قضايا وآراء

لماذا كانت جماعة الإخوان؟ وما أهمية بقائها؟ وإلى متى؟ (3-5)

أحمد عبد العزيز
1300x600
1300x600
تلقيت اتصالا هاتفيا قبل بضعة أيام، من أحد الأصدقاء المقيمين في إسطنبول؛ لتهنئتي بعيد الأضحى المبارك، أعاده الله علينا وعلى الجميع بالخير واليُمن والبركات.. وفي الأثناء، قال لي: "لقد حاولت الاتصال بك مرارا، خلال الفترة الماضية؛ كي أنقل إليك تحيات نفر من الإخوان المسلمين في مصر، واستفسارهم عن سبب توقفك عن الكتابة، في سلسلة "لماذا كانت جماعة الإخوان؟ وما أهمية بقائها؟ وإلى متى؟" إذ اعتبروها بداية قوية وحقيقية، لمراجعة جادة وموضوعية، لمفاهيم مضطربة، توارثتها أجيال من الإخوان!

طلبت إلى صديقي نقل شكري وامتناني لإخواني هؤلاء، وإبلاغهم بأن توقفي عن الكتابة كان إثر إصابتي بكوفيد 19، الذي طرحني في الفراش ما يربو على أربعين يوما، عانيت بعدها من آثاره الجانبية نحو شهرين، وها أنا أكمل حديثي، في هذا الموضوع الحيوي والهام، مستعينا بالله تعالى، بعد أن منَّ الله عليَّ بالشفاء..

في هذا الجزء، سأفسح المجال للأستاذ البنا؛ ليحدثنا بنفسه عن تجربته الفريدة بحق، نقلا عن كتابه "مذكرات الدعوة والداعية" الذي تكلم فيه (عن نفسه) بضمير الغائب، في لفتة موحية بإنكار الذات..

تصاريف القدَر

حصل الطالب حسن البنا على دبلوم مدرسة دار العلوم في حزيران/ يونيو 1927م، وكان ترتيبه الأول.. وجرت العادة وقتذاك على ابتعاث صاحب المركز الأول إلى أوروبا (فرنسا على وجه الخصوص)، وكان البنا في حيرة من أمره! هل يسافر إلى أوروبا لاستكمال دراسته، ويعود حاملا شهادة الدكتوراة، أم يبقى في مصر؛ ليواصل القيام بأحب الأعمال إلى قلبه، وهو "الدعوة"؟

لم تدم حيرة البنا طويلا، إذ تقرر إلغاء بعثة هذا العام لأسباب لم يُعلن عنها، فلم يبق إلا الوظيفة، وتم تكليف البنا بالتدريس في "مدرسة الإسماعيلية الابتدائية الأميرية"، إحدى مدارس مدينة الإسماعيلية (إحدى مدن قناة السويس، شرق القاهرة)، بيد أن البنا انزعج من هذا النبأ!.. يقول البنا في كتابه "مذكرات الدعوة والداعية":

"فوجئت بهذا التعيين، ولم أكن أدري أين الإسماعيلية بالضبط، وذهبت إلى ديوان المعارف معترضا، فلقيني أستاذنا عبد الحميد بك حسني، وبدعابته اللطيفة وروحه المرحة استطاع أن يهدئ من غضبي، واستعان بفضيلة أستاذنا الشيخ عبد الحميد الخولي (رحمه الله) وكان يزوره حينذاك. ودخل علينا الأستاذ علي حسب الله، ابن الإسماعيلية البار، فاستشهدا به على أنها من خير بلاد الله، وأنني سأجد فيها الخير والراحة، فهي بلد الهدوء، وجمال الطبيعة، والإنتاج الوفير.

وعدت فاستشرت الوالد، فقال على بركة الله، والخير ما يختاره. فانشرح صدري بذلك، وأخذت أعد العدة لهذا السفر الذي ظهرت حكمة الله فيه جلية واضحة، فيما بعد، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وسافرت على بركه الله، وأنا مشغول البال بالأسلوب الذي أسلكه للدعوة".

البداية من المقهى وليس من المسجد.. لماذا؟

يقول البنا في مذكراته: ".. وقد عرف هذا النزيل (البنا) فيما عرف، أن مدرسا إسلاميا سبقه في هذا البلد، وطلع على أهله بنظرات في الفكرة الإسلامية، بدت غريبة أمام معظمهم، ونشط لمقاومتها بعض علمائهم، فنتج عن ذلك انقسام بين الناس، وتحيز لآراء وأفكار لا تجتمع عليها القلوب، ولا تنبني معها الوحدة المنشودة التي لا تتحقق بدونها غاية".

ويتابع البنا: "فأخذ يفكر فيما يصنع (البنا)، وكيف يواجه هذا الانقسام، وهو يرى أن كل متكلم في الإسلام يواجهه كل فريق بفكرته، ويريد أن يضمه إلى جانبه، أو أن يعلم على الأقل أهو من حزبه أو من أعاديه، وهو (البنا) يريد أن يخاطب الجميع، وأن يتصل بالجميع وأن يلم شتات الجميع؟! فكر طويلا في ذلك (البنا)، ثم قرر أن يعتزل هذه الفرق كلها، وأن يبتعد ما استطاع عن الحديث إلى الناس في المساجد، فالمسجد وجمهور المسجد هم الذين ما زالوا يذكرون موضوعات الخلاف، ويثيرونها عند كل مناسبة. إذن فليترك هذا النزيل المسجد وأهله، وليفكر في سبيل أخرى يتصل بها بالناس، ولم لا يتحدث إلى جمهور القهوة في القهوة؟" (القهوة هي المقهى، في العامية المصرية).

