قضايا وآراء

بعض الوفاء للفريق الشاذلي في ذكرى أكتوبر

قطب العربي
1300x600
1300x600
كانت أمنية للكثيرين ممن سمعوا أو قرأوا عن الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان حرب الجيش للمصري في حرب 1973، أن تلامس أيديهم يده فيقبلونها، أو حتى يرونه بشكل مباشر (مجرد رؤية). وقد تحقق لي أكثر من ذلك بالجلوس معه والاستماع إليه حين كان يشارك في الندوات التي تنظمها جريدة الشعب الناطقة بلسان حزب العمل (مقر عملي) في النصف الثاني من التسعينيات وبعد إطلاق سراحه من محبسه الذي قضى فيه عامين (يمثلان ثلثي العقوبة التي حكمت بها عليه محكمة عسكرية أواخر عهد السادات، ونفذها مبارك بالقبض عليه في مطار القاهرة لحظة عودته من الجزائر عام 1992).

لم يكن الشاذلي مجرد قائد عسكري كبير حقق النصر المستحيل لوطنه المثخن بجراحات وانكسارات أربع هزائم سابقة، لكنه كان فوق هذا مفكرا استراتيجيا، أيضا مفكرا إسلاميا. وقد سبق للرجل أن كتب كتابا عن العقيدة العسكرية قبيل حرب أكتوبر؛ بناه بشكل أساسي على المبادئ الإسلامية وخبرات العسكرية الإسلامية. وأتذكر جيدا مشاركته في ندوة بمقر جريدة الشعب التي كنت أعمل بها حول الشورى، كانت الندوة تناقش كتاب الفقيه الدستوري الدكتور توفيق الشاوي، وبحضوره هو وزوجته الدكتورة نادية السنهوري (كريمة الدكتور عبد الرازق السنهوري)، والكتاب بعنوان فقه الشورى والاستشارة، فكانت للشاذلي مداخلة قوية دفاعا عن إلزامية الشورى في وجه من رأوا أنها معلمة وليست ملزمة.
لم يكن الشاذلي مجرد قائد عسكري كبير حقق النصر المستحيل لوطنه المثخن بجراحات وانكسارات أربع هزائم سابقة، لكنه كان فوق هذا مفكرا استراتيجيا، أيضا مفكرا إسلاميا

كان حزب العمل الذي يصدر جريدة الشعب في ذلك الوقت يضم بعض القادة العسكريين السابقين الذين شاركوا في حرب أكتوبر، ولهم صلة جيدة بالفريق الشاذلي، بينهم اللواء أركان حرب طلعت مسلم رحمه الله (توفي في 10 كانون الأول/ ديسمبر 2020) وكان خلال الحرب قائد اللواء 18 مشاة ميكانيكي، كما أصبح لاحقا رئيس وحدة الدراسات العسكرية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية قبل أن ينضم لحزب العمل اقتناعا بموقفه الداعم للعراق خلال حرب الخليج الثانية، والعقيد محمد بدر وكان الأقرب روحيا للفريق الشاذلي، وكلاهما ممن كانا يدعمان مواقف الشاذلي خلال حرب أكتوبر، وهما اللذان كانا يدعوانه لتلك الندوات.

لم يكن الشاذلي على خلاف مع الرئيس مبارك قبل الحرب، بل العكس هو الصحيح، فقد عيّنه السادات رئيسا للأركان - متخطيا أربعين لواء - في اليوم التالي مباشرة لما عرف بحركة التصحيح في 15 أيار/ مايو 1971 (يصفها السادات بثورة التصحيح) للتخلص من مراكز القوى من رجال الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، ورغم أن الشاذلي كان من المستفيدين من تلك المعركة إلا أنه وصفها في كتابه "مذكرات حرب أكتوبر" بالانقلاب، وهو تعبير غير دقيق، لأن السادات هو من كان يمتلك الشرعية في مواجهة مراكز قوى حاولت تعطيله. والحقيقة أن السادات والشاذلي تبادلا المواقف العدائية تجاه بعضهما منذ قرار تطوير الهجوم الذي أراده السادات ورفضه الشاذلي، وما تلا ذلك من خلاف حول التعامل مع الثغرة.

