كتاب عربي 21

أنا ومحمد منير.. في السياسة والصحافة والذي منه!

سليم عزوز
1300x600
1300x600
ليست هذه السطور في رثاء "صديق العمر" الصحفي المصري الراحل محمد منير؛ فقد كتبتها وهو على قيد الحياة، عندما تم اعتقاله، وبينما أنا في نهايتها تلقيت خبر الإفراج عنه، قبل أن يعود إلى سجن جديد، في مستشفى العجوزة، لإصابته بفيروس كورونا، وقد سحبوا منه هاتفه الجوال، في ظروف مريبة، وبدون مبرر طبي، لنتلقى بعد ذلك خبر وفاته. وفي الأولى والثانية وسواء بخبر الافراج عنه أو بخبر رحيله، وجدت أن المكتوب لا يعبر عن الظرف الراهن، لولا أنني أعدت قراءة المقال، فوجدته تأريخاً لجانب من الحياة السياسية والصحفية في مصر صاحبت بداية علاقتي بمحمد منير، تستحق أن تعرض على القارئ المطحون في الأحداث الجارية!

الفجر حاضراً:

أياما كثيرة كنت أستيقظ فيها من نومي، على جرس الهاتف، ولم يخطئ توقعي أبداً، بأن "محمد منير" على الطرف الثاني:

صباح الخير يا أبو جودة.

صباح الخير يا منير!

لا يسأل "منير" إن كان قد أيقظني باتصاله من النوم، ولا يعتذر عن هذا أبداً، وإن كنت لا أعرف من هو "جودة" الذي تفرد بمناداتي بأني أبوه، فليس مشتقاً من أي اسم لي ولو لسابع جد. وفي البداية لم أكن أستسيغ ذلك، وفكرت أكثر من مرة أن أساله عن "جودة" هذا.. ليشعر بأنني لا أستملح مناداتي به، لكني تراجعت مخافة أن أكون كمن يحمل الأمور أكثر مما تحتمل.

كان هذا في بداية صداقتنا، ثم اعتدت على ذلك منه، لأستمتع بمكالمة طويلة، هي بالنسبة لي على الريق، لكنها بالنسبة له ليست كذلك، فهو يحرص رغم أنه من أهل اليسار على أن يصلي الفجر حاضراً، ولم يجد في ممارسته للطقوس الدينية ما يتناقض مع ماركسيته، ربما لأنه ليس محدث ماركسية، فيدفعه التباهي إلى الطعن في الأديان، أو النفور من الشعائر الدينية، كما يفعل البعض الآن، ربما ليؤكدوا أنهم مع خلاف مع التدين. ولم يكن "محمد منير" على رأسه بطحة، فقد بدأ حياته يسارياً، وشارك في تأسيس خلايا شيوعية، وطورد أمنياً بسبب ذلك، وتم اعتقاله أكثر من مرة بسبب هذا الانتماء!

قلت له إنه يذكرني برئيس تحرير راحل لجريدة "الأحرار"، كان يصلي الفجر حاضراً مثله، ثم يبدأ مراجعة المادة الصحفية الخاصة بالعدد، ولم يكن محظوظاً من كان في هذه الفترة المبكرة عنده هاتف في منزله، فهو يتصل ليوقظه من النوم، ليسأل سؤال المستيقظ الذي نام حتى الشبع، عن تفاصيل في موضوعه. إذ كان يعتقد أن الجميع لا بد أن يكونوا مثله ينامون مبكراً ويستيقظون مبكراً. وكذلك محمد منير، الذي لم يكن ينام مبكراً، ولا نعرف متى ينام، ومتى يتوقف عن الأكل. وهو مبدع في الطهي، ويتفنن في اختراع الأكلات التي ينفذها غالباً بنفسه، وعندما ينصحه الناصحون بأن يتوقف عن ذلك حفاظاً على صحته، يأتي الرد مسكوناً بلامبالاة، وقبل أن يفتح الطبيب فمه، يقول له مسموح لك بأي نصيحة إلا نصيحة "خس"، حتى بعد أن كبر في السن وكثرة أمراضه، بسبب ذلك وبسبب السمنة المفرطة أيضاً.

البداية:

لقد بدأت صداقتي بمحمد منير منذ أكثر من عشرين عاما، وكنت قبل هذا أعرفه، لكن العلاقة ربما كانت أوثق على نحو ما بشقيقه الأكبر "حازم منير"، الصحفي أيضاً بجريدة "الأهالي"، وهي نفس الصحيفة التي بدأ "محمد" العمل بها، وفيها كانت البداية!

إذ تلقيت اتصالاً هاتفياً من أحد الزملاء الأصدقاء الذين يعملون في جريدة "الأهالي" يفيد دخوله في اعتصام بمقر الجريدة في شارع كريم الدولة، من شارع طلعت حرب بوسط القاهرة، فغادرت مكتبي على الفور واصطحبت ثلاثة من زملائي بجريدة "الأحرار"، وهناك وجدت زملاء في "الأهالي" يحيطون بالصديق وكان من بينهم "محمد منير" وهم يحاولون إقناعه بأن يُعرض عن هذا. وإذ بدأت الكلام معه بصوت خافت، فقد غادروا المكان، وفهمت الموضوع، والذي يدخل في دائرة المشتبهات في العمل الصحفي، فالحرام بين والحلال بين!

