أفكَار

الإعدام في تونس.. إنفاذ لأحكام فقهية أم أنسنة لعقوبة جزائية؟

جدل في تونس حول عقوبة الإعدام بين الرفض والقبول. (الأناضول)
جدل في تونس حول عقوبة الإعدام بين الرفض والقبول. (الأناضول)

أعادت جرائم القتل الأخيرة التي هزت المجتمع التونسي وما رافقها من حملات تنديد واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي، الجدل حول مدى وجاهة وقف تنفيذ عقوبة "الإعدام" الذي تواصل منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، باعتبار أن آخر تنفيذ لهذه العقوبة كان سنة 1991 مع ما يعرف بقضية "سفاح نابل"، بالرغم من مواصلة القضاء التونسي منذ تلك السنة في إصدار عشرات الأحكام بـ "الإعدام" سنويا على مرتكبي جرائم القتل العمد تنفيذا لأحكام القانون الجزائي التونسي.

تواتر هذه الحملات الشعبية، التلقائية في معظمها، على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي مثلت استفتاء غير مباشر على موقف المجتمع من العقوبة الواجب تطبيقها على مرتكبي جرائم القتل البشعة، إلى جانب تضمّن المجلة الجزائية لهذه العقوبة، في مقابل المطالبة المتواصلة لبعض الجمعيات الحقوقيّة بسنّ قانون يجرّم تنفيذ عقوبة "الإعدام"، على أساس "حتمية أنسنة العقوبة الجزائية بحيث لا تمس جسم الإنسان" و"احترام الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب التي صادقت عليها الدولة التونسية منذ سنة 1988"، فضلا عن تضافر المرجعيات والمقاربات النفسية والاجتماعية والقانونية لمعالجة ظاهرة الجريمة، القتل على وجه الخصوص، يجعل من الأهمية بمكان مساءلة المختصين في الحضارة والفقه الإسلامي عن حظ المقاربة الدّينية ضمن المقاربات المذكورة وضمن تعدد المرجعيات المحلية والكونية. كما يبحث التقرير في دفوعات الناشطين الحقوقيين المطالبة بإلغاء عقوبة "الإعدام" ويناقش مدى نجاح مقارباتهم الحقوقية في معالجة تفشي ظاهرة الجريمة البشعة.

مقاربات مختلفة لجريمة القتل العمد

يقول د. مراد الرويسي، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية، في تصريح لـ "عربي21"، إنّ الفلاسفة وعلماء الاجتماع وفقهاء القانون انقسموا إلى تيارين متناقضين، حول مدى جدوى عقوبة الإعدام، فذهب التيار الإبقائي إلى العمل على التحصّن بهذه العقوبة، في حين ذهب التيار الإلغائي إلى العمل على هدم حجج التيار الإبقائي. ويتمحور جوهر المقاربات المختلفة لمسألة "الإعدام" حول الإجابة عن سؤال مركزي مناطه: "إلى أيّ حد يمثّل تنفيذ حكم الإعدام رادعا عمليّا للمجرمين؟ وإلى أيّ مدى يمكن أن يقي تنفيذ عقوبة "القتل" المجتمع من القتلة؟ وهل الردع يكمن في الإعدام بحد ذاته أم أن الإعدام هو الوسيلة الأخيرة التي يمكن اللجوء إليها في حال لم تكن الخطوات السابقة ناجعة وفعالة؟ هل تضع عقوبة الإعدام حداً للجريمة؟ هل تحقق العدالة للضحايا؟ هل ثمة طريقة إنسانية لتنفيذ الإعدام؟ هل الإنتقام هو الحل الأمثل؟ 

في ضرورة التحرر من مصطلح الإعدام

يؤكّد د. منير بن جمور، أستاذ تعليم عال بجامعة الزيتونة مختص في الفقه وعلومه وخبير في القانون الدولي الإنساني، في تصريح لـ "عربي٢١"، على ضرورة تحرير منظومة العدالة الإلهية المتعلقة بالقِصاص في القتل من المصطلح الحقوقي الرائج "الإعدام"٬ مشيرا إلى أنّ مصطلح "الإعدام" لم يستعمل قط في المدوّنة الفقهية، وهو إلى ذلك يتضمن نوعا من الوحشية والعودة إلى الأحكام التي مضت قبل ظهور المدونات الحقوقية الحديثة.