ولم يكن الشاذلي من العسكريين الطيّعين الذين يستقبلون الأوامر السياسية فينفذونها دون تمحيص، لأنه كان صاحب رؤية استراتيجية، وقد صب رؤيته تلك في خطة المآذن العالية التي تطورت لاحقا تحت اسم الخطة بدر لعبور القناة والتوغل في سيناء لمسافة 12 كيلومترا، وهي المسافة التي تقع ضمن حدود الدفاع الجوي المصري، ولذلك عارض الشاذلي تطوير الهجوم شرقا الذي أمر به السادات منتصف تشرين الأول/ أكتوبر 1973 لتخفيف الضغط على الجبهة السورية؛ حتى لا تخرج القوات المصرية من مظلة الدفاع الجوي فتصبح لقمة سائغة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما حدث فعلا حين تم تطوير الهجوم، حيث فقد الجيش المصري في اليوم الأول فقط لذلك التطوير ما بين 250 و300 دبابة دفعة واحدة، كما تمكن العدو من إحداث ثغرة "الدفرسوار" عبر منها إلى الجانب الغربي للقناة ليحاصر مدينة السويس والجيش الثالث لمدة أربعة أشهر.
ربما كان تقدير الكثيرين للفريق الشاذلي لمعرفتهم بتاريخه العسكري، ولرفضهم للظلم الذي تعرض له، ولدفعه ثمنا باهظا لمواقفه السياسية والعسكرية نفيا وسجنا، وهو ما يمنحه أيضا صفة المناضل السياسي، وهذا الموقف لا يقلل من التقدير لباقي قادة نصر أكتوبر الذين ظلوا أوفياء لمبادئهم حتى وفاتهم


لا يعني ذلك انحيازا كاملا لكل مواقف الشاذلي، وتقليلا أو تحقيرا لمواقف غيره من القادة العسكريين لحرب أكتوبر الذين خالفوه الرأي، فقد كان الجميع مجتهدون لما فيه المصلحة. ومن ذلك مثلا الخلاف حول مواجهة الثغرة، حيث رأى هو سحب فرقتين من الشرق على الغرب للقضاء على الثغرة، فيما رفض الرئيس السادات وبعض القادة العسكريين ذلك؛ حرصا على الحالة المعنوية وحتى لا يظن باقي الجيش أن هذه الفرق تنسحب فيتبعها آخرون بالانسحاب كما حدث في هزيمة 1967.

ربما كان تقدير الكثيرين للفريق الشاذلي لمعرفتهم بتاريخه العسكري، ولرفضهم للظلم الذي تعرض له، ولدفعه ثمنا باهظا لمواقفه السياسية والعسكرية نفيا وسجنا، وهو ما يمنحه أيضا صفة المناضل السياسي، وهذا الموقف لا يقلل من التقدير لباقي قادة نصر أكتوبر الذين ظلوا أوفياء لمبادئهم حتى وفاتهم.

لم تقبل شخصية الشاذلي الترضية بتعيينه سفيرا في لندن بعد إخراجه من القوات المسلحة في كانون الأول/ ديسمبر 1973، وحين وقع السادات اتفاقية كامب ديفيد عارضها بقوة، وضحّى بمنصبه، ولجأ إلى الجزائر ليقود المعارضة من الخارج ضد الرئيس السادات ومشروع كامب ديفيد. وهناك ألّف كتابه "مذكرات حرب أكتوبر" الذي تضمن خفايا وأسرارا لم يكن مسموحا بها في الإعلام المصري، وأنهاه بعريضة اتهام للرئيس السادات بالخيانة العظمى، ومطالبا بمحاكمته على ذلك، فتمت مصادرة الكتاب ومحاكمة الشاذلي بتهمة إفشاء أسرار عسكرية، وحكمت عليه محكمة عسكرية بالسجن ثلث سنوات.