لقد سافر الصديق مع الوفد الإعلامي إلى باريس، بدعوة من وزير الإعلام حينذاك صفوت الشريف، لتغطية حدث إطلاق القمر المصري "نايل سات"، ولأن دور الصحفي في مثل هذا النشاط يكون أقرب إلى عمل موظف العلاقات العامة، مهمته الترويج للإنجاز والاحتفاء به، وهو يستحق الترويج والاحتفاء، ففي المؤتمر الصحفي أثقل صاحبنا على الوزير بالأسئلة، حتى أزعجه، فلما كان موعد السفر للمهمة التالية لنفس الموضوع، طلب من رئيس تحرير الأهالي "نبيل زكي" أن يرشح له صحفياً بديلاً لهذا الذي أزعجه، وعلى أثر هذا ثار صاحبنا وهاج وماج وقرر الاعتصام والإضراب عن الطعام، وكان رأيه أن هذا تدخلاً من الوزير في أمر خاص بالجريدة. وعبثاً حاولت إقناعه بأن الأمر ليس على هذا النحو، فما دار بينه وبين رئيس التحرير لم نسمع به ويمكن أن ينكره، وأنه استخدم سلطته التقديرية في تكليف من يريد، وهو ما ذكره لي أنا شخصياً. لقد سافر مرة فمن حق زميل آخر أن يسافر، دون الإشارة إلى أن الوزير هو طلب هذا!

كان صديقي ليس معيناً في الجريدة على النحو الذي يطلق يد الإدارة في التعامل معه، وهو ما خشيت منه فعلاً، ورغم أنه ينتمي فكرا لليسار، إلا أنه بعيد عن تنظيماتهم، وهو ما أفقده القدرة على التعامل، وكان يبني آماله على أن الدكتور رفعت السعيد، رئيس مجلس إدارة "الأهالي"، سينصفه عندما يعود من سفره للإسكندرية، وكان رأيي أنه هنا يعامل اليسار بنفس أسلحتهم التي يستخدمونها في مواجهة السلطة: "الاعتصام، والإضراب"، وهو أمر لن يقبلونه منه أو يغفرونه له!

- إن هؤلاء القوم يا صديقي هم من اخترعوا الاعتصامات والإضرابات، فلن يجدي معهم استخدام نفس هذه الأسلحة في مواجهتهم!

أنا طبيب:

وفشلت في إقناعه بضرورة فض الاعتصام، حتى يترك مجالاً للحوار مع "رفعت السعيد" عند عودته، لأن إعلان الاعتصام والإضراب في غيابه قد يكون سبباً في خسارته للتعاطف. وهنا سيطرت علي فكرة ضرورة إخراجه من هنا بأي شكل، ولم أكد أعطي إشارة لزملائي الشبان، حتى استشعر هو ذلك فدخل في حالة هيسترية قبل أن يدعي أنه أغمى عليه وأمسك بالمكتب، وهنا تدخل "محمد منير" بكل هيلمانه الجسدي، وهو يقول:

- ألا وقد وصل لهذه الحالة، فهذا تخصصي فأنا طبيب حاصل على ليسانس آداب!

فأضحكنا في هذا الجو العصيب، وبالفعل لمسه بشكل معين، فتبين فعلاً أنه لم يغم عليه، لكنه عاد يطلب سيارة الإسعاف، وكان من الواضح عنه بلا خبرة في تقاليد الإضراب عن الطعام، فظن أنه يمكن أن يذهب للمستشفى وهناك يعلن الاضراب، وأفهمته أن الانتقال للمستشفى لا يكون للإضراب ولكن لإنقاذ حياة المُضرب بعد أن يكون قد هدّه التعب والجوع!

ومرة أخرى يدخل منير على الخط:

- غال والطلب رخيص، وبدأ في الاتصال بسيارة الإسعاف، وهو يقول وهذا أيضاً تخصصي!

فمنير كان يعمل حينئذ محرر شؤون وزارة الصحة بجريدة "الأهالي". وقد غادرت المكان غاضبا قبل وصول سيارة الإسعاف ولم أضحك هذه المرة!

وركب منير مع زميلنا الذي تمدد في وضع الميت، وبعد الفحوصات اللازمة والمبالغ فيها بمستشفى الهلال، بحكم وجود محرر يغطي أخبار وزارة الصحة، قالوا له لا شأن لنا بإضرابك، لكن ما يعنينا هو أن حالتك الصحية لا تستدعي أن تبقى في المستشفى!

وكنا في نهاية اليوم، واستغلوا في "الأهالي" نقله للمستشفى وأغلقوا مقر الجريدة، ولم يعد إليها معتصماً، فقد أحال الملف للدكتور رفعت السعيد، الذي أخبره بأن الصبر عند الصدمة الأولى، وما كان له أن يفعل ما فعل في غيابه، ولو كان يحمل له تقديراً فعلاً لما أحدث كل هذه المشكلة!

مع وزير الصحة:

وكان هذا بداية علاقة صداقة مع محمد منير أعتز بها، وقد توثقت بشكل كبير عندما اتصل بي بعد أيام من أمام مستشفى التأمين الصحي بالدقي، ليخبرني بمشكلة تعرض لها وشقيقه "حازم منير" في المستشفى، على يد مديره الذي من الواضح أنه صاحب نفوذ، جعله لا يلقي بالاً لوجود اثنين من الصحفيين، أحدهما يقوم بتغطية أخبار وزارة الصحة!

