قضايا وآراء

"إلى عرفات الله".. أحمد شوقي وهروبُه من الحجّ مع الخديوي عبّاس

محمد خير موسى
1300x600
1300x600
في عام 1909م قرّرَ الخديوي عبّاس حلمي الثّاني (ت: 1944م) السّفرَ إلى الحجّ ومن الطبيعيّ أن تكون هذه الرّحلة تاريخيّة إذ ستكون على ظهور الإبل والخيل ومن ثمّ على ظهور السّفن التي تمخر عباب البحار.

اصطحب الخديوي معه في رحلته هذه أمّه أمينة هانم إلهامي (ت: 1931م)، حفيدة السّلطان العثماني عبد المجيد الأوّل (1861م)، كما اصطحب معه كبار رجال الدّولة ومنهم المؤرّخ المعروف أحمد شفيق (1940م)، وناظر الأوقاف أحمد خيري، والشّيخ محمّد شاكر وكيل مشيخة الأزهر الشّريف (ت: 1939م).

وكان من أهمّ من اصطحبهم الخديوي عبّاس حلمي الثّاني في حجّه هذا الرّحّالة والمؤرّخ محمد لبيب البتنونى (ت: 1938م)، الذي سطّر تفاصيل هذه الرّحلة في كتاب من أهمّ الكتب التي تصنّف تحت كتب أدب الرّحلات عرف باسم "الرّحلة الحجازيّة"، واسمه كاملا "الرّحلة الحجازيّة لوليّ النّعم الحاج عبّاس حلمي باشا الثّاني خديوي مصر".

والكتاب يمثّل وثيقةً تاريخيّة بالغةً الأهميّة، ليس من جهة توثيقه للمشاهدات المباشرة لتفاصيل الحجّ في ذلكم العام فحسب؛ بل من جهة ما حوى من موضوعاتٍ جديدةٍ لم تحفل بها كتب رحلات الحجّ الأخرى.

فهو وإن كان يندرج تحت تصنيف أدب الرّحلات بشكل عام، غير أنّ الإنصاف يقتضي إدراجه تحت الكتب التّاريخيّة والأثريّة والاجتماعيّة معاً، فقد تميّز عن غيره من الكتب التي وصفت رحلة الحجّ في تلكم الفترة في أنّه يصف أرض الحجّ والحرمين الشريفين وصفاً دقيقاً، وقد رسم خرائط دقيقة واستعان أيضاً بما صوّره وخطّطه اللواء محمد صادق باشا (ت: 1902م)، وهو من أهمّ واضعي الخرائط في تلكم الفترة وأوّل من صوّر الحرمين. كما وثّق معلوماته أيضاً بالصّور الفوتوغرافيّة التي التقطها اللواء إبراهيم رفعت باشا (ت: 1935م)، وهو من روّاد التّصوير الفوتوغرافي في الحرمين في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين.

وبالإضافة إلى سرد أحداث الرّحلة بلغة فيها الكثير من الجزالة والتّشويق؛ فقد تحدّث البتنوني عن تركيبة المجتمع في الحجاز وقبائله وعاداته، وفصّلَ القول في الآثار النبويّة التي تمّ هدمها بعد ذلك إثرَ قيام الدّولة السّعوديّة.

أحمد شوقي والهروب من موكب الخديوي

ما كان للخديوي عبّاس حلمي الثّاني أن يصطحب هذا الوفد كلّه ثمّ لا يطلب من صديقه المُقرّب وشاعر البلاط وأمير الشّعراء أحمد شوقي (ت: 1932)؛ أن يكون رفيقه في الحجّ.

حاول شوقي التملّص من الموافقة كونه يخاف من ركوب الإبل والخيل - حسب حجّته وتسويغه لفعلته - ولكنّه لا يستطيع الاعتذار، فهو ليسَ أكثر ترفاً من أمّ الخديوي التي ستكون ضمن هذا الوفد.
غادر شوقي القاهرة في صحبة الخديوي إلى الحجّ، حتّى إذا صار في صحراء العبّاسيّة غافل الرّكب وفرّ من القافلة واختفى في بيتٍ قريبٍ لأحد أصدقائه، حتّى مضت القافلة فعاد أدراجه إلى القاهرة وهو يعلم أنّ الخديوي سيغضب من تصرّفه هذا بعد أن يفتقده فلا يجده، فما كان منه إلا أن كتب قصيدةً اعتذاريّة

غادر شوقي القاهرة في صحبة الخديوي إلى الحجّ، حتّى إذا صار في صحراء العبّاسيّة غافل الرّكب وفرّ من القافلة واختفى في بيتٍ قريبٍ لأحد أصدقائه، حتّى مضت القافلة فعاد أدراجه إلى القاهرة وهو يعلم أنّ الخديوي سيغضب من تصرّفه هذا بعد أن يفتقده فلا يجده، فما كان منه إلا أن كتب قصيدةً اعتذاريّة في انتظار عودة الخديوي من الحجّ ليقدّمها بين يدي اعتذاره.