 


في ذات السياق يشير بن جمور إلى أنّ القدامى استعملوا مصطلح "الحدود" و"القصاص" وذلك نسبة إلى الآية 179 من سورة البقرة "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلّكم تتّقون". وحتى بالعودة للمعنى اللغوي نجد أن القِصاص في اللغة العربيّة هو "مطلق المساواة والتتبع. والقصاص مأخوذ من قصّ الأثر، وهو إتباعه، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار، والأخبار، وقص الشعر أثره، فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها، ومشى على سبيله فيها، ومن ذلك قوله تعالى في سورة الكهف: "فارتدا على آثارهما قصصا". وقيل القص هو القطع، ويقال "قصصت ما بينهما"، ومنه أُخِذ القصاص، لأنه يجرحه مثل جرحه، أو يقتله به.وهو ما يؤكّد أن القصاص لا يعني بالضرورة الإعدام.

شروط القصاص في الإسلام و"دِيّته"

يؤكّد بن جمور على أنّ تطبيق حكم القِصاص في الإسلام يتطلّب توفّر شروط وضوابط دقيقة. وإنّ وجود أيّ شبهة تمسّ من قطعيّة فعل القتل هو عامل يحتسب دائما لفائدة المتهم، وهو ما ينجرّ عنه إيقاف تنفيذ عقوبة القصاص بشكل آلي. مضيفا بالقول أنّ هذا التحرّي الدقيق، الذي يعبّر عنه قانونا بظروف التخفيف يمثّل مقصدا من مقاصد الإسلام السّمحة التي توصى بحفظ النفس البشرية. وفي هذا يقول العلاّمة محمد الطاهر ابن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة: " مقاصد الشريعة هي النبراس الذي نستضيء به في الفتوى أو في القضاء".

في ذات السياق، يشير بن جمور إلى أنّ المرجعية الإسلامية في الفتوى والقضاء يجب ألاّ تكتفي بالموروث الفقهي الفروعي وإنما عليها البحث عن روح الشريعة وفلسفتها وربطها بالواقع المعاش. كما يقول ابن القيّم الجوزية "الحاكم يجب أن يكون فقيها بالواقع قبل أن يكون فقيها بالنص". وبالتالي فإن الشرط الأوّل الواجب توفّره هو الاستئناس بروح الشريعة قبل الحسم في النص.

في صورة تحقق الفعل الجنائي وثبوت الأدلّة القطعية التي تدين المتهم بالقتل يمكن الاستعاضة عن القصاص بطلب العفو أو منح الديّة إذا ما قبل أهل القتيل (أولياء الدم) ذلك. فحق القتيل في هذه الحالة حق خاص وليس بحق عام. أمّا إذا كان القتل غيلة (غدرا عمدا أو فيه تمثيل بالجثة وفيه سرقة واغتصاب مثلا)، عندها يسند الأمر إلى الحاكم لأن الأمر صار متعلقا بالأمن العام.

روح القرآن الباحثة عن نقطة الاعتدال في التعامل مع السلوك البشري

يشير د. الصحبي بن منصور، أستاذ الحضارة الإسلامية بجامعة الزيتونة، في تصريح لـ "عربي21"، أنه إذا كان الله تعالى منتقم شديد الانتقام، وهو العادل المنصف الحق، فإنه أيضا عفو كريم يحب العفو. والعاقل هو الذي يوازن في حكمة ودقة بين الصفتين، مثلما بيّنه الإمام الشاطبي وهو يشير إلى روح التوسّطِ في القرآن الذي كان يميل إلى الزجر والردع والشدة في العقوبات إذا غلب على الأفرادِ "الانحلالُ في الدين". (الموافقات: 3/46-47)، ويميلُ إلى اليسر والتسامح إذا كان الناس متشددين في دينهم.