وكان ما جرى معهما هو موضوع زاويتي اليومية في صباح اليوم التالي، وما أن قرأ وزير الصحة الدكتور إسماعيل سلام المقال في "التوزيع المسائي"، حتى اتصل بمحمد منير يطلب منه الحضور لمكتبه صباحاً، لتكون المفاجأة في وجود مدير المستشفى في مكتب السكرتارية ويدخلا معا على الوزير، الذي طلب من " منير" أن يقول ما جرى، فلما حكى ما حدث من مدير المستشفى وكان في أدائه بعض الخشونة والرعونة، قرر الوزير نقله على الفور وإحالته للتحقيق، ثم طلب منه أن ينصرف "بدون مطرود".

وطلب الوزير من السكرتارية ألا تسمح بدخول أحد ولا تحيل إليه تليفونات، وتتركه مع منير:

- معك حق مئة في المائة، وسوف أنكل لك به.

- أنا لا أريدك أن تنكل به!

- مش شغلك، فهذا ليس سلوك طبيب مسؤول، فأكيد أنه يتعامل مع المرضى بهذا الشكل، وليس من بينهم من يعرف سليم عزوز!

وهنا أدرك محمد منير أن ذكر اسمي في الموضوع، خلفه بواعث أخرى، فإسماعيل سلام هو واحد من الوزراء السياسيين الأذكياء. وقد أردف:

- قل لي يا "موني"، من اتصل بسليم عزوز أنت أم حازم؟!

فلما أخبره بأنه من اتصل وليس شقيقه، لمعت عينا الوزير!

- ولماذا سليم عزوز؟.. هل اتصلت بأحد غيره من الصحفيين، أم أنه لا يوجد صحفي زميل تعرفه غير سليم عزوز؟!

هنا استشعر "منير" أنه في حالة استدراج غير طبيعي، فقال للوزير بطريقته الساخرة المعروفة عنه، وهو يتحرك بكل جسمه ويستخدم يديه:

- قل لي يا معالي الوزير، هو سليم عزوز قتل السادات، ماذا هناك من كل هذه الأسئلة التي موضوعها سليم عزوز؟!

وربما شعر الوزير هنا بمنطقية سؤال منير، وأن أسئلته تدفع للريبة، فضحك وانتقل للحديث في موضوعات أخرى!

خرج منير من هذا اللقاء ليتصل بي ويسألني ساخراً:

- إيه حكايتك مع إسماعيل سلام؟؟.. هو أنت قتلت أمه؟!

قصة رامي لكح:

ثم روى لي ما حدث، لأخبره بما لم يحط به علماً، فقد كنت في هذه الفترة اكتب ضد رجل الأعمال رامي لكح، عضو مجلس الشعب، الذي صدرت ضده عشرات الأحكام القضائية بإسقاط عضويته بمجلس الشعب، فلم يتم تنفيذها (تم التنفيذ في وقت لاحق) وذلك لأنه مزدوج الجنسية، وكان مسنوداً وقتها من أهل الحكم، رغم أن المنافس له ومن صدرت لصالحه هذه الأحكام هو مرشح الحزب الوطني والوزير السابق، عبد الأحد جمال الدين!

وكانت وزارة الصحة قد أوكلت إلى شركة "لكح جروب" بالإسناد المباشر، عملية مستشفيات اليوم الواحد على مستوى الجمهورية "تسليم مفتاح"، وكان هذا جزءاً من حملتي عليه، لكني لم أكن أستهدف الوزير لشخصه، بالشكل الذي ربما اعتقده عندما كتبت عن واقعة مستشفى الدقي! وبدليل أنني قبلت "عزومته" في منزله الريفي بمحافظة المنوفية، في دعوة شملت كل قيادات الجريدة، وهناك وقفت على ذكاء الرجل وألمعيته!

كان يطلعنا على حديقة المنزل، عندما أشار لإحدى الأشجار، وهو يطلب مني أن أعد أفرعها، ولم أفعل ولم يكن ينتظر أن أفعل، فقد واصل حديثه:

- إنه نوع من الشجر ينبت له في كل عام فرع.

 وضغط الدكتور صلاح قبضايا، رئيس التحرير حينها، على يدي، وهو يبدو كما لو كان يقول سراً لكن صوته كان مسموعا:

- يريد أن يقول لك إنه هذا البيت من قبل أن يكون وزيراً.

وبعد أن تناولنا الغداء ثم جلسنا نحتسي الشاي في الحديقة، انطلق الوزير بدون طلب أو سؤال ليتحدث عن رامي لكح، وكيف أنه شاب ناجح كرجل أعمال وقد أخبره أن السياسة ستفسده وتنهيه، لكنه يصر على أن يكون عضوا بمجلس الشعب. ثم خطى بذكائه خطوة للأمام، وهو يقول إنه لم يكن يعرفه، وأول مرة شاهده فيها كان في افتتاح واحد من مستشفيات اليوم الواحد، وكان الرئيس مبارك حاضراً، وأن من تقدم إليه وكان يرتدي شورت (هكذا قال) هذا الشاب السمين الذي صافح الريس، وكنت أظنه أحد المهندسين لأنه كان يعمل بيديه مع العمال وآثار التراب عليه، قبل أن يضع الرئيس يده على عينيه وينظر بعيداً:

- رامي.. أليس مشيل من هناك؟!.. ثم نادى عليه أن يحضر!

وقال الوزير: إنه في هذا اليوم فقط عرف إنه هذا رامي لكح، القائم على المشروع، وأن مشيل هذا شقيقه!

ومرة أخرى يتدخل الدكتور صلاح قبضايا، ويقول:

- يريد أن يقول لك إنه لا شأن له برامي لكح فرامي تبع الريس!