يعزو حسين شوقي هذا السلوك من أبيه أحمد شوقي إلى الأنانيّة؛ فيقول في كتابه "أبي شوقي":

"ألم يكن أبي أنانيّاً عندما تخلّى عن الخديوي حين سافرَ سموّه إلى الحجاز ليؤدّي فريضةَ الحجّ؛ ذلك العاهل الذي كان هو شاعر بلاطه، والذي كان يحبّه ويعطف عليه كلّ العطف؟!

وكان أبي كلّما روى هذا الحادث فيما بعد يضحك ملء شدقيه، يقول: إنّه أقنع سموّه بأنّه ذاهب معه إلى الحجّ ولكن لمّا بلغ ركب الخديوي بَنهَا، اختفى منه أبي، فجعل سموّه يبحث عنه ولكن دون جدوى. ويقول أبي: إنّه اختبأ إذ ذاك في منزل أحد أصدقائه، ولمّا عاد سموّه من الحجاز وأخذ يلوم أبي على فعلته، اعتذر هذا قائلاً: كلّ شيء إلّا ركوب ظهر الجمال يا أفندينا.

ولكي يعوّض سموّه عن هذا التّقصير نظم له قصيدة ترحيب وتهنئة بالحج الطويل عامرةً بالأبيات".

قصيدة "إلى عرفات الله"

كانت القصيدة الاعتذاريّة التي كتبها شوقي هي القصيدة الشّهيرة "إلى عرفات الله"، والتي ازدادت شهرتها أضعافا مضاعفة بعد أن غنّتها أم كلثوم بألحان رياض السّنباطي لأوّل مرّة عام 1951م، وغنّاها بعد ذلك المغنّون والمنشدون من مختلف الأوساط الإسلاميّة وغير الإسلاميّة بوصفها من أعظم القصائد المعبّرة عن شعيرة الحجّ.

والحقيقة أنّ القصيدة بالغة الفخامة وفيها الكثير من المعاني العميقة والرّقيقة المتعلّقة بشعيرة الحجّ، غير أنّ النّظر إليها بشكلّ كلّي يجعلنا ندرجها في قصائد مدح الملوك لا مدح الشّعائر المقدّسة. فالقصيدة المكوّنة من ثلاثةٍ وستّين بيتاً جاءت في غالبها مدحاً للخديوي عبّاس حلمي الثّاني، وقد اختارت أم كلثوم منها خمسةً وعشرين بيتاً لغنائها، ثمّ حذفت بعد الحفل الأوّل ثلاثة أبيات لتستقرّ على اثنين وعشرين بيتاً. وقد أجرت في العديد من الأبيات المغنّاة تعديلاتٍ أيضاً تنسجم مع المراد من غناء القصيدة في موسم الحجّ.

ومن الأبيات التي تمّ إجراء تغييرٍ في صياغتها المتعلّقة بالخديوي عبّاس حلمي الثّاني البيت الأوّل الذي يقول فيه شوقي:

إِلى عَرَفاتِ اللَهِ يا ابنَ محمَّدٍ
عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ في عَرَفاتِ

فأصبح الشّطر الأوّل من البيت:

إِلى عَرَفاتِ اللَهِ يا خَيرَ زائِرٍ

وكذلك البيت القائل:

إِذا زُرتَ يا مَولايَ قَبرَ مُحَمَّدٍ
وَقَبَّلتَ مَثوى الأَعظمِ العَطِراتِ

تم تعديل الشّطر الأوّل منه ليصبح:

إِذا زُرتَ بعدَ البيتِ قَبرَ مُحَمَّدٍ

وهناك تعديلات غير هذه في بعض الصّياغات، لكنّها ليست متعلّقة بالخديوي عبّاس حلمي.

وعند الوقوف مع بعض أبيات القصيدة نلمس روحاً اعتذاريّة عاليةً عند شوقي، فمن ذلك قوله في الحديث عن دعوة الخديوي له وتخييره له بين ركوب الخيول والإبل:
هكذا فرّ أحمد شوقي من الحجّ، وخلدت قصيدته "إلى عرفات الله" التي يستذكرُها النّاس مع حلول الحجّ من كلّ عام

دعاني إليك الصّالح "ابن محمدٍ"
فكان جوابي صالح الدعواتِ
وخيّرني في سابحٍ أو نجيبةٍ
إليك فلم أختر سوى العبراتِ
وقدمتُ أعذاري وذلّي وخشيتي
وجئت بضعفي شافعاً وشكاتي

وهكذا فرّ أحمد شوقي من الحجّ، وخلدت قصيدته "إلى عرفات الله" التي يستذكرُها النّاس مع حلول الحجّ من كلّ عام، ومَن يدري؛ فلعلّها تكونُ له شافعاً وزاداً - ولا نزكّي على الله أحداً ولا فِعلاً - إذ يقبلُ على مولاه تعالى وهو الذي لم يحجّ، لكنّه يسهم في إشعال حنيننا كلّ عامٍ إلى تلكم الدّيار؛ والله عنده حُسنُ المآب.

twitter.com/muhammadkhm

التعليقات (0)