مقالات مختارة

مصر: قيمة العدل الغائبة

عمرو حمزاوي
1300x600
1300x600

من بين مرتكزات العدل كقيمة أخلاقية وواقع معاش، وسيادة القانون كإطار لإدارة ترابطات المواطن والمجتمع والدولة، والتشريع كوظيفة عامة تتجدد مضامينها باستمرار لتحقيق صالح المواطن والمجتمع والدولة والاستجابة للنواقص والاختلالات والأزمات الحاضرة والتطلع إلى مستقبل أفضل، يأتي في موقع أساسي الحق الأصيل للمواطن في أن يفهم بوضوح القوانين والتشريعات التي تنظم حياته في مجاليها الخاص والعام وتعين مساحات وأنماط وتفاصيل الفعل المقبول ومضاده المرفوض إن لجهة العلاقات بين المواطنات والمواطنين أو لجهة تعاملاتهم إزاء سلطات المجتمع العامة ومؤسسات وأجهزة الدولة. تعرف أيضا الإجراءات العقابية حال تورط المواطن في فعل مرفوض يتحول بمقتضى القوانين والتشريعات إلى فعل مجرم وطرق التقاضي الناجز وأدوات الدفاع الموضوعي.


بعبارة بديلة، يغيب العدل وتتراجع سيادة القانون وتنحرف الوظيفة التشريعية عن جوهرها ما أن يعجز المواطن عن فهم مواد وبنود القوانين والتشريعات المحيطة به، وما أن تنتفي قدرته على الإدراك المباشر لطبيعة الفعل المقبول قانونا ولمضاده المرفوض – المجرم وللعقوبات المحتملة ولضمانات التقاضي والدفاع. والمواطن المشار إليه هنا هو المواطن الذي يستطيع إعمال العقل لفهم القوانين والتشريعات، ويستطيع أيضا لأغراض الفهم والإدراك التعويل على المساعدة المتخصصة من قبل المرافق القضائية والمساعدة الاحترافية (مدفوعة الأجر أو غير مدفوعة الأجر) من قبل القائمين على مهن المحاماة.


هذا المواطن يواجه اليوم في مصر النزوع المستمر للسلطوية الحاكمة لتمرير قوانين وتشريعات تستند في صياغة موادها وبنودها إلى مفاهيم فضفاضة وعبارات مطاطية وإحالات بالغة الغموض لطبيعة الفعل المقبول ولمضاده المرفوض، وتستدعي سياقات بالغة الاختلاط لمساحات وأنماط وتفاصيل الفعلين، وتلغي بذلك قدرة المواطن على الفهم والإدراك الرشيد وتجرده بالتبعية من ضمانات الحقوق والحريات وتعرضه عبر طيف واسع من الإجراءات العقابية للقيود وللقمع وللتهديد الدائم لإنزالهما به حال عدم امتثاله للإرادة الرسمية.


المواطن المصري، وبدون تمكينه وصون كرامته وحقوقه وحرياته لا عدل ولا سيادة قانون ولا سلم أهلي ولا تنمية مستدامة ولا بناء ديمقراطي ولا دولة وطنية قوية، يستيقظ يوميا على مواد وبنود قوانين جديدة مليئة بالمفاهيم الفضفاضة والعبارات المطاطية وقد أقرت، وأضيفت إلى قائمة ليست بالقصيرة لتشريعات تعصف بحقه الأصيل في الفهم والإدراك الرشيد وتجرده من حقوق وحريات أصيلة أخرى وتزج به وبالمجتمع والدولة إلى غياهب تقنن الاستثناء وتنتفي صلتها بالعدل وسيادة القانون وجوهر الوظيفة التشريعية، من قوانين التظاهر والجمعيات الأهلية وتعديلات قانون العقوبات إلى قوانين الصحافة والإعلام والنشر الإلكتروني.


بل أن السلطوية الحاكمة تسعى إلى أن تفرض على المواطن القراءة الرسمية للأوضاع المصرية كالقراءة الوحيدة المتسقة مع المصلحة الوطنية والصالح العام وأهداف إخراج المجتمع من أزماته المتراكمة والحفاظ على الدولة وتماسك مؤسساتها وأجهزتها. فمع تقنين الاستثناء على نحو يعصف بحقوق وحريات المواطن ومع التعويل على خليط من الممارسات القمعية والإجراءات التقييدية لإبعاد الناس عن التعبير الحر عن الرأي وإسكات الأصوات والمجموعات المدافعة عن الديمقراطية ومعاقبتها حال عدم الامتثال للصمت المفروض «من أعلى» بشأن انتهاكات الحقوق والحريات، توظف السلطوية هيمنتها على وسائل الإعلام لتبرير الواقع الرديء.


وما أن تنتج المقولات التبريرية حتى تشرع السلطوية الحاكمة والنخب الاقتصادية والمالية والإعلامية المتحالفة معها في توظيف طيف من الأدوات والاستراتيجيات اللاحقة لإقناع قطاعات شعبية واسعة بصدق القراءة الرسمية وبفساد القراءات البديلة التي تتبناها الأصوات والمجموعات المدافعة عن الديمقراطية.


ومن بين تلك الأدوات والاستراتيجيات اللاحقة التي يتكرر توظيفها، تظهر في الواجهة أداة الإنكار العلني لحدوث انتهاكات للحقوق وللحريات وتظهر أيضا استراتيجية تبرير السلطوية والاستثناء في بر مصر بالإحالة إلى الاستثناء المحيط بها إقليميا (الاستبداد العربي) وبالصعود العالمي لأعداء الديمقراطية (من ترامب وبوتين والحكم الشيوعي في الصين إلى حركات اليمين المتطرف التي تهدد حكومات أوروبا الديمقراطية).