 

 



ويضيف بن منصور بالقول أنه "هكذا في ضوء طبيعة المجتمع المسلم المتبدّلة بحسب كل عصر تتشكّل روح القرآن الباحثة عن نقطة الاعتدال في التعامل مع السلوك البشري. وقد نبّه الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية إلى المقاصد العامة للأمة الإسلامية وهي أربعة من بينها: حِفْظُ الفطرةِ: مِن أسبابِ الاختلالِ والفسادِ (مقاصد الشريعة الإسلامية: ص 91)  والحقُ والعدلُ: وتقتضي إقامتُهما التبليغَ والإقامةَ والحراسةَ والتنفيذَ (مقاصد الشريعة الإسلامية: ص 237) لقول الله سبحانه وتعالى: "لولا نَفَرَ مِن كلِّ فرقةٍ مِنهم طائفةٌ ليتفقّهوا في الدينِ" (سورة التوبة، الآية 122). وكذلك لقوله تعالى: "لقد أرسلنا رُسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتابَ ليقوم الناسُ بالقسط وأنزلنا الحديدَ فيه بأسٌ شديدٌ ومنافعُ للناسِ" (سورة الحديد، الآية 25)". 

معنى ذلك أنه مَن لا ترْدعه الجِبلةُ الفطريةُ والجِبلةُ الدينيةُ ترْدعه الجبلةُ السلطانيةُ من خلال الدولةُ الساهرة بحسب ابن عاشور على تطبيق مبدأ العدل عن طريق ترسيخ "نفوذِ التشريعِ واحترامِه بالشدّة تارةً، والرحمة أخرى" (مقاصد الشريعة الإسلامية: ص 213).لهذا ينبغي أن نستوعب حقيقة عقوبة القصاص في جرائم القتل على أنّها  لا تخرج عن سياق المقصدَ العامِ من التشريع يتمثلُ في "حفظِ نظامِ الأمّةِ واسْتدامةِ صلاحهِ بصلاحِ المُهيمن عليه، وهو نوعُ الإنسانِ، ويشْملُ صلاحُهُ صلاحَ عقلِه وصلاحَ عملِه وصلاحَ ما بين يديْه مِن موجوداتِ العالمِ الذي يعيشُ فيه" (مقاصد الشريعة الإسلامية: ص 103).

وما أعظم تطبيق القصاص في عدل بين الناس، لكن لا شكّ في أنّ ما هو أعظم منه: عفو الناس عن بعضهم البعض، وهنا اقتصر على استحضار قول الله تعالى:"وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (النور من الآية:22)، "وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ" (البقرة من الآية:237).


وعن طرح قصة قاتل والد شابين قاداه إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليحكم عليه، وكان غاب وكفله أبو ذر الغفاري، وذلك بهدف تمثل دلالاتها في وجوب تطبيق الحاكم للقصاص وعفو عائلة القتيل عنه إذا اقتضت الحكمة ذلك: ها أنا يا أمير المؤمنين، تركت أطفالي كفراخ الطير لا ماء ولا شجر في البادية، وجئتُ لأُقتل، وخشيت أن يقال لقد ذهب الوفاء بالعهد من الناس. فسأل عمر بن الخطاب أبو ذر لماذا ضمنته ؟ فقال أبو ذر: خشيت أن يقال لقد ذهب الخير من الناس. فوقف عمر وقال للشابين : ماذا تريان؟ قالا وهما يبكيان: عفونا عنه يا أمير المؤمنين لصدقه.

