، تحدثنا طويلا عن أوضاعه كما حدثني عن فكرة العودة التي تراوده، وقد كنت صادقا معه في النصيحة بعدم العودة، فالنظام ليس صادقا في فكرة قبول المعارضة من الداخل، والنظام سجن قامات كبيرة مثل هشام جنينة وعبد المنعم أبو الفتوح ومعصوم مرزوق والقزاز، وحتى سامي عنان والعقيد قنصوة، ولن يتورع عن اعتقاله هو (الجمل) ولن ينسى له مقالاته وتعليقاته التي أوجعت مدير المخابرات العامة عباس كامل ورجاله. لكن جمال الجمل بدا لي هذه المرة أكثر جدية في قرار العودة مهما كلفه ذلك من ثمن، وبدا لي أن أشواق العودة لديه أقوى من مخاوف الحبس، فهو يريد رؤية أولاده حتى لو من وراء حاجز زجاجي في السجن، وهي مشاعر يشاركه فيها كل مغترب بطبيعة الحال، لكن لكل إنسان طاقة من التحمل.
الحنين إلى الوطن هو شعور فطري لدى المهاجرين في كل مكان، ولعله أكثر إلحاحا لدى المصريين وهم معروفون بعشقهم لوطنهم ولبيوتهم ولأرضهم

الحنين إلى الوطن هو شعور فطري لدى المهاجرين في كل مكان، ولعله أكثر إلحاحا لدى المصريين وهم معروفون بعشقهم لوطنهم ولبيوتهم ولأرضهم. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكثر صدقا وتعبيرا عن حبه لوطنه مكة التي أجبر على الهجرة منها حين وصفها بأنها أحب البلاد إليه، ولولا أن أهلها أخرجوه منها ما خرج. وعبّر بلال بن رباح عن حنينه لمكة قائلا: "ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادي وحولي أذخر وجليل". وحين وصف أصيل الهذلي مكة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم فإن قلبه لم يحتمل، وقال له: "حسبك يا أُصَيْل لا تُحْزِنّا"، وفي رواية: "يا أُصَيْل دعِ القلوب تقرّ". إذن الشعور بالحنين إلى الوطن هو شعور طبيعي، لا يلام صاحبه، وحين يحن الكثير من المصريين إلى العودة لوطنهم فهذا حقهم الطبيعي، كما هو حق الفلسطينيين من قبل، وحق العراقيين واليمنيين والليبيين والسوريين.. إلخ، لكن للعودة ثمن، ومن لديه القدرة على دفع الثمن فليدفع وليعد، ومن ليست لديه الرغبة أو القدرة على ذلك فليرض بالغربة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

الغربة أو الهجرة ليست مجرد نزهة، هناك من يهاجر للدراسة أو للعمل، أو حتى بغرض الإقامة الدائمة في مكان أفضل، لكننا نتحدث هنا عن الذين أجبرتهم الأوضاع السياسية والأمنية على الهجرة القسرية، دون أن يكون لديهم الرغبة لا في العمل ولا البقاء في المهجر، بل إن ظروفهم المعيشية تزداد سوءا في غربتهم، ومن حقهم العودة إلى أوطانهم وإلى ذويهم وعائلاتهم وأعمالهم، لكنهم يحتاجون ضمانات للعودة الأمنة، دون أن يتعرضوا لاعتقالات تعسفية او اتهامات هزلية، أو محاكمات جائرة، أو مطاردات مستمرة، فمتى تحققت تلك الضمانات لن يكون هناك عذر لمن بقي يشكو في غربته.
هذه الهجرة تبقى الخيار الاستثنائي ويبقى الوطن هو الخيار الأصلي، حين تتوفر شروط الحرية والعيش الكريم فيه، وساعتها فإن أجراس العودة سوف تقرع

تبقى الهجرة خيارا للأحرار الذين لا يطيقون العيش الذليل حتى لو كان في وطنهم الأصلي وبين أهلهم وعشائرهم، وقد وصف القرآن الراضين بالاستضعاف والذل بأنهم ظالمون لأنفسهم "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها..". كما قال تعالى: "وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ يَجِدْ فِى ٱلْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِنۢ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً".

وعلى كل حال فإن هذه الهجرة تبقى الخيار الاستثنائي ويبقى الوطن هو الخيار الأصلي، حين تتوفر شروط الحرية والعيش الكريم فيه، وساعتها فإن أجراس العودة سوف تقرع.

twitter.com/kotbelaraby
التعليقات (0)

خبر عاجل