آراء ثقافية

الزوبعة لزياد القاسم.. ملحمة روائية منسية

في عام 1992 كتب الأستاذ زياد رواية أبناء القلعة والتي أنتجت كعمل درامي بالاشتراك مع تلفزيون أبو ظبي عام 2018- تويتر
في عام 1992 كتب الأستاذ زياد رواية أبناء القلعة والتي أنتجت كعمل درامي بالاشتراك مع تلفزيون أبو ظبي عام 2018- تويتر

في الألفية الثانية يثبت الأستاذ زياد القاسم عبر ستة أجزاء من ملحمته الموسومة بالزوبعة، أن الرواية الواقعية ما زالت طرية يمكن قراءتها، والتفاعل معها، خصوصا إذا كانت معجونة بالتاريخ الممتد والمتداخل بالجغرافيا.

أخذ الأستاذ رحمه الله، المتوفى سنة 2007، على عاتقه روايته الخاصة لملحمة أحداث عصفت بمنطقة الشام ما بين 1880 تقريبا وحتى 1952، أحداث مرت مثل الزوبعة التي تمثل شعار الحزب القومي السوري، وانتهت بإعدام الزعيم أنطون سعادة، مؤسس هذا الحزب الذي ظل يطل بسلاسة عبر سنوات هذه الأحداث الهامة.

ليس من السهل على كاتب كبير كالقاسم التصدي لتاريخ منطقة ظلت مهمشة في التاريخ الحديث، وهي منطقة الأردن، حيث تسلل الفنان إليها عبر الشخصيات التاريخية، فأعاد خلقها وبث الروح فيها، وأضفى عليها لمساته الخاصة جاعلا منها شخصيات روائية تتفاعل مع الأحداث، بل وتصنعها وتؤثر فيها، فهو بلا شك كان مدركا لخطورة ذلك، وهي خطورة أن يبحث القارئ في التاريخ الرسمي عن الشخصيات التي أخفى اسمها حينا إنما مع ترك مفتاح يشير لها، وحينا كان يذكرها عارية من ذلك كله، فيذكرها باسمها الحقيقي صابا عليها كل ثقله الحكائي، ما لها وما عليها.

رسالة الكاتب في هذه الملحمة، لقارئ في هذا الوقت يكابد المتعة التي تحفه خلال أجزاء ستة وأكثر من ألفي صفحة، هي رسالة الفن ذاته الذي يجب أن نستمتع به ككيان مستقل عن كل ما يرفده من الخارج.

هناك الكثير من الحكايات التي تسمرت عند حافة المصائر التاريخية للمنطقة والشخصيات، يرويها لنا الأستاذ زياد جاعلا منها جزءا محبوكا ومتميزا لمصائر شخوصه بل جزءا من تاريخهم الشخصي الخاص، ما يؤكد تماسك هذه الملحمة التي تجعلنا نعيش وندرك كيف تتم صياغة الرواية الرسمية للتاريخ ومدى انزياحها عن رواية الناس الذين عايشوا أحداثه.

يفتتح القاسم حكايته بقصة مركزية تتحدث عن رجا الصليبي الذي هرب من مجزرة في قريته القريبة من الناصرة إلى شرق الأردن، والذي آواه الشيخ زعل، وأقطعه أرض القبة التي ظلت ركيزة مكانية في كل الرواية، سرعان ما أصبحت القبة أرضا خضراء بفضل همة وجهد رجا، ولي كقارئ محب للعمل أن أربط بين رجا الصليبي وبين الكاتب الذي افتتح الرواية الأردنية على أرضية غير محروثة من قبل، إذ لم يتسنّ لنا مثل هذا المجهود من قبل عبر كتابة تمتزج بالأرض وبالتاريخ في زمن ربما عزف فيه الكتاب عن الرواية الواقعية.

 




 

لكن رجا الصليبي ظل مؤمنا بأن يجعل من القبة أجمل من حدائق الشام (دمشق) وهو ما فعله زياد بملحمته أيضا، ومن بعد رجا الصليبي جاء ابنه فرحان الذي ظل يعيش هاجس أنه أقل من أبيه، وأن نسله ومنجزه سوف ينقطع بعد جيل واحد، وهو ما تحقق عمليا بابنه مرزوق الدكتور خريج الجامعة الأمريكية ببيروت، ثم تحقق فعليا عبر ابنة مرزوق والذي اختار لها اسم نهاية بدلالة واضحة لنسل رجا ولنسل الرواية الواقعية بشروطها بالغة الخصوصية، لذا وضع زياد الرواية الواقعية بأبعادها الملحمية إن صح هذا الزعم في مقدمة الروايات، بصفتها هي أم الروايات وأصلها كذلك.