حظ المرجعية الدينية ضمن المنظومة الحقوقية

يرى بن جمور أنّ تدخّل المسألة الدينية في موضوع القتل وعقوبته تستمدّ مشروعيتها من خلال التسليم الحاصل بأنّ الفقه الإسلامي بات يمثّل مصدرا من مصادر القانون في العالم. حيث تم الاعتراف بمرجعيّة الفقه الإسلامي في ألمانيا منذ القرن الماضي. وبالتالي فإنه "لا يجوز إقصاء المرجعية الدينية في هذا الشأن". وأنّ هذه المشروعية "تفرض نفسها على المستوى المحلّي من دستور 2014 وأنه لا يجوز نعت الفقه الإسلامي في مجال العقوبات الجزائية بكونه فقها تجاوزه العصر، لأن التشريع الإسلامي في هذا الأمر مكّن المجتهد من فسحة اجتهاد تتجلى في قدرة الفقيه على ربط النص بالواقع ومراعاة الظروف والواقع دائما مصلحة الجاني، إذ الأصل في الشيء براءة الذمة وهذه قاعدة أصولية وقانونية متفق عليها".

في ذات السياق، يرى بن جمور أنّ هذه المشروعية تستمد من الواقعية والعقلانية اللتين يتميز بهما الفقه الإسلامي. و"من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا". بمعنى أن حماية المجتمع هي الأولى بالحفظ والتعهّد في ذلك حماية لأرواح أخرى وحماية للنسل البشري، بالرغم أنّ المتهم يظلّ بريء حتى تثبت إدانته. ويضيف بن جمور في هذا الإطار قائلا أن الفهم الدقيق  لمقاصد الإسلام يفضي إلى حقيقة مفادها أن الفقه الإسلامي يقوم على الدفاع عن حقوق الإنسان بالحق والعدل لا بالعاطفة والأهواء، وأنّه من العدل أن يقتل من ثبت عليه القتل العمد و"القتل والعدل أساس العمران والظلم مؤذن بخراب العمران" كما يقول العلامة ابن خلدون. ثمّ أنّه هناك فرق بين أصل الحكم وبين تطبيقه أو ممارسته، إذ يقول محمد عبده " ماذنب القانون إذا أخطأ القاضي؟". 

وتعقيبا على قول بن جمور بأن مزايا المرجعية الفقهية، مقارنة بمنظومة حقوق الإنسان الغربية، تتمثل في تغليبها لأولوية حماية المجتمع من جنوح الجناة والخارجين عن القانون، يشير الأستاذ منذر الشارني، المحامي والكاتب العام للمنظمة التونسية لمناهضة التعذيب وعضو الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، في تصريح لـ "عربي21"، إلى أنّ الفلسفة الغربية تحمي كذلك سلامة المجتمع إلى جانب التركيز على حقوق الفرد وحقه في الحياة وبالتالي فهي تلائم بين حق الفرد والمجموعة الوطنية. مضيفا بالقول أن "القناعة بإنسانية الفلسفة الغربية لا يجب أن تحجب عنّا كحقوقيين ما أنتجته هذه المجتمعات الغربية من ظواهر هيمنة واستعمار للشعوب الأخرى بعد ثورات الحرية. وذلك بعد أن مرت من مرحلة الليبرالية إلى مرحلة الامبريالية، مؤكدا على أنّ الاستعمار يتنافى مع حقوق الشعوب في تقرير مصيرها وحقها في السيادة. والتجارب العملية تختلف عن المبادئ التي قامت عليها وهذا ينطبق أيضا على الحضارة العربية". 