ويواصل البنا: "ساورته هذه الفكرة حينا (البنا)، ثم اختمرت في رأسه، وبدأ ينفذها فعلا. اختار لذلك ثلاثة مقاهٍ كبيرة، تجمع ألوفا من الناس، ورتب في كل منها درسين في الأسبوع، وأخذ يزاول التدريس بانتظام في هذه الأماكن. وقد بدأ هذا اللون من ألوان الوعظ والتدريس الديني غريبا في نظر الناس أولا، ثم ما لبثوا أن ألِفوه وأقبلوا عليه".

نلاحظ: استفاد البنا من أخطاء مَن سبقه.. ابتعد (تماما) عن مواطن الجدل والخلاف.. خلص إلى أن من يرتاد المسجد (في ذلك الوقت) يظن نفسه على شيء، لذا فهو مستعد للجدال، لا سيما إذا كان محدثه شابا يافعا، في العشرين من عمره، قليل العلم والخبرة، كما قد يتصور.. راهن البنا على فطرة الناس، ومنهم جمهور "القهوة" الذي استهدفه.

أسلوب متفرد مَلَكَ القلوب

يقول البنا عن تجربته: "كان المدرس (البنا) دقيقا في أسلوبه الفريد الجديد، فهو يتحرى الموضوع الذي يتحدث فيه جيدا، بحيث لا يتعدى أن يكون وعظا عاما؛ تذكيرا بالله واليوم الآخر، وترغيبا وترهيبا، فلا يعرض لتجريح أو تعريض، ولا يتناول المنكرات والآثام التي يعكف عليها هؤلاء الجالسون بلوم أو تعنيف، ولكنه يقنع بأن يدع شيئا من التأثير في هذه النفوس وكفي.

وهو كذلك يتحرى الأسلوب فيجعله سهلا جذابا مشوقا، خليطا بين العامية أحيانا، ويمزجه بالمحسات والأمثال والحكايات، ويحاول أن يجعله خطابيا مؤثرا في كثير من الأحيان. وهكذا يتحايل (البنا) دائما على جذب هذه النفوس، باعثا الرغبة والشوق إلى ما يقول. وهشو بعد هذا لا يطيل حتى لا يُمل، ولكنه لا يزيد في الدرس على عشر دقائق، فإذا أطال فربع ساعة، مع الحرص التام على أن يوفِّي في هذا الوقت معنى خاصا، يقصد إليه، ويتركه وافيا واضحا في نفوس السامعين.

وهو حين يعرض (فيما يعرض) لآية أو حديث، يتخير تخيرا مناسبا، ثم يقرأ قراءة خاشعة، ثم يتجنب التفاسير الاصطلاحية، والتعليقات الفنية، ويكتفي بالمعنى الإجمالي يوضحه، والاستشهاد المقصود يشرحه".

ويضيف البنا: "كان لهذا المسلك أثره في الجمهور الإسماعيلى. وأخذ الناس يتحدثون ويتساءلون، وأقبلوا إلى هذه المقاهي ينتظرون، وعمل هذا الوعظ عمله في نفوس المستمعين، وبخاصة المواظبين منهم، فأخذوا يفيقون ويفكرون، ثم تدرجوا من ذلك إلى سؤاله (البنا) عما يجب أن يفعلوا؛ ليقوموا بحق الله عليهم، وليؤدوا واجبهم نحو دينهم وأمتهم، وليضمنوا النجاة من العذاب، والفوز بالنعيم. وابتدأ هو يجيبهم إجابات غير نهائية؛ جذبا لانتباههم واسترعاء لقلوبهم، وانتظارا للفرصة السانحة، وتهيئة للنفوس الجامحة.

ويستطرد البنا: "وتوالت الأسئلة على المدرس (البنا) من هذه القلوب المؤمنة الطيبة، ولم يشف غليلها هذا الجواب المقتضب. وألح نفر من الإخوان (أي الرفاق، فلم تكن جماعة الإخوان قد تأسست بعد) في وجوب رسم الطريق التي يجب أن يسلكوها؛ ليكونوا مسلمين، ينطبق عليهم (بحق) وصف الإسلام، فهم يريدون أن يتعلموا أحكام الإسلام، بعد أن تحرك وجدانهم بشعور أهل الإسلام، فيشير عليهم المدرس (البنا) باختيار مكان خاص، يجتمعون فيه بعد دروس المقهي أو قبلها؛ ليتدارسوا هذه الأحكام، ويقع اختيارهم على زاوية نائية، في حاجة إلى شيء من الترميم والتصليح؛ للاجتماع ولإقامة الشعائر".

نلاحط: حسن اختيار الموضوعات.. لا تجريح ولا تعريض ولا تقريع لمستمعيه على ما بدا له منهم من سلوكيات خاطئة.. حسن عرض الفكرة بإيجاز غير مخل.. عدم الإسراف في التأصيل.. الابتعاد عن التقعر.. بذكاء حاد، أنشأ البنا حاضنة دعوية لمن يريد الاستزادة، وكان هذا الإجراء هو حجر الأساس في كيان الإخوان المسلمين.

(يُتبع)..

twitter.com/AAAzizMisr
التعليقات (0)