وكان الدكتور قبضايا يجلس بجانب الوزير، ولم يكن الأمر يمكن تجاهله بحجة أنه لم يسمعه كما الحديث عن الشجرة وفروعها، ولأننا ضحكنا من هذا التوضيح، لكن الدكتور سلام تصرف كما لو كان لم يسمع شيئاً.

ولا يزال منير، لأنه تعامل مع إسماعيل سلام عن قرب، يحمل له تقديرا خاصاً، ويعترف بقدراته الإدارية والسياسية، فهو يعرفه عن قرب بحكم عمله، وقد التقينا أنا ومنير بعد حديث الوزير عني وصرنا صديقين بدون تخطيط، إنها الكيمياء التي جمعتنا.

مواقف مع زملاء:

لقد تربى "منير" في حي العجوزة الشعبي، فطبع آثاره عليه، فهو ابن البلد الجدع، "وصاحب صاحبه"، ويقيم وينحاز للناس بدون النظر للانحيازات الفكرية، وإذا تبني قضية أحد لمجرد أن هذا طلب من صديق له، فإنه يتبناها كما لو كانت قضيته الخاصة، ويتحرك بكل ثقله وعلاقاته وحضوره الشخصي لدى من لا تربطه بهم علاقة، حتى ينتصر له. وكثيرا ما استدعاني لمعارك لأناس علاقتي بهم سطحية، ويقول لي يثاب المرء رغم أنفه، لأرد عليه بأنني لست واثقاً من أن هذه "الطلعة" سيأتي من ورائها ثوابا لأني قمت بها من أجلك أنت.

كان يعمل في إحدى الصحف الجديدة، وقد أُبلغ أمامه اثنان من الصحفيين بالاستغناء عنهما، فثار ثورة عارمة، وغادر وقال إنه لن يعود. ولأنها صحيفة يسارية فقد خشوا من أن يشنّع عليهم، بأنهم يجورون على حقوق العمال، فتراجعوا عن قرارهم لكن "منير" خرج ولم يعد. وظللنا لفترة طويلة نتندر على هذا الموقف، وأنا أطلب منه ألا يندفع فيقف مع أنذال، لم يطالبوا حتى برجوعه، وقد استقال بسببهما، لكنه يأخذ الأمر ببساطة وهو يقول: أنا أصلاً عقدت العزم على أن اترك المكان!

وفي صحيفة أخرى، انحاز لصحفية متدربة في الحصول على حقوقها، كانت مشكلتها أنها ناصرت زميلة لها ضد رئيس التحرير، ولأنه في هذه المعارك يمثل غير النقابيين أهدافا للافتراس وإرسال الرسائل، ولأن هذه الصحفية كانت الجريدة قد أرسلت للنقابة خطابا بطلب قيدها ولم تنعقد لجنة القيد بعد، مما سهل لرئيس التحرير سحب الطلب الموقع منه. ورغم أن مصلحة منير مع الإدارة، إلا أنه حولها إلى معركة خاصة، ودفع بها للقيد عبر لجنة التظلمات بمحكمة الاستئناف، والتي تظل لسنوات أمامها الطلبات لا يُفصل فيها لأنه يشترط لانعقادها حضور اثنين من أعضاء المجلس يتم اختيارهما كل عام، وغالبا ما يتغيبون فلا تنعقد جلساتها!

لكنه ضغط عليهما للحضور، ومبكرا وصل إلى منزلي لاصطحابي معه في هذه المهمة القومية، وأنا أقول له إنها زميلتك أنت.. وأنا لا أعرفها حتى شكلاً.

- ستراها في المحكمة.. بنت جدعة.. اعمل ثواب واحد في حياتك، ثم لا بد أن نقف مع الشباب حتى لا تكسرهم الإدارة في بداية رحلتهم مع العمل!

- وما لي أنا يا منير، أنت وهي من الطبقة العاملة، أنا من الإدارة!

- يا بو جودة، نريد أن نقربك من الطبقة العاملة بشكل عملي لتتعرف عليها!

في المحكمة انتظرنا حتى حضر عضوا المجلس، أمسكنا بهما: هذا الموضوع ينتهي اليوم. وفي الجلسة الأولى لها صدر الحكم بقيدها، وبشكل ليس متوقعا، لتقيد في النقابة قبل انعقاد الجلسة الطبيعية لقيد زملائها، وكان يوم عيد ولا أنسى فرحتها وفرحة والدها الذي كان يقف معنا، وقد أوقع هزيمة كبرى بذلك برئيس التحرير الذي يعمل هو تحت رئاسته والذي لم يحتمل مواقفه في النهاية، فلم يجدد له التعاقد بعد خروجه على المعاش!

ضد رفعت السعيد:

وكان قد أقيل من الصحيفة التي بدأ العمل فيها وهي "الأهالي" لتبنيه حقوق العمال بصفته عضو مجلس الإدارة المنتخب منهم، وعلى غير رغبة الإدارة، ثم قاد معركة طويلة ضد رفعت السعيد، رئيس مجلس الإدارة ورئيس حزب التجمع، في نقابة الصحفيين، رغم إدراكه أنه في حماية السلطة التي تعينه عضواً في مجلس الشورى بقرار رئاسي!

