كتاب عربي 21

مشاعر مضطربة تحت القمر الصناعي

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
"لا شيءَ يُعْجبُني" يقول درويش، فأكرر والوجدان يضطرم مع مسافر في الباص: "لا شيء يعجبني، لا الراديو ولا صُحُفُ الصباح ولا القلاعُ على التلال. أُريد أن أبكي. يقول السائقُ: انتظرِ الوصولَ إلى المحطَّةِ وابْكِ وحدك ما استطعتَ".

أنا في المحطة بعد صعود القمر الصناعي والدمع كثير والأسباب أكثر. لم يجمع القمر الأول أهله حوله إفطار حزينا، والماكثون على الأرض يكيدون له كيدا.. يكيدون به كيدا، فيقرر ألا يعود. ربما سنحسده على الخروج من البلاد إلى السماء الحرة، فقد ترك خلفه قوما لا يتحررون من الصغار المدقع.

فالرئيس يركب الحدث بخطاب خشبي، والأحزاب تحقر القمر الصناعي نكاية في صانعه، والقمر قد يتأخر في العثور على أخيه.

الرئيس ظهر فجأة في قاعة المراقبة

لم تكن له علاقة بالمشروع منذ بدأ الحديث عنه في السنة الفارطة، لم يتحدث عنه في أي ظهور له، ولما جهز جاء يستضيف نفسه ويشكر صانعيه ويلتقط الصور، ثم يعاود الظهور ليتابع الإرسال، ولكنه فرض نفسه متحدثا باسم الصانع وفريقه ويتخذ من ذلك فرصة ليلعن شركاءه في إدارة البلد، بخطاب خشبي مكتوب أسوأ من خطاباته المرتجلة. حتى إنه لما دس له فيه خطأ تورط في الارتجال، فقال إنه لا يمكن التفريق بين الحق والباطل، فالحق بيّن والباطل ساطع، فأغلق المتابعون الصوت ليكتفوا بمشهد صعود الصاروخ الحامل للقمر.
صاحب الشركة المسؤولة معروف الانتماء السياسي، وكان يمكن توظيفه في توسيع الدعوة والجلسة ثم الحوار. ولكن لا يبدو أن الرئيس يفكر مثلنا أو يشغله ما يشغلنا من الرغبة في تسهيل أمور الحكم وتجاوز الاختلافات

كانت هناك فرصة ليجمع الرئيس شركاءه في إدارة البلد، ويتخذ من إطلاق الصاروخ مناسبة لقهوة مصالحة صباحية وحديث عن المستقبل الذي انطلق مع الصاروخ وسيعبر عنه القمر الصناعي. وكانت الذرائع متوفرة والوسيط أيضا، فصاحب الشركة المسؤولة معروف الانتماء السياسي، وكان يمكن توظيفه في توسيع الدعوة والجلسة ثم الحوار. ولكن لا يبدو أن الرئيس يفكر مثلنا أو يشغله ما يشغلنا من الرغبة في تسهيل أمور الحكم وتجاوز الاختلافات؛ بناء على ما نعرفه من الحالة الاقتصادية الكارثية للبلد.

لقد ضاعت المناسبة ولن يجود الزمن بمثلها قريبا، فليس هناك قمر ثان يستعد للسماء. الرئيس لا يبحث عن حل ويعسكر في قصره منتظرا أن يأتيه الآخرون أذلة صاغرين فيملي عليهم. هل هذا من الدستور؟ هل هذا من صناعة الأمل لمن صابح الناس بخطاب عن الحق والباطل؟ القمر الصناعي لم يصالحنا، وهذه حقيقة كحقيقة أن لنا قمرا صناعيا صغيرا بحجم الكف في السماء.
الرئيس لا يبحث عن حل ويعسكر في قصره منتظرا أن يأتيه الآخرون أذلة صاغرين فيملي عليهم. هل هذا من الدستور؟ هل هذا من صناعة الأمل لمن صابح الناس بخطاب عن الحق والباطل؟

قمر بحجم الكف لكنه قمر

كل الذين لديهم عداء استئصالي مع حزب النهضة الذي ينتمي إليه السيد محمد الفريخة، صاحب شركة تلنات مصنعة القمر ومرسلته.. حقروا القمر وقالوا عنه إنه بحجم طوبة بناء صغيرة. لم يظهر في صفحاتهم وفي إعلامهم ما يفيد بأنهم يرونه قمرا تونسيا صنعه تونسيون وطوروه، وأُنفق عليه رأس مال تونسي.