إن زراعة الأرض والالتصاق بها أساس لكل نهضة يمكن أن تحرك الراكد وتتقدم به نحو الحداثة والتطور. من هذا الجانب فإن الكاتب قد كرس ملحمته لتكون من كلاسيكيات الأدب الأردني ومرجعا حيا لأي مغامر جديد يقتبس من روحها كما يقتبس أي كاتب من الملاحم الكبرى.

 

اقرأ أيضا: الدوقراني.. ربابة حوران وصوتها الممتد


في عام 1992 كتب الاستاذ زياد رواية أبناء القلعة والتي أنتجت كعمل درامي بالاشتراك مع تلفزيون أبو ظبي عام 2018، تتحدث عن حي من أقدم أحياء عمان هو حي القلعة، وتركز على نشأة عمان وتكونها من بداية خمسينيات القرن الفائت وحتى نكسة 67 ويبقى تاريخ بعض الشخصيات غامضا حتى يستفيض في ماضيها في رواية الزوبعة، مثل شخصية شمس الدين وفوزية تبدأ الاشارة إليهم منذ أواخر الجزء الثالث وفخري في نهاية الجزء الخامس وشخصية نمر العواد في الجزء الأخير.

 


 

فيدفعنا الكاتب لاستقراء تاريخ المدينة في حوارها المصيري المتعلق بمحيطها العربي والسوري تحديدا من جهة رواية الزوبعة ومن ناحية التاريخ الاجتماعي البحت والخاص بالبيئة المشكلة لعمان في رواية أبناء القلعة. وكأن المنطقة أقفلت تشابكها وارتباطها الحقيقي بمحيطها السوري بعد الـ 48 وانكفأت على حراكها الاجتماعي الخاص بعد ذلك مكتفية بارتباطها الوجداني بمحيطها السوري، بعد أن انتهى الحزب القومي السوري بشعار الزوبعة بإعدام سعادة سنة 49 انتهى أي فعل قومي حقيقي لتوحيد سوريا، هذا ما تحكيه صفحات الروايتين.

سجلت أمانة عمان فعلا حسنا سنة 1996 بتفريغ الكاتب لإتمام أجزاء روايته وصارت تصدر أجزاءها تباعا حتى انتهى منها سنة 2002 وكان توزيعها بالمجان وفي الجزء الرابع هناك الكثير من الحذف بدعوى الرقابة. ثم صدرت بطبعة يتيمة وحيدة عن دار الدراسات العربية للنشر بإخراج جميل وبنفس المحذوفات الرقابية بجزئها الرابع هذه الطبعة للأسف لم تنتشر عربيا ومن الصعب الحصول عليها بدعوى حقوق النشر، وكأن الناشر يؤكد نبوءات القاسم ونبوءات فرحان الصليبي ويحرم القراء العرب من أحد أهم كلاسيكيات الرواية العربية في القرن العشرين.

 

زياد القاسم مبدع كبير حان الوقت كي نعيد له الاعتبار ضمن مصاف كتاب الكتاب.


