كتاب عربي 21

"بشعة" وكذابة!

طارق أوشن
1300x600
1300x600
كذابة...

فيلم سنودن- 2016 للمخرج أوليفر ستون.

زملاء في مكتب تابع للمخابرات المركزية الأمريكية في هاواي في سهرة خاصة. يبدأ أحدهم في الحكي..

زميل1: في فيغاس، كنا نراقب أفغانستان وكنا نعمل لساعات متأخرة حيث ظهر لنا ذلك الهدف غير الواضح يجول في منطقة الهجوم. علمنا جميعنا أنه كان صبيا. تمت إصابته وقضي عليه. طلبنا توضيحات فجاء التقرير مقتضبا: لقد كان كلبا. حسنا.. لا بأس. في نفس القرية بعد يومين أو ثلاثة، شاهدنا مراسم جنازة وعلمنا أنها للطفل الذي قاموا بدفنه. الآباء والأمهات كانوا ينتحبون، وجاءنا الأمر واضحا.. اقصفوهم. تمت إصابتهم وتلاشوا في سحابة من غبار.. كلهم.. العائلة بأكملها.

لا يختلف هذا الوصف إلا في التاريخ والتفاصيل عما حدث قبل أسابيع بمحيط مطار كابول، حيث قصفت القوات الأمريكية مدنيين بزعم أنهم كانوا يحضّرون لهجوم إرهابي. يومها، أكدت القيادة المركزية الأمريكية في بيان صدر عن المتحدث باسمها بيل أوربن؛ أن الولايات المتحدة نفذت ضربة جوية بواسطة طائرة مسيرة استهدفت مركبة في كابول بهدف "الدفاع عن النفس"، ما أدى إلى إزالة خطر وشيك على مطار حامد كرزاي الدولي من قبل جماعة "ولاية خراسان" التابعة لتنظيم "داعش" الإرهابي. وأوضح البيان أن الغارة ضربت الهدف بدقة، وأن الجيش الأمريكي يدرس إمكانية سقوط ضحايا بين المدنيين جراء العملية، لكن "ليس هناك أي مؤشرات على ذلك".
فرنسا، حليفة الولايات المتحدة، لم تعلق على الموضوع كما تفعل عندما يتعلق الأمر بأي هجوم "إرهابي" يقع في جزيرة الوقواق. الأمر لا علاقة له بمصلحة باريس، فهي متهمة كما "حليفتها" الكبرى بارتكاب مجازر ضد مدنيين، مثلما حدث قبل أشهر بمالي

اعتبر الجميع الخبر صادقا، فالأولوية كانت لإجلاء الرعايا الغربيين و"الخونة" من المتعاونين معهم خوفا مما ينتظرهم من مصير على أيدي "الهمج" الطالبان. بعدها بأيام، تبين أن قتلى الهجوم مدنيون من عائلة واحدة، كانت أصغرهم سمية وهي طفلة في ربيعها الثاني. اضطرت القيادة الأمريكية للاعتراف بالواقعة واعتبرت الهجوم "خطأ كارثيا".

فرنسا، حليفة الولايات المتحدة، لم تعلق على الموضوع كما تفعل عندما يتعلق الأمر بأي هجوم "إرهابي" يقع في جزيرة الوقواق. الأمر لا علاقة له بمصلحة باريس، فهي متهمة كما "حليفتها" الكبرى بارتكاب مجازر ضد مدنيين، مثلما حدث قبل أشهر بمالي، حيث ترابط قواتها منذ سنوات بهدف القضاء على "الإرهاب"، فأفنت في طريقها، في كانون الثاني/ يناير الماضي، حياة عشرات كانوا يحيون حفل زفاف. الفارق أن فرنسا لا تعتذر للضحايا، بل تواصل إنكار أية جرائم ترتكبها طائراتها المسيرة و"المخيرة" على حد سواء. فرنسا تعتذر فقط لـ"الخونة" والمتعاونين مع قواتها في الجزائر أيام الاستعمار، وتقلد بعضا منهم من الأحياء نياشين وميداليات لأسباب انتخابية لا علاقة لها بالذاكرة ولا بمواجهة تاريخها الاستعماري البغيض.

وفي المقابل، لا تتورع فرنسا عن اتهام طالبان بالكذب، كما جاء على لسان وزير خارجيتها ايف لودريان، في وقت كانت فيه تتسول العالم لعله يجلي بعضا من رعاياها من أفغانستان. باريس كانت تتحسر على حكومة أفغانية غابت عنها النساء. تلك أعرض نفسية المنهزمين عندما يجرون أذيال الخيبة ويقاسون من تجاهل "الحلفاء".
كذب ماكرون حين قال إن "الإسلام يواجه أزمة في كل أنحاء العالم"، ففرنسا هي التي صارت في عهده تواجه الأزمات أينما ولّت وجهها، حيث جرائم الماضي تتعقبها وجرائم الحاضر تشهد على "بشاعة" وجهها المتخفي وراء شعارات الأنوار، والبدء من الداخل الفرنسي

ولأن الأيام دول، فقد وجدت فرنسا نفسها في مواجهة نفس "الحلفاء" بعيدا عن أفغانستان، في منطقة المحيط الهادئ، فاضطرت لتوجيه "مدفعية" وزير خارجيتها للأستراليين، حيث استعار نفس الاتهام بالكذب، تعليقا على الضربة التي تلقتها صناعتها العسكرية واقتصادها المأزوم بإلغاء كانبيرا صفقة شراء غواصات تقدر بمليارات الدولارات. رفضت أستراليا الاتهام الفرنسي وقدمت روايتها للوقائع، فظهرت باريس "كاذبة" أمام مواطنيها، ولم ينفعها جيش محلليها التلفزيونيين ولا سحب السفراء أو التهديد بمراجعة موقفها من الناتو في تغطية ضعفها في مواجهة "الحلفاء". أقصى ما حصل عليه إيمانويل ماكرون مكالمة هاتفية من سيد البيت الأبيض قيل إنها تضمنت وعدا بمساعدة باريس في جهودها في مكافحة "الإرهاب" بمالي، حيث تعاني من ضربات التنظيمات المسلحة ومن "غدر" النظام الجديد بباماكو، والذي وجّه بوصلته نحو مرتزقة فاغنر، بما يعنيه ذلك من فتح المجال أمام الدب الروسي لاقتسام كعكة النفوذ والثروات هناك.