وكان طبيعياً أن تستدعي النقابة رفعت السعيد للتحقيق معه بصفته عضواً فيها ولا يجوز له توقيع العقوبة بالفصل على زميل له، لكنه تعالى على النقابة فلم يحضر أي من جلسات التحقيق. وجاء مكرم محمد أحمد نقيباً للصحفيين، وسأل عن الملف المرحل من النقيب السابق، فاختفى في ظروف غامضة، واتهم مكرم السكرتير العام "حاتم زكريا" بتعمد إخفاء الملف، وتجاوز في حقه أمامنا، وظهر الملف واستكمل الإجراءات، فلما لم يحضر رفعت السعيد تم شطبه من عضوية النقابة في لحظة غضب من مكرم الذي اتخذ هذا القرار الذي لا يستطيع غيره اتخاذه ولو مع محرر صغير، وهي واقعة لم تحدث من قبل إلا مرة واحدة وفي وقائع مختلفة!

وفي الانتخابات التالية، غلبت على "منير "أيديولوجيته، فناصر "ضياء رشوان" المرشح المنافس لمكرم محمد أحمد. وكنت أقول له إن هذا تصرف لا يليق بك، فالرجل الذي شطب من ظلمه هو مكرم، وكان يقول لي إنها إجراءات بدأت في عهد جلال عارف النقيب السابق، فأرد عليه إن كل النقباء على مدى تاريخ النقابة لا يمكنهم أن يتخذوا هذا القرار إلا مكرم، وهو قرار كان مخالفاً للقانون بلا شك!

كنت أنا في هذه الانتخابات مع مكرم محمد أحمد، وكنا في الانتخابات السابقة معا مع رجائي الميرغني ضد مكرم. وسواء كنا معا، أو كنا نؤيد مرشحين متنافسين، فإن هذا لا يغير من علاقاتنا. صحيح أن هذا سلوك تتسم به الجماعة الصحفية، لكن قوة علاقاتنا بالإضافة إلى هذا، لا تسمح للخلاف السياسي أو اختلاف المواقف أن يهزها، فقد وجدت فيه الإنسان الشهم، وهذه عملة نادرة في هذا الزمان، ثم إنني لا أقيم صداقتي على وحدة الفكر والأيديولوجيا.

موت رفعت السعيد:

وبدا رفعت السعيد متعالياً على عضوية النقابة، التي حصل عليها عندما كان مديراً لمكتب رئيس مجلس إدارة أخبار اليوم، وأحد الضباط الأحرار، خالد محيي الدين، بعد ثورة 1952 وإن لم يمارس الصحافة بالمعنى الاحترافي، لكن هو الآن على قمة الهرم السياسي في مصر، فلا تعنيه عضوية نقابة الصحفيين.

ولم يكن هذا صحيحاً، فقد طعن في قرار فصله، ولم ينتبه أحد لذلك إلا بعد سنوات عدة، وبعد الانقلاب العسكري، وحصل بالفعل على حكم باسترداد عضويته، وكان متحمساً لتنفيذ الحكم. واتصل بي محمد منير من القاهرة وأنا في الدوحة غاضباً، وكأن أمراً جللا قد وقع: لقد "والس المستشار القانوني للنقابة" مع رفعت السعيد. ومن الواضح أنه لم يقدم مرافعة جادة، ممثلاً للنقابة، حتى يفاجئنا بحكم قضائي لصالح رفعت السعيد، وكيف أن السكرتير العام للنقابة "حاتم زكريا" قال له إنه سينفذ الحكم، وهو بعينه الذي اتهمه مكرم محمد أحمد بأنه أخفى الملف من قبل!

ولأن السكرتير العام حاتم زكريا ليس معروفا عنه أنه على علاقة برفعت السعيد، فمن المؤكد أن الأمن الذي طلب منه ذلك!

هذا كلام مردود عليه، بأن الأمن الآن لا يمكن أن يكون مشغولاً بعضوية رفعت السعيد في نقابة الصحفيين، كما أن حصوله على الحكم بإلغاء قرار فصله صحيح من الناحية القانونية، فشطبه تم بالمخالفة للقانون وهو رأيي منذ البداية!

لكن عندما يكون منير في هذه الحالة، فلا يكون أمامي إلا أن أسايره، وحتى لا أقول شيئا ضد قناعاتي عن الأمن واهتماماته، وحاتم وسعيه لتنفيذ الحكم استجابة لأوامر من الأجهزة الأمنية، فقد انشغلت بكيف أن رفعت السعيد مشغول بعضوية للنقابة ولن تضيف له، ولا تمثل له أي قيمة.. هل يطمع في بدل التدريب والتكنولوجيا؟!

كنت أعمل من أجل أن آخذه بعيداً عن حالة الغضب التي تتملكه، وقد فشلت في إفهامه بأنه ينبغي الآن أن يفكر في أن الأمر لم يعد يشغله، لكنه كان غاضبا وفي ثورة عارمة!

فذهبت أبحث له عن ثغرة قانونية في الحكم، وأروي له الإجراءات التي يتعين عليه اتخاذها، ويبدو أنه لم يستوعبها، فأخبرني بأنه عندما يذهب للمحامي في الغد سيتصل بي لكي أعرض عليه ذلك!

وفي اليوم التالي تلقيت اتصالاً هاتفياً منه، فظننت أنه يتحدث وبجواره المحامي كما اتفقنا، ولم أكد افتح الهاتف حتى فاجأني بقوله:

- سليم، رفعت السعيد مات!