عقوبة الإعدام لم تخلق مجتمعا خاليا من الجرائم

يرى د. مراد الرويسي أنّه بالرغم من أنّ "الوقائع أثبتت أن استبدال عقوبة "الإعدام" بعقوبة الحبس المؤبد غير مجدية، لأن هذه العقوبة لا تلبث أن تنقلب إلى عقوبة مؤقتة بفعل قوانين العفو الشامل، وكثيرا ما يحدث أن يستفيد المجرم من سهولة قوانين العفو، ويخرج إلى المجتمع حاملا معه عنصر الانتقام"، وبالرغم من أنّ "الجاني إذا أمضى حياته في زنزانة انفرادية كعقوبة له بدلا من الإعدام فإنه سوف يكون أشقى حالا مما لو أعدم، وكل محاولة لإصلاحه لا تنفعه لأن الإصلاح يهدف إلى إعادته للمجتمع وإدماجه فيه من جديد"، فإنه "من الأهمية بمكان أن نضع نصب أعيننا عند إيقاع العقوبة هدفا رئيسيا يكمن في إصلاح المجرم وليس استئصاله، ولا يمكن بأي حال من الأحوال اتخاذ عادة الثأر كسبب لاستئصال المجرم حيث بينت المسيرة التاريخية للجنس البشري زيف الدعاوى القائلة بأن عقوبة الإعدام أو القتل القانوني بإمكانها خلق مجتمع خال من جرائم القتل أو الجرائم المروعة".

من جهته، يرى منذر الشارني أنّه ثبت عمليا أن تنفيذ عقوبة الإعدام في عديد الدول العربية والإسلامية، مثل العراق وأفغانستان، لم تؤدّ إلى انخفاض في نسبة الجريمة. وعليه يجب النظر للجريمة وللعقاب بصفة منفصلة. فللجريمة ظروفها وأسبابها النفسية والتربوية والاجتماعية. 

وأضاف: "إنّ انتشار ممهّدات الجريمة، من قبيل المخدرات، التي تدفع الجاني إلى ارتكاب جرائم بشعة، هي مسؤولية الدولة".

 



في ذات السياق، يؤكّد الرويسي على أنّ ما أسماه بـ "الإنتقام و"منطق الثأر" ليس بالحل الأمثل، وأنّه "من المفيد تحسّس حلول ومعالجة أنجع، من خلال طرق أبواب جديدة تكمن في تقليل وتقليص العنف، وليس في التسبب في مزيد من الموت. فضلا عن أن عقوبة الإعدام عندنا وسيلة رخيصة يستخدمها أشخاص ذوو دوافع سياسية للتظاهر أمام ناخبيهم الخائفين بأن ثمّة ما يتم القيام به لمكافحة الجريمة، ولو كان الجاني حاكما أو مقربا من العائلات المتنفّذة لما نُفّذ الإعدام ولا العقوبة أصلا لتعدّد مخارجهم القانونية! أما في حالة ارتكاب خطأ فادح أثناء التحقيق في الجرائم واكتشاف براءة المتهم بعد صدور الحكم فيه وتنفيذه فحينها لا يمكن إصلاح هذه الفرضية الكارثية برده للحياة!".

عقوبة الإعدام لا تتعلق فقط بجريمة القتل العمد

يشير الرويسي إلى أنّ الدّارس لتاريخ العقوبات الإنسانية يلاحظ أن عقوبة "الإعدام" لا تتعلق فقط بقضايا القتل العمد بل نجد جرائم أخرى أو أفعالا لم تعد بالضرورة مجرمة في بعض دول العالم وهي ذات علاقة بموضوع العقوبة ولازال بعضها إلى اليوم يحتاج إلى مراجعة وتحقيق. مثل الردة والخروج عن الحاكم والتخابر مع جهات أجنبية و"رجم" الزنى والجنسية المثلية.. هناك حاليا في العالم 140 دولة أعضاء في الأمم المتحدة، إما ألغت عقوبة الإعدام أو أوقفت تطبيقها، ومازالت 57 دولة تطبّقها، من بينها 14 تطبّقها على الأطفال. وينفذ حكم الإعدام شنقا حتى الموت بالحبل وهي الطريقة الأكثر شيوعا في العالم، أو رميا بالرصاص للعسكريين في الغالب، أو صعقا بالكرسي الكهربائي، أو خنقا في غرفة الغاز، أو بالحقنة المسمومة أو المميتة وهذا في الولايات المتحدة الأميركية أساسا والصين بدرجة أقل.

