قضايا وآراء

كلفة عدم بناء المغرب الكبير

امحمد مالكي
1300x600
1300x600

ستحُل بعد أيام قليلة الذكرى الثلاثون لإنشاء "اتحاد المغرب العربي" (17 شباط/ فبراير 1989 - 17 شباط/ فبراير 2019)، وسيتم، دون شك، التذكير بهذه المناسبة عبر وسائل الإعلام، والتباكي على النتائج المتواضعة والضعيفة التي جنتها شعوب المنطقة من هذا التنظيم الإقليمي، الذي أحيطت به عند تأسيسه العديد من الرهانات، والكثير من الآمال والتطلعات.

كنت شاهدا على إبرام معاهدة مراكش المعلِنة عن ميلاد "اتحاد المغرب العربي"، وواكبت، كمواطن يقطن في مدينة "ابن رشد الحفيد" (مراكش)، التصريحات والتطلعات التي عبر عنها قادة الدول الخمس الموقّعِين على وثيقة التأسيس (موريتانيا - المغرب - الجزائر - تونس - ليبيا)، وساهمت كباحث ببعض الكتابات عن طبيعة هذا الاتحاد، وأبعاده، والآفاق المتاحة أمامه. وتعاقبت السنون وبقيت مواظبا على مواكبة مسار هذا الاتحاد، وتأرجحه بين المدِّ والجزر، وكل سنة كانت تمُر دون التقدم على طريق الإنجاز، كما نضيّع فرصاً وإمكانيات، وكنا نخلف موعدَنا مع التاريخ، أي كنا نفرّط في ما أتاحت الاتحادات الناجحة لغيرنا من سُبل التطور ومصادر اكتساب المناعة وامتلاك القوة الجماعية.

سيُنهي الاتحاد المغاربي بعد أيام عقدهُ الثالث، ورصيده من الإنجازات التي تضمنتها معاهدته ووقع عليها قادتُه، وباركتها شعوبه، ضعيفة ولا تدعو بالجملة إلى الوقوف عندها. فباستثناء عملية الهيكلة والتأسيس، أي إرساء الأجهزة التي تم التنصيص عليها في المعاهدة، وعقد بضع دورات لمجلس الرئاسة بحسبه أعلى هيئة مقررة في البناء المشترك، لم تُسفر العقود الثلاثة عن نتائج واضحة، وازنة وفعلية، بسبب التوتر الذي ساد علاقات بعض أطرافه (المغرب والجزائر)، والذي أفضى إلى توقف انعقاد مجلس رئاسته منذ العام 1994. وحين توقف الرأس عن الاشتغال والمبادرة، طال الجمود كل أعضاء الجسم وأطرافه. ومرة أخرى أضاع المغاربيون موعدهم مع التاريخ، كما أضاعوه عام 1958 في أعقاب انعقاد مؤتمر طبنجة والإعلان عن إنشاء "اتحاد كونفدرالي"، وأعادوا إضاعته سنة 1974 مع الدعوة إلى تأسيس الوحدة الاقتصادية، من خلال ما سمي وقتئذ "مؤتمر وزراء الاقتصاد" والمؤسسات المنبثقة عنه.

 

باستثناء عملية الهيكلة والتأسيس، أي إرساء الأجهزة التي تم التنصيص عليها في المعاهدة، وعقد بضع دورات لمجلس الرئاسة بحسبه أعلى هيئة مقررة في البناء المشترك، لم تُسفر العقود الثلاثة عن نتائج واضحة

ثمة خيط رابط بين لحظات الضياع الثلاث، يمكن من خلاله تفسير تعثر المشروع المغاربي والكلفة التي تؤديها الشعوب المغاربية جراء هذا التخلف.. إنه عدم تنزيل البناء المغاربي المشترك منزلة القضية الاستراتيجية ذات الأولوية، والتي يجب تعبئة كل الطاقات والإمكانيات من أجل نجاحها واستمرارها حيةً ومتجددةً ومؤثرةً في الحياة العامة للمنطقة. أما القصد بـ"الاستراتيجية" في هذا المقال، فيعني عدم امتلاك الإرادة الواعية واللازمة للبحث عن المشترك من أجل تغليب فرص البناء على عناصر الفُرقة والتباعد.

