أخبار ثقافية

الكنيسة المسيحية: صراع الدين والدولة (2-2)

من فيلم سقوط الإمبراطورية الرومانية- جيتي
من فيلم سقوط الإمبراطورية الرومانية- جيتي

في منتصف القرن الـ12، شهد شمال إيطاليا نشوء المدن الجمهورية المستقلة عمليا عن هيمنة الإمبراطورية وهيمنة البابوية.

غير أن هذه الجمهوريات الوليدة كانت من الضعف ما جعلها عرضة لتهديدات الإمبراطورية من أجل إعادتها إلى كنفها.

حاول فردريك بارباروس فور وصوله إلى عرش الإمبراطورية، السيطرة على شمال إيطاليا لإنهاء حكم الجمهوريات، ونجح بارباروس عام 1162 بالسيطرة على عدة مدن بينها ميلانو، لكن نجاحه دفع المدن الإيطالية للتوحد، فتأسس حلف لومبارديا الذي نجح في دحر قوات بارباروس ونشأ سلام كونستانس عام 1183.

ثم جاء فريدريك الثاني الذي حاول متابعة سياسة والده، حيث نجح عام 1236 بالسيطرة على عدة مدن إيطالية، ثم أوقع هزيمة بحلف لومبارديا عام 1237، لكن الحلف نجح عام 1248 بهزيمة الإمبراطور، وفي القرن الـ 14 حاول الأباطرة الألمان السيطرة على شمال إيطاليا لكن الحملة فشلت.

 

وقفت البابوية بقوة مع المدن الجمهورية في عهد البابا الكسندر الثالث بعد أن رفض الإمبراطور بارباروس تأييد صعوده إلى عرش البابوية عام 1159، وعندما أسست مدن لومبارديا حلفها عام 1167 قام الكسندر بتمويلها وتشجيعها على بناء مدينة منيعة في حينه سميت ألساندريا، وعندما تحرك الحلف ضد الإمبراطور عام 1174، قاد الكسندر الهجوم وهو الذي استهل المفاوضات التي توجت في سلم كونستانس عام 1183.

وقد أعيد بعث الحلف ذاته فيما بعد في وجه غزوات فريدريك الثاني في ثلاثينيات القرن الـ 13، وفي عام 1238 عقد غريغوري التاسع معاهدة مضادة للإمبراطورية مع مدينتي جنوى والبندقية، وفي العام الذي تلا أصدر حكما كنسيا ضد الإمبراطور، وجدد رسميا علاقته بحلف لومبارديا، وتابع خلفه إنوسنت الرابع السياسات ذاتها بعد انتخابه عام 1243 فاستعمل القوى البابوية لمهاجمة المواقع العسكرية للإمبراطورية في لومبارديا.

 

وجلب ذلك عقد هدنة مع الإمبراطور عام 1244 غير أن الذي حصل كان أن فريدريك الثاني أظهر علامات تدل على رغبته في تعديل الهدنة، ما دفع البابا إنوسنت الرابع إلى إصدار حرم كنسي بحقه وخلعه، ثم قام البابا بمواصلة الانتصارات العسكرية ما وضع نهاية للتدخل الإمبراطوري عام 1250.

ثم حاول مانفريد الابن غير الشرعي لفريدريك الثاني استعمال قاعدة سلطته كملك لنابولي كي يتابع تنفيذ خطط والده الخاصة بإيطاليا خلال الستينيات، فرد أوربان الرابع بحرمان مانفريد كنسيا عام 1263 ودعا تشارلز أنجو لمقاومته كبطل للكنيسة.

أيديولوجيات متضاربة

في هذه الأثناء لجأ الإمبراطور إلى فقهاء بولونيا لإمداده بالسلاح الفكري في مواجهة مد البابوية، وقد نصب باربروس حفيد فريدريك الثاني نفسه كوسيط يمكن من خلاله للحق السماوي أن يشع على الأرض، وكخالق للحق الأرضي، وكقانون حي / LEX ANIMATA.

مقابل ذلك، عمدت البابوية إلى تنقية وتوسيع الأساس القانوني للادعاء البابوي بممارسة ما اعتبر الكثير من السلطة الزمنية والروحية.

وكان الإطار الفكري لذلك التطور قد وضعه غراتيان 1140 عندما حول المراسم البابوية المجمعة إلى نظام ووضع قواعد القانون الكنسي.