لم يحضر المعنى الوطني في المشهد، لكن حضر الحقد الأيديولوجي (نسيت أن أذكر أن الأخبار عن تأجيل الإطلاق بسبب عوامل المناخ من يوم 20 إلى يوم 22 قد حظي بنشر أكثر من خبر الإطلاق نفسه). لقد كانت نبرة الشماتة في التأجيل جلية، أما وقد أطلق فكانت لغة التحقير أجلى. هنا أيضا لم يوحدنا القمر ولا صانعه، وفاتت فرصة حديث الوطنية الجامع.

في كل لحظة من لحظات الفعل يكشف الاستئصاليون عن وجههم البغيض ويمنعون الناس من الفرح؛ لأن هناك احتمال فائدة لعدوهم. يدفع خطابهم أبناء النهضة وآباء القمر الصناعي الذي هة بحجم الكف للافتخار والمبارزة والشماتة في القاعدين، فيجعلون من ردة الفعل سببا إضافيا لتوسيع الشقة وتعميق الأخدود، ويبتعد البلد خطوة أخرى عن مستقبله نحو ماضيه الذي اصطبغ بحرب استئصالية ضيعت عليه نصف قرن.

قمر بحكم الكف لم تنجزه الدولة الوطنية بيسارها الوطني والعميل، ولم تنجزه بنخبتها المالية التي صنعتها ومنحتها حق امتلاك البلد فاستثمرت في تعليب المياه المعدنية وتعطيش الريف.. أنجزه رأس المال الخاص والذي صادف أنه ليس استئصاليا، لقد صار قمرا صناعيا تونسيا ويشرف على الاستئصاليين من علو شاهق رغم أنه بحجم الكف.
قمر بحكم الكف لم تنجزه الدولة الوطنية بيسارها الوطني والعميل، ولم تنجزه بنخبتها المالية التي صنعتها ومنحتها حق امتلاك البلد فاستثمرت في تعليب المياه المعدنية وتعطيش الريف.. أنجزه رأس المال الخاص والذي صادف أنه ليس استئصاليا

القمر الصناعي الثاني في علم الغيب

في فرح لحظة الإطلاق عبر السيد الفريخة عن قدرته على تصنيع أقمار أخرى وطرح عروضه لأفريقيا بأسعار تفاضلية. ويبدو أنه ملم بالسوق وبأسعار التصنيع، وقد يفلح وهو المستثمر في الذكاء منذ انطلاق عمل شركته في التسعينيات. لكن بكل التفاؤل والفرح الذي رافق إطلاق القمر الصناعي (الذي بحجم الكف) نعتقد أن المناخ السياسي التونسي لن يساعد على قمر ثان. إن هذا النجاح يزعج فرنسا، نعم إنها تراقب ولم تفلح في المنع لكنها لن تتخلى.

لقد سبق للرجل أن أنشأ شركة طيران دولية وتملك خطا مباشرا للسفر بين تونس ومونتريال (كندا)، فحرم مطارات فرنسا من ثمن الترانزيت بمطاراتها، فحرضت عليه في تونس فأغلق مكاتب الشركة ونقلها إلى نيجيريا.

إن فرنسا التي تخرب شركاتنا الوطنية هي نفسها التي تحرض ضد القمر الصناعي التونسي، ولن تتوقف حتى تفشله، والمحيط السياسي الداخلي لا يتضامن مع هذا النجاح ولا يحميه، بل العكس، سيضع يده في يد العدو ويخربه.
فرنسا التي تخرب شركاتنا الوطنية هي نفسها التي تحرض ضد القمر الصناعي التونسي، ولن تتوقف حتى تفشله، والمحيط السياسي الداخلي لا يتضامن مع هذا النجاح ولا يحميه، بل العكس، سيضع يده في يد العدو ويخربه

ونحن نكتب هذا الآن توقعا، ولكن لدينا يقين بحكم التجربة بأن خراب بلادنا مملى على بعض نخبتها، وستظهر الأيام قريبا صحة توقعنا. لذلك لا نعتقد أن سيكون هناك قمر ثان إلا إذا صنع في منطقة خارج نفوذ فرنسا. أين هذه المنطقة؟ إن أفريقيا تتحرر من فرنسا وقد تقلص نفوذها في بلدان كثيرة، وهناك يمكن للفريخة أن يشتغل بلا كيد محلي. ونرى أن ليبيا مكان مثالي للعمل بحرية أكبر، ففي ليبيا لا يوجد عملاء لفرنسا مستعدون لخيانات وطنية بلا مقابل.