التعليقات (2)
ايمان القاسم
الثلاثاء، 27-04-2021 10:13 م
سوف تظل زوابع زياد قاسم وأبناء قلعته ملهما عظيما لكل باحث عن تاريخ الأردن وسكانه ومواطنيه لعقود طويلة زياد قاسم الذي اختلف في تسميته عدة نقاد من مؤرخ مديني أو روائي مبدع، سيظل نفسه واحدا من أهم كتاب الرواية في الأردن، لكنه لم يأخذ حقه بينهم كما يستحق. كل التقدير لك أستاذ خليفة على هذا السرد العميق والتحليل الأدبي المدهش الذي يؤكد عمق تغلغل القاريء المثقف المتبصر في النصوص، وهو ما يميزه عن أي قاريء عادي . شكرا جزيلا لك لاستذكار اديبنا الغالي رحمه الله.
sandokan
الثلاثاء، 27-04-2021 05:24 م
بسمة العوفي .. ناس مُبالغ فيها '' صيام الكتابة '' تأخرت في كتابة المقال الأسبوعي، فكرت في الأمر أكثر من مرة وصديقي يحثني على كتابة المقال وإرساله، كنت في سيارة أجرة عندما تلقيت رسالة نصية منه يسأل عن المقال الجديد، وكان سائق السيارة يقود ببطء وخلفنا سيارة أخرى لا يكف صوتها، لاحقتنا ثم أصبحت جوارنا، ثم سبقتنا، بعد أن رمق سائقها سائقي بنظرة غضب، استقبلها الأخير بجملة قالها بكل هدوء "مستعجل على إيه؟ لك معاد هتوصل فيه". لا أصدق أن أشياء مثل هذه تحدث من قبيل الصدفة، خاصة في الوقت الذي أفكر فيه بكثافة في الوقت، كيف يتحول مرة إلى أرنب وأخرى إلى سلحفاة. وحولنا هوس إعلاني وإعلامي بالوقت، يحثنا دائمًا على اللحاق بالفرصة قبل أن تنتهي، أو على استرجاع ما مضى وإثارة ذكرياته وشجونه. على عكس كثير من الناس، لا أريد العودة للماضي، ولا أريد الذهاب للمستقبل، فقط أريد أن أستمتع بالحاضر وأتذوقه، لكن كيف ذلك دون ضغط مما سبق ومما هو آت؟ كيف نصوم عن التفكير في التفاهات وننزل أحمال تقطم ظهور إبداعنا؟ يقول د. محمد المخزنجي في كتابه "مداواة بلا أدوية" في فصل "العلاج بالصوم"، (والمقصود هنا الصوم عن الطعام) أن سقراط كان يصوم عشرة أيام كلما أراد حسم أمر ما، كما اعتاد المصريين القدماء صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وفق ما ذكره المؤخر هيرودوت، كما استطاعوا علاج بعض الأمراض به، وكذلك أبو قراط أبو الطب اليوناني الذي اعتاد علاج المرضى بالصوم، وكان يقول أن "كل إنسان منا في داخله طبيب، وما علينا إلا أن نساعده حتى يؤدي عمله". عندما قرأت فصل العلاج بالصوم في الكتاب، جذبتني فكرة الصيام الروحي عن متاعب الحياة، فكما يتعب الجسد من الأكل المصنع والملوث، تتعب الروح من اللهاث والركض المتواصل وراء الواقع. نحن – ككتابء تشغلنا متطلبات الحياة مثلما تشغل أي شخص عادي، لا نعيش بقوقعة زجاجية، الخبز لا يأتِ إن لم ندفع ثمنه، وهذا يجعلنا في صراع دائم طوال الوقت، هل نعمل لنشتري الخبز والكتب، أم نكتب جيدًا لعل الكتابة تعطينا بعض الربح المادي، فنشتري الخبز والكتب أيضًا؟ كتبنا خبزنا، وخبزنا كتبنا، لا نستطيع الاستغناء عن أي منهما، لأننا بشر. ولأن الأنظمة السياسية والاجتماعية لا تلتفت إلى أصحاب الأقلام، إلا إن سبّوها أو مدحوها، وما دون ذلك يُعتبر كتابة على الماء. أتوقف أحيانًا عن الكتابة، وأتوقف كثيرًا عن الحياة. كلما ذهبت أو سافرت لمكان للعمل تخطفني الكتابة منه، نهاري للعمل وليلي للكتابة. وكلما ذهبت لمكان سألت نفسي، ماذا لو جئت هنا لأجل الكتابة فقط؟ ماذا لو عشت حياتي كما أريدها فعلا، أطبق أفكاري المجنونة، أتأمل لساعات طويلة، وأعتزل البشر وقتما أريد. الاندماج وسط البشر والأحداث طوال الوقت مرهق للناس العادية، ومرهق بشكل مضاعف للكتّاب، فهم كالأطفال حالمين بسندباد يأخذهم كل يوم إلى رحلة جديدة. الحياة مثل الأم، توقظنا رغمًا عنا لنذهب إلى المدرسة. لطالما كرهت الذهاب الإجباري للمدرسة، لكننا بدونه لن نتعلم، ولطالما كرهت قطع أحلامي في منتصفها، ومنبه هاتفي الغبي، ولكني من دونه سأمضي أيامًا في النوم، لكن تلك العتمة والتشويش من التتابع الممل لروتين الحياة وإجبارها لنا، يوقعنا بالتأكيد في فخ قفلة الكاتب، التي يقول عنها المخزنجي "تلك الحالة التي يفقد فيها الكاتب قدرته علي الكتابة والرغبة فيها. يغدو الوجود لديها بلا معني. ويكون ضعيفا أضعف ما يكون .ويصير انزواؤه فيما يشبه الصندوق المحكم نوعا من الكُمُون الواقي. يتحاشي مواجهة العالم بمثل هذه الدرجة المبرحه من الضعف ويأمل أن تعود روحه إلى انتفاضها في مثل هذه السكينة والهدأة". كلما قرأت الجملة السابقة أدركت أن ما أبحث عنه هو السكينة والهدأة، ولا أجدهما إلا في صيام الروح، أو كما أحب أن أسميه صيام الكتابة، صيام من الواقع الذي يفوق قدرتنا وتحملنا كبشر، ننقي فيه أرواحنا كما ننقي أجسادنا، نصوم عن الضجيج المشتت، وعن الكتابة الرديئة، نصوم عن القبح لننتج الجمال، نصوم عن الواقع لنفطر على الخيال، نصوم قبل أن يصوم عنّا القلم. لا أعرف متى سيتحقق ذلك، لكني أطيّب خاطري بمقولة سائق التاكسي.