وسكت لأستوعب إن كان جاداً فيما يقول، لكنه عاد ليقسم بأن رفعت السعيد مات، وضبطتني أضحك على تراتيب القدر، لكنه لم يجارني في الضحك، فقد كان حزينا ومتألما!.. كنت أضحك لهذه المفارقات الغريبة!

إنه طفل إذا غضب وإذا رضي، وإذا أحب وإذا كره، وإذا تحمس وإذا فتر، وهو عندما يتخذ موقفاً ضد أحد فهو ينساه عند أول لقاء، لا سيما مع أصدقائه التاريخيين، يخاصم يحيى قلاش، نقيب الصحفيين السابق، ويظل يحدثني عن موضوعية الخصومة، فأطلب منه أن يتمسك بهذا الموقف عند الانتخابات القادمة، لكنه عند الانتخابات يندفع في تأييده، ويطلب مني التأييد، وتفشل كل محاولاتي لتذكيره بموقفه القديم، كأنه لم يتخذه:

- اثبت على موقف يا منير، لقد رفضت كل دفوعي عنه في السابق!

فيأخذني بعيدا:

- أنت لا تحب يحيى، اعترف!

ويعود ليذكرني بأنني أكره كل الأيديولوجيين. وهذا ليس صحيحاً، بدليل أنه صديقي، وأيديولوجيته فاقع لونها عن يحيى قلاش الناصري، الذي هو نقابي أكثر منه سياسي أو ناصري!

طرد مكرم:

ومع أنه لم يكن مع "مكرم" في هذه الانتخابات، لم يكمل فيها دورته وقامت الثورة، ومع أنه صديق لقلاش، إلا أنه وقف معي في الموقف من عموم الأيديولوجيين مع مكرم في واقعة طرده من النقابة!

لقد تصورت جماعة اليسار في النقابة، أن الثورة فرصة لفرض واقع جديدا نقابياً، فلم يكد يتنحى مبارك حتى كانت دعوتهم لجمعية عمومية تسحب الثقة من النقيب الذي ينتمي لزمن مبارك، مع أنه لا يوجد نص قانوني يبيح عملية سحب الثقة هذه، أو ينظمها، وليس هذا من سلطة الجمعية العمومية في الدور الانعقاد الطبيعي أو الطارئ، لكنه الاستناد إلى الشرعية الثورية التي يعرفها اليسار جيداً، من التجربة الناصرية، لكن كانت المفاجأة أن الجمعية لم تكتمل، مع كل هذا الزخم الثوري!

وحدث أن قتل الصحفي أحمد محمد محمود في أيام الثورة، إذ تم قنصه وهو يقوم بتصوير أحداث الثورة، وتقرر أن تتحرك جنازته من النقابة، وبينما كنا في انتظار التوقيت المحدد ونقف في بهو النقابة، كان مكرم محمد أحمد يتحدث مع زوجة الفقيد وهي صحفية أيضاً، عن الترتيبات التي تحدث بها مع مسؤولين في الدولة، وعن صرف تعويض عاجل وإقرار معاش كبير، وأن النقابة ستقدم دعماً مالياً للأسرة. ولأن الغرض مرض، فقد اندفع الصحفي اليساري "كارم يحيي" ليطلب منه التوقف عن هذا "الكلام الفارغ"، فهذا ليس وقته، وليس معلوما من يحدد الوقت، وزوجة الزميل وابنته لم يقررا هذا!

وعلى إثر هذا دفع الصحفي الناصري "محمد بسيوني" مكرم محمد أحمد بيده، والذي كان يقف على سلالم داخلية فكاد أن يقع، ووجدها الحاضرون فرصة لطرده بالهتاف ضده. ورغم أن يحيى قلاش، السكرتير العام، كان مع هذه الحملة، فقد كنت أنا ومحمد منير من قدنا جبهة الرفض تجاه هذا التصرف غير الأخلاقي، وهذه الإهانة التي تلحق بنقيب الصحفيين، وربما لم تحدث سوى مرة واحدة، عندما هرولت "تحية عبد الوهاب"، الصحفية اليسارية بمجلة "روزا اليوسف" ووالدة المذيع "يوسف الحسيني"، خلف النقيب صلاح جلال وهو يغادر مقر النقابة ولحقت به في الشارع وضربته بحذائها، بعد إعلان فوزه بمنصب النقيب ذات انتخابات في نهاية السبعينيات!

وأخذ "بسيوني" يبرر أنه لم يقصد دفع النقيب، غاية ما الأمر أنه لمسه بيده بدون قصد، ولأنه كان يقف على حرف الدرج فقد كاد أن يسقط، لكن تبريراته ليس لها معنى مع هذا الهتاف ضد "مكرم": بره. وقد تحول الفعل غير اللائق في الظروف العادية، إلى أمر يستحق التقدير في ظل هذا الهتاف الهادر، وانسحب مكرم محمد أحمد فعلا.. وامتنع عن الحضور للنقابة، ووجد القوم من أهل اليسار فرصة لتصعيد أحدهم ليقوم بأعمال النقيب، لكن وكما يقول المثل "عملت الخائبة للغائبة"، فعند التنفيذ ظهر وكيل أول النقابة صلاح عبد المقصود (وزير الإعلام فيما بعد) وطلب الاحتكام إلى قانون النقابة، فمن يحل محل النقيب هو الوكيل الأول، وكان له ما أراد!