ومن بين تلك الأدوات أيضا، يتصاعد توظيف استراتيجية نزع المصداقية الأخلاقية والوطنية عن المدافعين عن الديمقراطية بالترويج لنظريات المؤامرة وبالتشكيك الدائم في رفضهم للإرهاب ونبذهم للعنف على الرغم من التضامن الصريح لكل ديمقراطي مع المواجهة المشروعة ضد عصابات الإرهاب. كذلك يتكرر التعويل على استراتيجية الصناعة المتجددة لقوائم الأعداء في الداخل والخارج ولخانات الذين يصنفون زيفا كمناهضين للمصلحة الوطنية لطلبهم الديمقراطية أو لمطالبتهم بإيقاف انتهاكات الحقوق والحريات ومحاسبة المتورطين فيها أو لرفضهم قوانين وتشريعات الاستثناء.


وقبل ذلك ومن بعده يأتي القمع الذي تمارسه السلطوية الحاكمة لنشر مشاعر الخوف بين الأغلبية البعيدة عن دوائر الثروة والنفوذ وتدفعها إما إلى اختيار طاعة الحاكم أو إلى العزوف عن الشأن العام. غير أن القمع مآله في المستقبل القريب تجريد الأغلبية من الخوف ذاته ما أن تعتاد على سلب الحرية والتعقب والتهديد وتدرك أن سبيل التغيير الوحيد هو المطالبة السلمية بإقرار الحقوق والحريات والتحول الديمقراطي التدريجي.


في المقابل، يفرض القمع على الحاكم ونخبة الحكم بارانويا الخوف، الخوف من مؤامرات متوهمة ومتآمرين مزعومين والخوف من غضب شعبي ظاهر أو كامن والخوف من التداعيات المجتمعية للمظالم والانتهاكات.


يتوطن في أروقة السلطوية الحاكمة الخوف من احتمالية إفلات المواطن من قبضتها، بينما تتحرر أغلبية المواطنين تدريجيا من خوفها وتعود إلى المطالبة بحقوقها وحرياتها.

عن صحيفة القدس العربي اللندنية
2
التعليقات (2)
رودوس خان
الأربعاء، 12-06-2019 09:51 ص
أنت لست صادقا بل خنت قيمة العدل عندما ساندت نظاما إنقلابيا فاشيا فاشلا ولم تطق صبرا على أول تجربة ديمقراطية في تاريخ مصر السياسي ونعم أتت بلإخوان المسلمين في الحكم رغم إختلافي مع منهجهم ولكن الممارسة الديمقراطية العادلة كانت تقتضي إكمالهم لفترتهم الرئاسية البالغة 4 سنوات ومن ثم كنا سنغيرهم بنفس صندوق الإنتخابات الذي أتوا عن طريقه , صوت الثورة المصرية الحرة أتى بدكتور مرسي للرئاسة لأن خصمه المقابل كان القذر شفيق لص حقبة مبارك . أنت لا تحترم عقل القاريء عندما تأتينا بكل صفاقة تتباكى على العدل وها قد أذلك النظام الإنقلابي الفاشي و جعلك تبكي كالثكلى فقط لكي تأتي لبلدك و تذهب ولو بدون ضوضاء . عالم منافقة
الصعيدي المصري
الثلاثاء، 11-06-2019 11:29 م
بعد الانقلاب العسكري الدموي في مصر على السلطة الشرعية التي مثلت إرادة الشعب .. انقسم داعموا الانقلاب ممن ( يطلق عليهم ) الإعلاميين والنخب والمثقفين والسياسيين على اختلاف توجهاتهم إلى 3 أقسام .. الأول هو من استمروا على دعمهم لنظام الانقلاب وهؤلاء قد حصلوا ومازالوا على اختلاف مواقعهم على امتيازات معينة من النظام الانقلابي العسكري . . النوع الثاني .. هم من ظنوا بأنفسهم بأنهم على قدر من الموضوعية والشجاعة وأرادوا أن يثبتوا ذلك – لفترة لم تطل – لمتابعيهم ومريديهم .. باعتبار أنهم انتقدوا وعارضوا بل ودعموا الانقلاب على السلطة المنتخبة لأنها حسب ما روجوا له كانت سلطة فاشلة – وهاهم لا يهابون الخروج عن الدائرة الخضراء التي حددها لهم حليفهم السلطان الجديد – فإذا بهم يفاجئون بأن اليوم غير الأمس .. فغيروا جلودهم ومنابرهم إلى برنامج ترفيه واكتشاف مواهب والبحث قي أصل مشكلة شيماء مع هيفاء .. أو برنامج آخر عن عصير الطماطم والأكل الصحي أو برنامج ثالث عن عصير الكتب بطعم أرشميدس و المنفلوطي و نجيب الريحاني وتاريخ الجبرتي .. أو حتى بعيدا عن وجع دماغ قد يتسبب في هلاكهم .. النوع الثالث .. هم بعض الأكاديميين والنخبجية والمتثوقفين .. ممن استمروا في التنظير لذات القيم والمبادئ والمواعظ التي انقلبوا عليها عمليا .. معتمدين .. ربما على الظن بأن كثير من قرائهم له ذاكرة السمك .. هذه الذاكرة التي تضع برزخا متضادا غير مفهوما لترجمة هذه المبادئ مرة في الواقع العملي الذي مارسه المنظرون - وأخرى على النقيض في صفحات كتب الدرس التي يدرسونها لطلابهم أو ينشروها في مقالاتهم وتحليلاتهم ..