كتاب عربي 21

الغنوشي يستبق نحو الصندوق الانتخابي القادم

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
سيكون لما يقوم به زعيم حزب النهضة راشد الغنوشي هذه الأيام أثر كبير في الصندوق الانتخابي القادم سنة 2024، فالرجل ترك خلفه الصراعات الأيديولوجية المهيمنة على المشهد السياسي عامة والبرلماني خاصة، وذهب يستبق نحو ترسيخ مكانة حزبه ودوره في البلاد.

وهناك فئتان كبيرتان ستجدان مصلحة في سعيه، هما فئة المحتاجين إلى العمل أو العاطلين ممن نصنفهم في القوى العاملة والحرفيين، وفئة رجال الأعمال الذين كسدت تجارتهم نتيجة الصراعات السياسية، ويمكن أن نصنف معهم قطاع الإنتاج الفلاحي الباحث عن أسواق لمنتوجاته الكاسدة. ولا نظن أن مكونات هذه الفئات ستعلن الانتماء إلى حزب الغنوشي، ولكن سيترسخ لديها يقين نفعي براغماتي بأن الغنوشي يحسن التدبير لها فيتحول إلى ضامن لرزقها في الوطن وخارجه. وعندما يقف أي فرد من هؤلاء أمام الصندوق سيصوت لمن فتح له باب رزق وضد من أغلق عليه الباب، سيقول سرا أو جهرا مصلحتي مع الغنوشي.

لماذا تحرك الغنوشي؟

تحرك الغنوشي لأن الرئيس قصّر في مهامه الديبلوماسية، وخاصة ما نصطلح عليه الديبلوماسية الاقتصادية. لقد بلور الدستور التونسي عرفا جديدا يحفز الرئيس على النشاط الديبلوماسي ذي الطبيعة الاقتصادية. وقد أسس الرئيس المرزوقي بدايات هذا النشاط خاصة برحلة أفريقية رافقه فيها رجال أعمال، ولكن تلك البداية كسرت في زمن الباجي وحزبه. ولكن الفكرة لم تختف، وكان خطاب قيس الانتخابي قد أكدها عندما ربط أمن البلاد بازدهارها الاقتصادي، غير أن الرئيس الذي فاز بشبه استفتاء على رئاسته أخل بالمهمة وانشغل بتعليمنا الدستور كما لو أن الشعب طلبة في المدرج.

وعندما اكتشف الرئيس (المساعد الجامعي المسكين) أن الطلبة غير مهتمين بدرسه، وجه جهده لتعطيل الحكومات وخاصة حكومة المشيشي، وعمل على ألا يقوم غيره بمهامه. في هذه الفجوة تقدم الغنوشي بصفته البرلمانية وبرصيده الخاص كزعيم حزب إسلامي في بيئة تحترم مكانته، في ليبيا أولا وفي قطر ثانيا، وربما تصح الأخبار الرائجة الآن عن زيارات إلى الكويت (وقد تلقى دعوة من رئيس برلمانها) وتركيا والجزائر.

كان الغنوشي وبخلاف الرئيس قد انحاز إلى موقف طرابلس في الحرب الأهلية ضد حفتر المدعوم من الصف المعادي للربيع العربي، وكان لتهنئته حكومة السراج بتحرير قاعدة الوطية (والتي تعرض بسببها إلى حملة ترذيل) أثر طيب في تمتين علاقته بالحكومة المؤقتة القائمة الآن. وقد تحدث مع الليبيين معتمدا على هذا الرصيد، ومهد لرئيس الحكومة ليعقد اتفاقيات اقتصادية في جزيرة جربة.

وعندما تخرج هذه الاتفاقيات من الورق إلى الواقع يبدأ كثيرون في حساب أرباحهم. من هؤلاء أفواج من العمال ومن المهنيين وصغار الحرفيين انتقلوا إلى المدن الليبية، ومنهم تجار الشنطة أو ما يعرف في تونس بتجار الخط (طرابلس بن قردان). ويمكن القول إن هناك مليوني تونسي يمكنهم تدبر فوائد من انفتاح التجارة والعمل مع ليبيا، خاصة من مدن الجنوب والوسط وقراه المفقرة (في الحديث الرسمي يجري الحديث عن نصف مليون فرصة شغل). ويعرف الأطباء (تجار الصحة) طعم الدينار الليبي في أرصدتهم الفارغة نتيجة غياب المريض الليبي عن عياداتهم.