وعلى كل، فقد عاد النقيب إلى النقابة بعد أكثر من عامين من هذه الواقعة، ليس ليشغل موقع النقيب، فقد حل موعد الانتخابات الجديدة واختير لموقع النقيب ممدوح الولي، تلاه ضياء رشوان، فقد جاء لتكريمه من الذين سبق لهم أن هتفوا ضده: "بره"، وكان هذا بعد أن تعرض له الرئيس مرسي في خطابه وذكره باسمه متسائلاً باستنكار إن كان ينتمي للثورة؟!

وعلى سلالم النقابة كان الاستقبال الحاشد، من باب "المكايدة السياسية"، وما أن رأوه حتى كان الهتاف: "الصحافة فين النقيب أهوه"!

شيوعي أصيل:

لقد انخرط محمد منير مبكراً في التنظيمات الشيوعية، وانضم وشكل خلايا، واعتقل ووجهت اليه الاتهامات التي كانت تدور حول هذا الانتماء، وشارك في مظاهرات ضد إسرائيل، ووجهت له النيابة الاتهام بالعمل على الإساءة للعلاقات مع "دولة صديقة" هي إسرائيل، ليفاجئ المحقق بأن أعضاء هيئة الدفاع وكانوا من المحامين الكبار؛ يقدمون هوياتهم الشخصية ويعلنون تضامنهم مع "المتهمين" في ذلك، ويطلبون معاملتهم بالمثل بتوجيه الاتهام إليهم. وهنا ارتج على المحقق، الذي تراجع عن الاتهام، بعد خروجه من مكتبه وعودته، بما يعني أنه عرض الأمر على المحامي العام، والذي ربما استشعر أنه أمام اتهام ورطة!

وقد تعرض طالبا للمطاردات الأمنية، ولا يخلو الأمر من فكاهة، فذات يوم كان الأمن يطارده، فوجد أتوبيسا مزدحما أمام جامعة القاهرة، فصعد اليه محتمياً في الجماهير التي يدافع عنها، وعن حقوقها، لكن الجماهير خذلته، فهي التي أمسكت به وسلمته لأفراد الشرطة الذين صعدوا خلفه وكانوا يبحثون عنه في الزحام، وقد اختلط بالركاب!

ولأنه في أزمة رفعت السعيد اتهم المستشار القانوني لنقابة الصحفيين المحامي سيد أبو زيد بالتواطؤ، لأنه عضو في حزب التجمع، وبدا الرجل غاضبا لهذا الاتهام، وهو يقول بغضب ولهجة ريفية (هو من بني سويف) إنه زعيم محمد منير السياسي في زمن التنظيمات الشيوعية. وضحك منير وهو يقول إنه كان عضواً معه في خلية ولم يكن زعيمه، ثم روى كيف أنهما هربا من الأمن الذي كان يبحث عنهما، وعاشا يتنقلان بين الحقول، ويعيشان على الخبز الجاف، يبلونه بقطرات الماء. وبعد أن بلغ بهما التعب مبلغه، كان القرار بعد شهر من الهروب أن يسجنا فذلك أفضل من هذا الهروب، ليفاجآ بأنهما ليسا مطلوبين على ذمة أي قضية، وبدا الأمن كما لو كان في دهشة منهم وهما يسلمان نفسيهما: من قال لكما إنكما مطلوبان؟!

ويروي منير كيف أن والده رحمه الله كان يتعامل معه بعدم اكتراث.. لقد دُق جرس الباب ذات يوم، وفتح الوالد، ولم يهتم لوجود عدد من رجال الأمن، فقد عاد يتابع فيلم "صراع في الوادي". سأل الضابط قائد الحملة:

- أين محمد؟!

لكن الأب الذي بدا كما لو كان لا يريد لمشهد في الفيلم أن يفوته:

- محمد في الحجرة التي على يمينك، وحازم في الحجرة على اليسار انظر من تريد (هكذا بدون اهتمام)!

فحازم أيضاً لنفس الانتماء السياسي قد يكون مطلوباً أيضاً، وقد يكون الأمر مختلطا على الضابط فجاء لحازم وسأل عن محمد، ولا يريد أن تشغله القوة بمثل هذه الأخطاء. وقد كان حازم بعد ذلك من اليسار، الذي اقترب من السلطة، وزعيمهم في هذا هو رفعت السعيد، الذي سلم حزب التجمع للنظام "تسليم مفتاح"، مستغلاً علاقته التاريخية بالزعيم خالد محيي الدين، وهو اقتراب كان من ثمرته تعيين رفعت السعيد عضواً في مجلس الشورى حتى حله، وتزوير انتخابات مجلس الشعب لصالح خالد محيي الدين، لدورتين، وفشلوا في التزوير في الثالثة في سنة 2005 لينجح مرشح الإخوان المنافس!

وقد يندهش المرء من أن خالد محيي الدين، أحد الضباط الأحرار، الذي اختلف مبكرا مع عبد الناصر بسبب دعوته للديمقراطية وعودة الحياة النيابية متزعماً سلاح الفرسان، وهو السلاح الذي حطمه عبد الناصر، ينتهي به المطاف إلى قبول عضوية مزورة في البرلمان، وإلى أن تأتي ذات انتخابات لنقابة الصحفيين، مصطحباً رفعت السعيد، وهو يهتف بصوت مسموع: "نافع.. نافع"، في إشارة لا تخطئ العين دلالتها، بأنه جاء لانتخاب إبراهيم نافع، مرشح الحكومة، وليس المنافس له ومرشح تيار الاستقلال، الصحفي الناصري "جلال عارف"!