لقد وصل الباص إلى محطته الأخيرة في تونس وسنبكي براحتنا، فلا شيء يعجبنا في بلد لا يفرح بالنجاح. ستنتظر الأجيال القادمة موجة تحرر قادمة من ليبيا، حيث لم يحل الطاعون الفرنسي، وهذه نبوءة لا يلتقطها القمر الصناعي.
التعليقات (1)
تاصحو أمتهم
الثلاثاء، 23-03-2021 07:29 م
أولا/ شكرا على انتباهك لهفوة قيس سعيد حين تصنّع فصاحة مرتجلة. رغم أن بيننا وبين قطركم محيط وبحر وبر، فالتزامنا بمتابعة شؤون جميع اقطار وطننا العربي أملى علينا متابعة الاطلاق وخطاب قيس سعيد الذي صنعت هفوة تفاصحه المرتجل فارقا بين الفصاحة الطبيعية الأصيلة للذهن واللسان (اشتغال الذهن بالفصحى أي التفكير بها ثم تعبير اللسان بها) وبين التفاصح المصطنع (التفكير بغيرها ثم محاولة التعبير بها وهذه عاهة يعيشها كل أهل الأقطار العربية التي نكبت بكارثتي الاحتلال الفرنسي ثم حكم اعوانه إلا من رحم ربك وهم قليلون). ثانيا/ قلت: "قمر بحجم الكف لم تنجزه الدولة الوطنية بيسارها الوطني والعميل، ولم تنجزه بنخبتها المالية التي صنعتها ومنحتها حق امتلاك البلد فاستثمرت في تعليب المياه المعدنية وتعطيش الريف..." ونعتقد انها دويلة عبد الاحتلال الذي، اكثر من هذا، وقف بالمرصاد لكل جهد جاد للاستقلال في إنتاج علوم الطبيعة والتقانة: أ) ألم يطرد مبكرا(1380) المرحوم إن شاء الله عالم الفيزياء الموسوعي بشير التركي من الجامعة التي أحدثها في 1378 نسخة فرنسية رديئة بعد تصفية جامعة الزيتونة ويمنع اعتماد المقرّرات الجامعية العربية للعلوم الطبيعية (الفيزياء، الرياضيات، الاحياء...) التي وضعها هذا العالم ؟؟؟. ب) ثم ألم يرفض عبد الاحتلال مشروع هذا العالم لإيصال مياه البحر من خليج قابس إلى سباخ الداخل الصحراوي، وبناء مفاعل نووي في نهايتها لإنتاج الكهرباء وتحلية المياه المالحة في آن واحد بعد ان تعهد له السوفيات بالتمويل الكامل مجانا ؟؟؟ (كان هذا المشروع أول اختراع من نوعه في العالم وكان هدف تشييده في تلك المنطقة إنقاذ الداخل من التصحّر؛ إذ من شأن المشروع أن يغير طبيعة المنطقة الجنوبية محولا إياها إلى بحر داخلي يغير المناخ الجاف للمنطقة الصحراوية إلى رطوبة المناطق المعتدلة. بعد رفض عبد الاحتلال تنفيذ المشروع دون سبب، استفاد الاتحاد السوفياتي من الفكرة، وأقام سنة 1388 نفس المفاعل بقوة مضاعفة في بلدة تشفشينكو(على ضفاف بحر قزوين) بقوة 150 ميجاوات وتحلية 300 ألف متر مكعب من مياه البحر يوميا). ج) ثم ألم يغلق عبد الاحتلال مركز تونس للبحوث النووية الذي أسسه هذا العالم ذي الوعي الحضاري الأصيل سنة 1385؟؟؟. د) ثم أخيرا، ألم يقف باسم دولة القطر ضد تولي هذا العالم رئاسة الوكالة الدولية للطاقة الذرية (أول مرة يقف حاكم دولة علنا ضد ترشح احد مواطنيه لترأس إحدى المنظمات المختصة للأمم المتحدة. ولكن فقط لأنه كان مرشح كل كتلة دول عدم الانحياز فقد ترأس بشير التركي في 1388 الوكالة كأول عربي مسلم ملتزم رغم أنف عبد الاحتلال في تؤنس) ؟؟؟.