كان الشاذلي هو قائد المعارضة الخارجية للرئيس السادات، ومن بعده مبارك الذي لم يكن أقل عداء له من السادات بسبب موقف قديم حكاه هو؛ مفاده أن السادات وسط مبارك لديه أثناء خلافهما، ولكنه رفض وساطة مبارك لأنه أقل رتبة منه، وهو ما اعتبره مبارك تحقيرا له

وخلال فترة سجنه تم إيداعه في زنزانة شديدة السوء، على خلاف العرف العسكري الذي يتسامح عادة مع القادة العسكريين السجناء، كما حاول نظام مبارك لاحقا نقله إلى مستشفى الأمراض النفسية والعقلية (السرايا الصفراء) ليتسنى له الإفراج الصحي عنه، لكنه رفض ونهر الضابط الذي عرض عليه هذا الأمر. لقد أدرك ساعتها أن نظام مبارك يريد تصويره أمام الرأي العام باعتباره "مجنونا"، وقد رد هو على الضابط بأن مبارك هو المجنون وليس هو (الشاذلي)، ورفض أن يخرج من السجن بتلك الحيلة (وقد سمعت هذه الرواية منه).

خلال فترة وجوده في الجزائر التي امتدت حتى العام 1992، كان الشاذلي هو قائد المعارضة الخارجية للرئيس السادات، ومن بعده مبارك الذي لم يكن أقل عداء له من السادات بسبب موقف قديم حكاه هو؛ مفاده أن السادات وسط مبارك لديه أثناء خلافهما، ولكنه رفض وساطة مبارك لأنه أقل رتبة منه، وهو ما اعتبره مبارك تحقيرا له، فأسرّها في نفسه في انتظار الفرصة للانتقام، وقد جاءته تلك الفرصة بعد توليه الرئاسة فأودعه السجن بمجرد وصوله إلى مصر، ثم حاصره إعلاميا وسياسيا وقضائيا، وكان يرفض أي ذكر له في وسائل الإعلام.

 

كان أول تكريم رسمي له على يد الرئيس الراحل محمد مرسي في احتفال ذكرى نصر أكتوبر عام 2012، وقد تسلمت التكريم زوجته وابنته، اللتان ما لبثتا أن انحازتا لانقلاب السيسي لاحقا للأسف الشديد، متجاهلتين تلك اللفتة الكريمة التي ظل الشاذلي محروما منها طيلة حياته

وأتذكر أنه حين احتفلت القوات المسلحة باليوبيل الفضي لنصر أكتوبر عام 1998 دعت كل قيادات أكتوبر الأحياء في ذلك الوقت، ومنحتهم الفرصة للحديث في الندوات، باستثناء الشاذلي. وقد سألت شخصيا قائدا عسكريا كبيرا من منظمي الحفل عن ذلك فكان رده أن هذا الأمر (يقصد استبعاد دعوة الشاذلي) يخص القيادة السياسية، ويقصد مبارك، وأن من الأفضل عدم توجيه مثل هذا السؤال منعا للإحراج.

توفي الشاذلي يوم 10 شباط/ فبراير 2011 أي قبل يوم واحد من تنحي مبارك، وقد أقام له المجلس العسكري الانتقالي جنازة عسكرية لم تكن لتتم لو كان مبارك مستمرا في الحكم، لكن الأهم من الجنازة العسكرية هو الجنازة الرمزية الشعبية التي أقمناها له في ميدان التحرير، ثم كان أول تكريم رسمي له على يد الرئيس الراحل محمد مرسي في احتفال ذكرى نصر أكتوبر عام 2012، وقد تسلمت التكريم زوجته وابنته، اللتان ما لبثتا أن انحازتا لانقلاب السيسي لاحقا للأسف الشديد، متجاهلتين تلك اللفتة الكريمة التي ظل الشاذلي محروما منها طيلة حياته.

twitter.com/kotbelaraby


التعليقات (0)