ففي هذا العام كانت مؤسسة "الأهرام" هي الناشرة لمذكرات خالد محيي الدين، التي صاغها رفعت السعيد بقلمه "الآن أتكلم"، والتي نشرت بعض حلقاتها على صفحات "الأهرام" من باب الترويج لها، وتردد أن "خالد محيي الدين" تقاضى تسعين ألف جنيه نظير ذلك، فهل كان بحاجة إلى هذا المبلغ؟.. أم كان سيعدم ناشراً؟ فقطعاً فإن مذكراته كان ستجد ترحيبا من دور النشر الكبرى مثل "الشروق"، أو "المكتب المصري الحديث" الناشر لمذكرات عدد من رموز هذه المرحلة، لكنه سقوط الهمة، وتواضع الأحلام، والتماهي مع المرحلة المائعة في تاريخ السياسة في مصر، وكان صاحب التأثير الأكبر عليه هو رفعت السعيد!

إن خالد محيي الدين لم ينقطع الود بينه وبين عبد الناصر، واستفاد بقدر في المرحلة الناصرية، فلم تعاده هذه المرحلة، ولم يذهب بخلافه معها بعيداً، على العكس من تعاملها العنيف مع ضباط سلاح الفرسان، وليس لمثله أن تنهار همته على هذا النحو، ليهتف باسم شخصية باهتة في نظام باهت، لمجرد أن تولي عملية نشر مذكراته!

لقد كان هذا الفتور الذي استقبل به والد محمد منير، قوة القبض واللامبالاة في التعامل مع خبر القبض على نجله مثاراً للتندر، فكل الإجراء الإيجابي الذي فعله الرجل، هو أنه وضع يده في جيبه وأخرج نقودا أعطاها له وهو جالس ينظر في شاشة التلفزيون!

من الطبيعي أن يصعد محمد سيارة الشرطة من الخلف، لكن الضابط حرص على أن يجلس بجواره في الكابينة، وهو يطلب منه تفسيرا لهذه المعاملة المفاجئة للضابط وقوته، وقال إنه عندما يذهب للقبض على أحد يحدث هرج ومرج، وصريخ وبكاء، إلا في هذه الحالة!

عندما جرف مبارك الدولة سياسيا وأفسد النخبة، توقف منير وكثيرون من اليسار المصري عن الفعل السياسي المباشر، وانشغل بالصحافة التي التحق بها، وكان حاضرا في حالة الحراك السياسي في سنوات مبارك الأخيرة، فلما قامت الثورة كنا معا في ميدان التحرير، يمر علي أيضاً بسيارته القديمة المتهالكة "فيات 27" التي يُحشر فيها حشراً، ونتركها في الدقي ثم نترجل إلى ميدان التحرير.

وعندما دعا الداعي إلى مظاهرات 30 حزيران/ يونيو، اختلفنا في الموقف، لكن لم نفترق، استمرت صداقتنا، ولم نكن نتكلم كثيرا في ذلك، لكن الوضع اختلف بعد البيان العسكري في 3 تموز/ يوليو. قلت له مرة: كيف تقيم موقفك يا منير، و30 يونيو هو الغطاء للانقلاب العسكري في 3 يوليو. قال إن 30 يونيو ثورة، و3 يوليو ليس انقلابا على ثورة 25 يناير، ولكنه انقلاب على ثورة يونيو. وضحكت، فهو الوحيد ممن خرجوا في مظاهرات 30 يونيو ورفضوا الإجراءات التي جرت بعد ذلك، لقد تعامل مع الأمر بهذه البساطة.

ومنذ أن غادرت إلى قطر بعد الانقلاب العسكري التقينا مرتين، الأولى عندما حل ضيفاً على الجزيرة بالدوحة، ورغم أننا تلقينا خبرا حزينا بعد أسبوع من قدومه تمثل في إغلاق قناة الجزيرة مباشر مصر، إلا أن وجوده خفف من آلامنا، فقد كان يتصرف في الدوحة كما لو كان مقيما قديماً فيها، يتصل بالصحفيين المصريين، ويلتقي بهم، ويخبرني عن مقاهي عثر بها، عثرت لك على مقهى في سوق واقف.. مقهى بجوار الفندق يذكرك برائحة مصر!

والمرة الثانية عندما سافر إلى إسطنبول، وسافرت له خصيصاً، وكان يتصرف هناك على أنه من مواليد إسطنبول، يعرف مقاهي وأماكن ومطاعم، ويتحرك بسهولة، رغم أنه لا يعرف من التركية إلا "أركاداش"، أي "صديق"، وبدا لي أنه في القاهرة، حيث يعرف تفاصيلها التي لا نعرفها، "حلواني في السيدة يبيع أحسن بسبوسة"، وأفضل من يبيع النوع الفلاني من الجبن في شارع فيصل.

إنه يألف المدن والشوارع والأرض، كما تألفه، تماما كما يألف البشر ويألفونه!

رحم الله محمد منير الذي غادر وأخذ روحي معه. فلم يكن مجرد صديق، بل كان بجانب هذا أخا، وزميلا، وسندا يعين على نوائب الدهر.

عزائي أنه عاش رجلاً ومات رجلاً.

twitter.com/selimazouz1
التعليقات (1)
أين "مصري جداً"؟
الثلاثاء، 21-07-2020 01:20 م
منذ فترة طويلة، لم أر أي تعليق من تعليقات المعلق الشهير "مصري جداً". والسبب في التساؤل هو القلق عليه. أرجو أن يكون بكل خير وأن يواصل الإسهام بتعليقاته في عربي-21.