المنظمات الحقوقية والدعوة إلى أنسنة العقوبة الجزائية

يشير الأستاذ منذر الشارني إلى أن المنظومة الحقوقية ترتكز على الفكر الجنائي الحديث الذي يرى أن العقوبة الجزائية هي وظيفة اجتماعية تقوم بها الدولة نيابة عن المجتمع وقد كتب في ذلك روسو وديدرو ومونتسكيو وغيرهم من فلاسفة الأنوار في أوروبا. وعليه لا بد من أنسنة العقوبة الجزائية بحيث لا تمس جسم الإنسان وإنّما تكتفي بالمسّ من حريته وممتلكاته دون جسمه. وبالتالي فإنّه لم يعد مسموحا بأي حال من الأحوال المساس بالحرمة الجسدية، خاصّة وأن الدستور التونسي يحمي الحرمة الجسدية والدولة التونسية صادقت على الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب والعقوبات أو المعاملات القاسية أو غير الانسانية أو المُهينة، منذ سنة 1988. ونحن نعتبر أن "الإعدام" هو أشدّ العقوبات قساوة.

في المفاضلة بين المنظومتين الإسلامية والحقوقية

يؤكّد بن جمور على أفضليّة المعالجة الإسلامية لمسألة القصاص وواقعيّتها مقارنة بما تطرحه المنظومة الحقوقية الغربية في هذا الباب ودفاعها المستميت عمّا تسمّيه بمنع "الإعدام"، بيد أنّ هذه الأفضلية الإسلامية لا تتحقق إلا بتوفّر شروط فهمها. ومن المهم جدّا هنا عدم الخلط بين النماذج السيئة المطبقة في بعض الدول العربية والإسلامية، التي فيها تمثيل وتشهير في الشوارع والساحات العامّة، وبين النموذج الشرعي الذي يتواءم ومقاصد الإسلام السمحة، كما قررها فقهاء الإسلام وأعلامه. وخير دليل على تهافت المرجعية الحقوقية الغربية في موضوع القصاص هو تطبيق حكم "الإعدام" في أكبر الدول الديمقراطية، مثل ما هو حاصل ببعض الولايات الأمريكية.

من جهته يرى د. الصحبي بن منصور، أستاذ الحضارة الإسلامية بجامعة الزيتونة، في تصريح لـ "عربي21"، أنّ لكل أمة نظامها في المراقبة والمعاقبة، وفي الأمة الإسلامية فإنّه تتساوى المعاقبة مع الجريمة، بلا إفراط أو تفريط، بينما تبقى المراقبة ذاتية بالأساس (سلطة الضمير الشخصي والإحساس بالرقابة الإلهية الدائمة واللصيقة)، ولنظام العقاب في الإسلام هدفه الكبير الذي عبر عنه الله بقوله تعالى: "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون" (البقرة: 178، 179).

واهتمّ الإسلام بأخطر الجرائم وهي القتل فشنّع بصاحبها واعتبرها من أخطر وأبشع ما يقترفه الإنسان في حياته. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لهدم الكعبة حجراً حجرا أهون من قتل مسلم". وركز الله جلّ جلاله على نفسية عائلة المقتول فطمأنهم لئلا تعمّ الفوضى ويندلع التقاتل بين أهل القاتل والمقتول من خلال قوله: "ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً"(الإسراء:33)، وهو ما يعني ضرورة الاطمئنان إلى أن العدالة ستأخذ مجراها قصر الزمن أو طال. 

 



في المقابل يشير الشارني إلى أنّ التوجّه العام للمنتظم الأممي هو في اتجاه وقف تنفيذ الإعدام وأنّ الدول التي ألغت الإعدام أو علقت تنفيذه هي قرابة 150 من جملة 180 دولة في العالم.  كما أنّ أفكار التمدن والتحضر وتبنّي الحريات والديمقراطية ليس استلابا بل هو اندماج في قيم العصر، وعليه يجب التأسي بالمجتمعات المتمدنة مثل الدول الاسكندينافيّة، حيث الإعدام ملغى بطبيعته وذلك عكس ما هو حاصل في ولاية تكساس التي تعتبر من أكثر المناطق ارتفاعا في نسب جرائم القتل، بالرغم من تطبيقها لحكم الإعدام.