كذب ماكرون حين قال إن "الإسلام يواجه أزمة في كل أنحاء العالم"، ففرنسا هي التي صارت في عهده تواجه الأزمات أينما ولّت وجهها، حيث جرائم الماضي تتعقبها وجرائم الحاضر تشهد على "بشاعة" وجهها المتخفي وراء شعارات الأنوار، والبدء من الداخل الفرنسي.

بشعة..

ليس في ما سيأتي ما هو أبشع مما سبق، لكن فرنسا التي تواجه أزمات "وجود" في كثير من بقاع النفوذ التقليدي. وأمام الضربات المتتالية التي تتلقاها من "الحلفاء" قبل الأعداء، مستمرة بلا كلل أو ملل في صراعاتها الداخلية التي تلوك الأسطوانة المشروخة للدفاع عن "نقاء" الهوية الفرنسية وعالمية مبادئ ثورتها. ولأن الانتخابات الرئاسية على الأبواب، فقد تحول النقاش السياسي من البحث عن الحلول الاقتصادية لمواجهة أزمات الداخل، أو تقديم قراءات ورؤى استراتيجية تتيح الإبقاء على مناطق النفوذ واختراق مناطق أخرى؛ إلى صراع يميني- يميني يتخذ من الهجرة ذريعة وحيدة للبقاء واستمالة أصوات الناخبين.
لأن الانتخابات الرئاسية على الأبواب، فقد تحول النقاش السياسي من البحث عن الحلول الاقتصادية لمواجهة أزمات الداخل، أو تقديم قراءات ورؤى استراتيجية تتيح الإبقاء على مناطق النفوذ واختراق مناطق أخرى؛ إلى صراع يميني- يميني يتخذ من الهجرة ذريعة وحيدة

ولعل بروز اسم إيريك زمور، الكاتب الذي لا يدخر جهدا في اللعب على وتري الهجرة والأمن، معول لهدم ما تبقى من مبادئ الجمهورية التي تمثل الخرقة الوحيدة التي تستر "عورة" فرنسا وتحقق لها بعضا من المكانة الرمزية بين الأمم. إيريك زمور، المؤمن بنظرية الاستبدال الكبير لصاحبها رونو كامو، يصول اليوم ويجول بين مدن فرنسا لتقديم كتابه الجديد في تجمعات أقرب ما تكون لحملة انتخابية سابقة لأوانها.

ولأن الرجل يحقق أرقاما جيدة في استطلاعات الرأي، فقد تحول لظاهرة تشغل فرنسا وساستها وصحافتها رغم ضحالة فكره وهزالة ما يقدمه محاور للنقاش. الغريب أن الرجل لا يعلن عن حلول اقتصادية ولا يعرض برنامجا انتخابيا، بل مجرد شعارات مستهلكة للتخويف من الهجرة والمهاجرين.

فرنسا، الغارقة في وهم العظمة الكذابة، لا تزال تعتقد نفسها أرضا يرنو الحالمون بالهجرة إلى الاستقرار فيها، وهي التي ترى كيف تحولت غابة منطقة كاليه لنقطة استراحة للراغبين في العبور للضفة الأخرى من بحر المانش. فرنسا بالنسبة لكثير من مستضعفي العالم مجرد أرض عبور لبريطانيا وبقية دول الشمال، لكن الساسة الفرنسيين يكذّبون الواقع ويواصلون العزف على ورقة انتخابية لا تزال رابحة حتى حين.

فرنسا التي استغلت ولا تزال ثروات مستعمراتها، وهجرت إليها في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية آلاف أبنائها لإعادة إنعاش اقتصادها المتهالك، تدعي أنها أرض الأحلام. لأجل ذلك، يفرض يمينيوها الشروط ويعد بعضهم بمنع المسلمين من تسمية أبنائهم باسم "محمد"، كما يفعل إيريك زمور، ذو الأصول الجزائرية، لأن "تسمية الأبناء محمدا يعني استعمار فرنسا". زمور يتوعد بإعادة العمل بقانون يعود للعام 1803 ويمنع تسمية المواليد بأسماء "غير فرنسية"، وفي نفس الإطار يسمي كتابه/ برنامجه الانتخابي "فرنسا لم تقل كلمتها الأخيرة بعد.." تجسيدا لخصلتَي البشاعة والكذب المتأصلتين في تاريخ وحاضر بلاد "الأنوار".
التعليقات (1)
فيروسات الحضاراة
الجمعة، 24-09-2021 10:28 م
قال ترامب أن ولاء صهره كوشنر هو إلى الإحتلال و ليس إلى أمريكا نفس الشي يقال على النخب الفرنسية جلهم صهاينة و هم من يخرب فرنسا . الشباب الفرنسي تحت ضغط كبير و غدا ينفجر و هكذا يتكرر التاريخ