تُشكل ثنائيةُ "المغرب - الجزائر" عُقدة تفسير التعثر الحاصل في البناء المغاربي المشترك ومفتاح الحل، لاعتبارات متعددة، أبرزها وزن الدولتين الديمغرافي، والسياسي والاقتصادي. وإذا كان للدول الثلاث الأخرى مكانتها في البناء الجماعي، فإن للمغرب والجزائر القدرة على إعاقة هذا البناء أو إنجاحه، دليلنا في ذلك أن مقررات مؤتمر طنجة لعام 1958، توقف تنفيذها بعد إعلان استقلال الجزائر سنة 1962، ودخولها فما سمي "حرب الرمال" عام 1963، وأخفقت صيغة "مؤتمر وزراء الاقتصاد" عام 1975 للأسباب نفسها، أي توتر العلاقات المغربية الجزائرية. أما "اتحاد المغرب العربي" فتوقف بدوره سنة 1994 في أعقاب الهجوم الإرهابي على مواقع سياحية في مدينة مراكش، تورط فيها أشخاص من أصول جزائرية.

ثمة أسباب عديدة لتفسير مصادر التوتر المغربي الجزائري، منها ما هو وجيه وموضوعي، والكثير منها ذاتي ولا يستند إلى العقل والمنطق. لنترك الجوانب الذاتية وغير المنطقية جانبا، وننظر إلى العناصر العقلانية في البناء المغاربي المشترك، أي الضرورات التي تعمّ بالخير العام والفائدة على شعوب المنطقة، وتُؤمن سبل المناعة والقوة لبلدانها. ولنعزز نظرنا بالممارسات المُثلى التي راكمتها التجارب الناجحة من حولنا، ونطرح سلسلة من الأسئلة عسى أن نمسك بجوهر هذه الضرورات.

 

أسباب عديدة لتفسير مصادر التوتر المغربي الجزائري، منها ما هو وجيه وموضوعي، والكثير منها ذاتي ولا يستند إلى العقل والمنطق

فما الذي يمنع الجزائر والمغرب من فتح حوار صريح وموضوعي عن كل القضايا الخلافية التي تؤجج التوتر بينهما؟ وما الذي يمنعهما من تقديم نقد ذاتي متبادل عن الأخطاء (إن وجدت) والنظر إلى المستقبل على أسس جديدة ورؤية مغايرة؟ وما الذي يمنع من إشراك مواطني البلدين في إبداء رأيهم بشكل حر وإرادي في قضية البناء المشترك؟ لماذا لا تُفتح الحدود البرية وإتاحة فرصة انسياب الأشخاص والأموال بين البلدين، بالقانون ووفق أحكامه وآلياته؟

يُقنعنا التاريخ وتجارب الاتحادات الناجحة أنه لا خيار أمام الدول المتجاورة، والتي تجمعها روابط قوية، سوى وسيلة الحوار الصريح والصادق والمسؤول، كما ليس أمامها أفق سالك سوى العمل المستمر من أجل المشترك، ونبذ الخلافات، أو على الأقل ترشيد خسائرها.. ألم يكن تاريخ ألمانيا وفرنسا وديان دماء، وحروبا لا حدود لها؟ ومع ذلك أقنعت آفة الحرب وكوارثها البلدين بأن قوتهما في وحدتهما، أي في تعاونهما وبحثهما المستمر والصادق عن المشترك، الذي يعم بالفائدة والخير العام على شعبيهما وشعوب فضائهما التاريخي والحضاري.

إن كلفة عدم بناء المغرب الكبير كبيرة وفادحة، وقد قدر قيمتها البنك الدولى منذ سنوات بفقدان 2 في المئة من الناتج الخام الوطني لكل دولة مغاربية. والمؤسف أن الضياع ما زال مستمرا باستمرار تعثر المشروع، ولا يُعرف على وجه اليقين متى يتوقف الضياع، وتهب ريح الوعي على عقول النخب المغاربية.

1
التعليقات (1)
عبدالرحيم أحد طلبتكم
الثلاثاء، 29-01-2019 11:34 ص
الاشكال هو في تعدد المخاطبين الرسميين في هذين البلدين ولامخاطب قادر على القيام بدوره من جهة ،ومن جهة أخرى فكلا الدول تعاني أكثر مما مضى سياسيا اقتصاديا اجتماعيا، المغرب المرتبة الاخيرة في الدخل الفردي، الجزائر تعاني في مجالات اخرى،فالمصالح تسيطر إذ الماسكين بزمام السلطة الحقيقين وليس الظاهرين يعتبرون أنه في الاتحاد ليس قوة وإنما ضياع مصالح.