في نفس ذات الإطار، يؤكد الشارني على" ضرورة معاقبة مرتكبي الجرائم بأقصى العقوبات، ولكن لا يجب أن تكون هذه العقوبات جسدية. ويجب أن تتكفل الدّولة بالتعويض لأهل الضحية في صورة عجز الجاني على التعويض. وعلى المستوى المحلي نعمل كحقوقيين على تغيير القانون في اتجاه مزيد ضمان حقوق أهل الميت".

التعليقات (1)
د. نورالدين بن محمود النناش
الخميس، 15-10-2020 08:42 م
بسم الله الرحمن الرحيم أثر القيم الإسلاميّة في الوقاية من الجريمة الإسلام دين القيم و المعاملات الإنسانيّة الرّاقية ولا يجادل في هذه الحقيقة إلاّ مكابر، بل إن رسول الإسلام لخّص جوهر دعوته في هذه الحقيقة حينما قال صلّى الله عليه و سلّم: ( إنّما بعثت لأتممّ صالح الأخلاق- مسند أحمد: 8729) و قد رسّخ الإسلام هذه القيم الإنسانيّة في نفوس معتنقيه منذ بدء الدّعوة و ذلك في المرحلة المكيّة التي كان هدي الإسلام فيها متّجها لترسيخ مبادئ العقيدة و تزكية النّفس بواسطة التحلّي بفضائل القيم، ثمّ تدعّم هذا المنحى القيمي في المرحلة المدنيّة.ونريد في هذه المداخلة أن نبرز دور القيم الإسلاميّة في الوقاية من الجريمة تتّسم القيم الإسلاميّة بالواقعيّة والشّمول فهي ليست متعالية عن التّطبيق أو لا قبل للإنسان بتمثّلها في فكره ووجدانه وسلوكه، بل هي قيم منسجمة مع واقع الإنسان و بنيته الفكريّة والوجدانيّة متماشية مع فطرته التي فطره الله تعالى عليها لأنّها متأتّية من عقيدته الدّينيّة، فالدّين برمّته مبنيّ على هذه الخاصيّة ( فأقم وجهك للدّين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدّين القيّم و لكنّ أكثر النّاس لا يعلمون)- الروم:30- ومن أجل ذلك ساهمت قيم الإسلام في الوقاية من كلّ أسباب الانخرام الاجتماعي وبالأخصّ تقليص الجرائم بفضل بعدها الوقائي لأنّ الالتزام بها يقي الفرد الأزمات النّفسيّة والانحرافات السّلوكيّة، كما يقي المجتمع من الانزلاق إلى الصّراعات و الفوضى والعنف و التطرّف وشيوع الجريمة. وهناك جملة من القيم دعا الإسلام إلى التحلّي بها لترسيخ مبدأ التّواصل الإيجابي مع الغير و لمنع كلّ أشكال الصّراع والغلوّ في التصرّف، وهي لا تختصّ بمجال معيّن من العلاقات الاجتماعيّة بل تشمل جميع أنواع التّواصل مع الآخرين و من بين هذه القيم: * التحلّي بالصّبر (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ? وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) النحل: (127) *التوكّل على الله (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ? إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ? قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(الطلاق: 3) *الأخوة الإيمانية: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ? وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(الحجرات:10) *نبذ كلّ أسباب الكراهية والحقد و الحسد: قال سبحانه و تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم و لا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيرا منهنّ و لا تلمزوا أنفسكم و لا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان و من لم يتب فأولئك هم الظّالمون ) الحجرات: 11. * مراعاة الحرمات ( حرمة النفس والعرض و المال) ممّا ورد في خطبة حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام * إشاعة الكلمة الطيّبة وتجنّب الكلمة الخبيثة : وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ? [الإسراء: 53] *النّهي عن التشفّي عند استيفاء الحقوق: قال سبحانه: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ? وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ? إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا ( الإسراء33).