أحبط البابا الكسندر الثالث تلميذ غراتيان محاولة بارباروسا تحويل الكنيسة إلى مجرد بطريركية في الإمبراطورية، وجاء بعده إينوسان الثالث تلميذ هوغوشيو الذي صار يعتبر المنافح الأهم عن النظرية القانونية الخاصة بالرئاسة البابوية في الشؤون الزمنية.

حرص إينوسان الثالث في تصريحه حين تنصيبه على القول: "وضعتك فوق الشعوب والممالك لكي تقتلع وتهدم، وأيضا لكي تبني وتزرع".

لا يعني ذلك أن إينوسان الثالث قد ألغى التمايز بين السلطتين، أو الاستقلال التام للسلطة الروحية، وإنما كان يعني الحفاظ للبابوية بحق سام وملازم لنيابة المسيح.

ومع وصول البابا إينوسان الرابع إلى سدة البابوية، بدأت مرحلة جديدة من الصراع الفكري الأيديولوجي مع الإمبراطورية، فإذا كان خضوع السلطة الزمنية للسلطة الروحية يكون ضمن شروط استثنائية متعلقة بالخطيئة كما كان الحال مع إينوسان الثالث، فإن الأمر مع إينوسان الرابع سيصبح مختلفا، إن الخضوع الاستثنائي هذا سيكون الحد الأدنى الذي يمكن أن تقبله البابوية.
 
بونيفاس الثامن/ فيليب الجميل

مع نهاية القرن الـ13 وبداية القرن الـ 14 كان على البابوية أن تواجه الصعود القوي للدولة الناشئة، وكانت فرنسا الدولة الصاعدة الأكثر قوة في أوروبا.

في عام 1269 أصدر ملك فرنسا لويس التاسع 1214 ـ 1270 المرسوم الشهير الذي عرف باسم الدستور العلمي الذي ينكر أحقية البابوية في ضرائب الكنيسة إلا بموافقة ملك فرنسا.

لم تنكر البابوية هذا المرسوم بسبب العلاقة الحميمة بين لويس التاسع والبابا، ولم يكن هدف المرسوم في ذاته محاربة البابوية في فرنسا، وإنما كان هدفه تنظيم وإصلاح الإكليروس.

لكن هذا المرسوم سيكون في ما بعد أداة بيد السلطة الزمنية لمحارة البابوية في فرنسا.

وفي عام 1297 أعلن ملك فرنسا فيليب الجميل 1268 ـ 1314 بأن الحكم الزمني في مملكته هو من اختصاصه وحده فقط.

إن الحق الإلهي في الحكم الزمني بدأ عمليا من هنا كرد فعل على الحق الإلهي للبابا.

كان الاستقلال الكلي للسلطة الزمنية يتطلب تدخلا من الدولة في سير المؤسسات الكنسية، فعليها أن تحدد بعناية ما كانت تعتبر أنه من حقها مراقبته واستخدامه لغاياتها الخاصة، وهي غايات قومية، وما كانت تقبل بتركه بكل استقلال للكنيسة الكلية.

إن هذه الأطروحة ستقلب الوضع الذي خلقته التيوقراطية البابوية رأسا على عقب، لأن الاستقلال الذي دعت له سينتهي من وجهة نظر الكنيسة، بخضوعها للدولة في مواضيع الأموال الكنسية والضرائب.

أرسل البابا بونيفاس الثامن 1230- 1303 رسالة حادة إلى الملك فيليب، فما كان من الأخير إلا إحراق كتب البابا، ثم قام بإرسال رسالة مضادة للبابا يذكره بدوره الحقيقي القائم على الوعظ فقط وليس الأمر والنهي.

وفي خطوة لتحصين نفسه، دعا الملك الفرنسي عام 1302 أشراف فرنسا وأساقفتها ونوابها لاجتماع مجلس الأمة العام، حصل من خلاله على تأكيد ممثلي الطبقات الثلاث، بأنه استمد مملكته من الله وحده.

لم يدرك البابا حجم التغيير الذي طرأ على القارة الأوروبية فتعامل مع الملك فيليب كما تعامل أسلافه مع الملوك قبل قرون.

ومع إصرار البابا على خطابه في تفوق السلطة الروحية، لجأ الملك فيليب إلى حسم الموقف، فأرسل ثلاثمئة جندي وجماعة من أشراف أسرة كولونا الإيطالية 
للقبض على البابا المقيم في قصره بـ أنانيي.