لقد تحدث الليبيون بشكل إيجابي عن دور الغنوشي في تسهيل هذا الانفتاح. ونعتقد أنه سيظل يقوم بدور المسهل (Facilitateur) لكل العقبات التي قد تعترض تنفيذ ما اتفق عليه، ولهذا فائدة انتخابية مباشرة في أول موعد انتخابي (إذا فاز أصدقاؤه وإخوته في انتخابات كانون الأول/ ديسمبر في ليبيا فسيزداد قوة هنا).

ما جرى مع ليبيا جرى مثله مع قطر.. اشتغل الغنوشي ككاسحة ثلوج/ عقبات أمام رئيس الحكومة الذي لحق ليمُضي باسم الدولة ويحول الوعود إلى برامج. والمرجح أنه سيكون المشهد نفسه في العلاقة مع تركيا والجزائر، وهناك أحاديث غير رسمية عن زيارات إلى إيطاليا وإنجلترا ننتظر التثبت منها في قادم الأيام. وسيكون ذلك (لو ثبت) بمثابة اختراق سياسي وديبلوماسي في قلب أوروبا، خارج الخط السياسي العربي والإسلامي المساند للربيع العربي، وخاصة اختراق ضد الفيتو الفرنسي على الغنوشي وحزبه.

كما لو أنها معركة أخيرة قبل الانتصار

أحاديث الانقلابات على المسار الديمقراطي في تونس مزدهرة، لكنها تتحول إلى أماني/ تعزيات عن فشل الحالمين بتونس بدون "خوانجية"، أحاديث قوم لم يغادروا مربع ابن علي سنة 1990. لم تفلح الفئات التي عاشت بهذا الحلم في تحقيق حلمها منذ الثورة (وما قبلها طبعا)، وقد بذلت الكثير من أجله ولكن سعيها ارتد عليها حتى الآن وقد خسرت أرصدة كثيرة، وبعضهم خسر شرفه السياسي وأرصدة نضالية اصطنعها بالتظاهر بمعارضة ابن علي، ثم محصته الثورة والانتقال الديمقراطي فانكشفت عن استئصاليين ينافقون الديمقراطية، فكانت فاشية التجمعيين أقرب إليهم من الإيمان بتطوير الديمقراطية.

وفيما هم منشغلون بمكايدة الغنوشي وحزبه، تركهم الغنوشي يتهارشون، وذهب يمهد لتدبير أرزاق الناس في بلد عطله التهارش السياسي والأيديولوجي.

لقد خذلهم الرئيس أيضا، فقد التفوا حوله وربما كان في نيتهم أن يقوم هو بالذات بما يقوم به الغنوشي، لكن الرئيس حرن في مربع التأويل الدستوري فلم يكشف عن خيال سياسي ولا عن قدرة ديبلوماسية (من جر الآخر إلى مربعه؟ هذا حديث يطول). ونذكر على سبيل الاستطراف أنه دعا رئيس المجلس الانتقالي الليبي (بعد زيارة رئيس الحكومة) ليطلب منه أطباء لمدينة طبية حلم ببنائها في القيروان، وكأنه نسي أن لو كان لليبيا ما يكفيها من الأطباء لما جاء مرضاها يبحثون عن طبيب في تونس. لقد طلب من ليبيا الخدمة الوحيدة التي لا يمكنها تقديمها لتونس، وهذا كاشف لجهل كبير يحركه الكيد السياسي الذي يفتح المزيد من الطرق للغنوشي.

تجاوز المعركة الأيديولوجية في تونس هو خروج من مربع الاستئصال والذهاب إلى ما ينفع الناس، والناس هنا حكم يعتمد ما يصل إلى جيبه بعيدا عن خيالات النخب التي لا تراجع موقفها ولا تتقدم.. هنا الاستباق.

وهناك زوايا أخرى للنظر إلى هذا المشهد، أن الغنوشي يتحول إلى مفاوض أول باسم الدولة. ونلاحظ أن حركة السفراء الأجانب وخاصة الغربيين إلى مكتبه كرئيس برلمان وإلى مكتبه كرئيس حزب حاكم بالقوة؛ تحوله إلى رئيس فعلي. السفراء المؤثرون يتحدثون مع الغنوشي ولهذا الحديث نتائج تظهر تباعا، وبعض نتائجها اضطراب حركة الرئيس الذي فقد دوره ويحاول الترقيع فلا يفلح. وحتى محاولته الأخيرة بفصل رئيس الحكومة عن رئيس البرلمان باءت بالفشل، فقد خرج رئيس الحكومة من قصر الرئيس نحو لقاء جربة ثم مطار الدوحة، وهي المحطات التي مهدها الغنوشي.

في سباق المسافات الطويلة، قصّر الرئيس دون مهامه وتقدم الغنوشي في الفراغ المتروك، والاتجاه الآن إلى الصندوق الانتخابي. وسيكون الأمر بمثابة معركة أخيرة مؤذنة ببقاء من ينفع الناس، إذ يفوز باللذة الجسور.

في السنوات العشر من الثورة خسر الاستئصاليون أدعياء التقدمية كل معاركهم مع الغنوشي وحزبه.. لم يثبتوا أن "الخوانجية أعداء المرأة"، ولم يثبتوا أن "الخوانجية يصلون بالانتخابات ثم ينقلبون عليها"، ولم يثبتوا بدليل وحيد أن "الخوانجية يرعون الإرهاب". وفي الوقت الذي ما زال هؤلاء التقدميون يضعون نفس الديسك ويتلذذون بسماعه، طوّر الغنوشي حركته مستفيدا من قوته القليلة، ولكن من "دروشة" خصومه أكثر.

العقبات المتبقية هي من جنس ما مضى وقد تدرب على تجاوزها، وفهم آليات التفكير التي تعارضه ولم يعد يبذل جهدا كثيرا في مقارعتها. والمتنفس الاقتصادي القادم سيصب في سلته الانتخابية، وهناك علامة أولى بدأت في التجلي.. أعلى الأصوات ضد دولة قطر "الإخوانية" صمتت صمن القبور في انتظار 25 ألف عقد عمل قد يجلبها المشيشي من هناك. سيدخلون موسم الحج إلى سفارة قطر، فالريال القطري له عطر خاص، خاصة وأن اليورو الفرنسي أخلف موعده.

سيبدأ اليسار الاستئصالي في إنتاج المناحات الأدبية ولن نقرأ لهم، تلك علامات الموت القادم.
التعليقات (2)
شريف عبدالوهاب
الأربعاء، 02-06-2021 01:20 م
مع إحترامي لكل ما سردته وجزمي بأنها حقائق لا يمكن إنكارها، فهناك نقطة قد تكون أكثر أهمية ولم تذكرها وهي الوثيقة الانقلابية المسربة التي اعترف بها الرئيس ولم يأخذ حيال القائمين وراءها بأي إجراء يذكر، مما يوحي بأنه راض عنها وعن معديها، وأعتقد أنها ستكون أول ما يحاسب بها الشعب عليه في الاستحقاق الانتخابي القادم رضي عن ذلك أم لم يرضَ عنه، إنها كانت أسوأ فخٍ أوقعوه فيه مساعدوه.
شريف عبدالوهاب
الأربعاء، 02-06-2021 01:05 م
من المعلوم أن الغنوشي إنتخب الرئيس سعيد الذي لولاه لما فاز إطلاقاً، وكان الأجدر بالأخير أن يرد له المعروف بالحسنى، والعمل معه إيجابياً فيما ينفع ويخدم البلاد والعباد، فإذا به يحاول جاهدا إخراجه من المشهد السياسي وكأنه لا يريد العودة إلى كرسي الحكم مرة أخرى لأنه ليس له حزب أولاً، وحتى إذا أسس حزبا فإنه لن يضمن له فوزا بسبب تأخر الوقت وعدم الخبرة!!!. إنها ظاهرة عجيبة حقا.