وفعلا دخل الجنود إلى مقره وأنهالوا عليه بالشتائم والإهانات ثم ألقوا القبض عليه، لكن أهالي أنانيي استطاعوا تخليص البابا من الجنود، وعاد البابا إلى قصره مكسورا، فقرر الانعزال عن الناس حتى وفاته.

ولم يكتف الملك فيليب الجميل بذلك، بل قام بسابقة في تاريخ الكنيسة الأوروبية، حيث أوصل إلى سدة البابوية البابا الفرنسي كليمانت الخامس 1264 ـ 1314 ومع تم نقل مقر البابوية لأول مرة من روما إلى أفينيون، وقد استمر عمل البابوية في فرنسا لمدة سبعين عاما، حيث توالى عليها ستة بابوات فرنسيون من بعده.
ومع وفاة فيليب الجميل تكون البابوية قد وصلت إلى أحط مرحلة في تاريخها، وتكون فرنسا في ذلك الوقت أول دولة أوروبية تخضع الكنيسة لسيطرتها التامة.

 

اقرأ أيضا: الكنيسة المسيحية: صراع الدين والدولة (1-2)

التعليقات (1)
morad alamdar
الثلاثاء، 03-12-2019 10:32 ص
سعت شيفرة دافنشي : إلى مقولة دعا إليها دافنشي دائماً : الجهل يعمي أبصارنا و يضللنا ، أيها البشر الفانون ، افتحوا أعينكم .. سر تعددت أسباب إخفائه ، يراه من يسعى إليه و يستحقه ، متسجداً في كل مكان ، في اللوحات و الكتب و المرسيقى ، حتى في الرسوم المتحركة و أفلام السينما الشعبية ، عن طريق رموز نلتفت إليها في أعمال دافنشي ، و بويتشيلّي ، و بوسان ، و بيرنيني و موتزارت و فيكتور هوجو ، التي همست سراً بقصة البحث عن الأنثى المقدسة المطرودة .. هذه القدسية تعيد إلى المرأة مكانتها ، و تنفي ما أُلصق بها عبر التاريخ ، و توضح رموزاً وضعها الناس بأنفسهم ، ثم اختلفوا عليها ، منذ العبادات الوثنية إلى الآن .. رموز استمرت و تغلغلت في جميع الأديان و أماكن العبادة و غيرها .. مثل النجمة الخماسية التي ترسم مسار كوكب الزهرة الإلهة فينوس ، كذلك النجمة السداسية التي ترمز إلى اتحاد المرأة القدح الرحم بالرجل السيف .. معتقدات انعكست على إبداعات المعلمين الأوائل ، بشكل موارب أو مباشر ، ورثها كل باحث رغب في الحقيقة ، و ينطبق هذا الوصف على الكاتب دان برون في روايته شيفرة دافنشي ، التي ترجمت إلى خمسين لغة ، و طبع منها حوالي ثمانية ملايين نسخة ، في محاولة لتوعية القارئ حول حقيقة التاريخ و أخطائه ، و تحريضه على البحث ، ليكون جديراً بالمعرفة التي سيحصل عليها .. و في النهاية يتم الخلط بين الوهم و الحقيقة ، بين الواقع و الحلم ، لكننا نتأكد من واقعيته فيما بعد .. كل هذ الألعاب تعيدنا إلى الحبكة البوليسية المشرقة .. و كما في الأفلام ، يتم إنقاذ البطل و البطلة قبل أن يقضي القاتل عليهما ، و تُحل الشيفرة ، مما يبرر النهاية السعيدة ، لكنه لا يبرر تراجع الكاتب عن بعض المواقف النقدية تجاه الكنيسة ، أو الجمعيات الدينية ، فنرى تبريرات تبرئ و تجمّل الدوافع ، و ينفي محاولة الكنيسة طمس الحقيقة ، أو التهديد بقتل ذرية المسيح !.. إن البحث عن الكأس المقدسة هو بحث هدفه الانحناء أمام رفات مريم الجدلية .. هو رحلة للصلاة عند قدمي الطرودة ، النثى المفقودة .. و اللافت هو أن جمعية سيون السرية ضمَّت ضمن أعضائها شخصيات نؤمن بها و بإبداعاتها ، مثل السير إسحق نيوتن و ساندرو بويشيلي و فكتور هوجو و ليونارد دافنشي .. مما يؤكد روحانية الموضوع و غناه و قدرته على تزويد هؤلاء المعلمين الكبار بمادة جديدة للفن .