كتاب عربي 21

أزمة التفكير العربي المستقل: مركز دراسات الوحدة العربية نموذجا

قاسم قصير
1300x600
1300x600
تشكّل مراكز الدراسات والأبحاث والتفكير أحد أبرز المظاهر الحضارية والعلمية في أي مجتمع، وتلعب هذه المراكز دورا مهما في تطوير الأفكار ونشرها وتعميمها والنقاش حولها وتطوير المجتمعات نحو الأفضل، كما أنها تشكل فضاء مهما لدعم المفكرين والباحثين وتقديم المقترحات والنصائح للقادة والمسؤولين في أي بلد أو مجتمع؛ من أجل تحسين الإدارة والحكم وتجنب الأخطاء ومواجهة مختلف التحديات.

وفي العالم العربي برزت العديد من مراكز الدراسات والأبحاث خلال العقود الستة الأخيرة، ولا سيما بعد هزيمة العام 1967 في الصراع مع العدو الصهيوني، وفي ظل التحديات العديدة التي واجهها العالم العربي. وكان مركز دراسات الأهرام من أهم هذه المراكز في مصر، والذي لعب دورا مهما في تعزيز حركة التفكير والنقاش في مصر والعالم العربي لدراسة أسباب الهزيمة وكيفية مواجهة تداعياتها المختلفة.
إن كانت الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في لبنان والعالم العربي أدت لإقفال بعض هذه المراكز والأبحاث، فإن هناك مؤسسات ومراكز بحثية وفكرية استمرت في النشاط والعمل رغم كل الظروف الصعبة التي عانت منها

وفي بيروت نشأت العديد من مراكز ومعاهد الدراسات والأبحاث ودور النشر التي واكبت المتغيرات في العالم العربي وتطور القضية الفلسطينية، بعض هذه المراكز اهتم بالقضية الفلسطينية والصراع مع العدو الصهيوني، كمؤسسة الدراسات الفلسطينية ومركز الأبحاث الفلسطيني ومركز التخطيط ومؤخرا مركز الزيتونة للدراسات ومركز باحث وغيرها، وبعضها اهتم بالفكر العربي وتطوره، كمعهد الإنماء العربي، في حين أن هناك العديد من المراكز اهتمت بتنظيم المعلومات وإصدار الدراسات والأبحاث ومواكبة قضايا التنمية والحوكمة والقضايا السياسية والاقتصادية. وإن كانت الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في لبنان والعالم العربي أدت لإقفال بعض هذه المراكز والأبحاث، فإن هناك مؤسسات ومراكز بحثية وفكرية استمرت في النشاط والعمل رغم كل الظروف الصعبة التي عانت منها.

ومن أهم وأبرز مراكز الدراسات العربية التي نشأت في بيروت في العام 1975 (ومع بدايات الحرب الأهلية) مركز دراسات الوحدة العربية، وذلك بمبادرة من المفكر العربي الراحل الدكتور خير الدين حسيب وبدعم وتعاون مع نخبة من الشخصيات الفكرية والعلمية والاقتصادية ورجال الأعمال العرب.

وقد اختار حسيب بيروت كمنفى له بعد أن اضطر لترك العراق بسبب الأوضاع السياسية التي كان يعاني منها، وبعد أن كان قضى في السجن عدة سنوات بسبب الخلاف مع قيادة حزب البعث آنذاك.

وقد نجح الدكتور خير الدين حسيب خلال 46 عاما من إقامته في بيروت ولحين وفاته العام الحالي؛ في تحويل مركز دراسات الوحدة العربية إلى أحد أهم مراكز الدراسات العربية المستقلة في العالم العربي. وقد أصدر المركز حتى الآن أكثر من ألف كتاب، فضلاً عن أكثر من 500 عدد من مجلته الشهرية "المستقبل العربي"، وعشرات الأعداد من المجلات الفصلية العلمية المتخصصة، كما نظم المركز عشرات الندوات والمؤتمرات حول قضايا الأمة العربية وعلاقاتها الإقليمية والدولية.
تنطلق أهداف المركز من العناصر الستة للمشروع النهضوي العربي، وهي: الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة، والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري. وعمل المركز لتحقيق أهدافه من خلال جملة من المشاريع والبرامج والأنشطة

وتنطلق أهداف المركز من العناصر الستة للمشروع النهضوي العربي، وهي: الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة، والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري. وعمل المركز لتحقيق أهدافه من خلال جملة من المشاريع والبرامج والأنشطة، أبرزها:

(1) إعداد الدراسات، الفردية أو الجماعية.

(2) نشر الكتب المعدّة سلفاً من جانب باحثين عرب في المجالات التي تتقاطع مع أهداف المركز.

(3) ترجمة الكتب المهمة الصادرة في بلدان وحضارات أخرى، يكون لنقلها إلى العربية أهمية في الاطلاع على تجارب الشعوب والحضارات والدول الأخرى والإفادة من هذه التجارب.

(4) نشر أطروحات الدكتوراه ذات القيمة العلمية والمعرفية المميزة.

(5) نشر المجلات البحثية العلمية المحكّمة، الفكرية والمتخصصة في العلوم الاجتماعية والعلوم السياسية والعلوم الاقتصادية.

(6) عقد الندوات والمؤتمرات التي تتناول قضايا ومشكلات المنطقة، التي يجمع كل منها عشرات الباحثين والمفكرين والخبراء العرب للبحث معاً في هذه القضايا والمشكلات.

(7) عقد الحلقات النقاشية المصغّرة لمتابعة القضايا الساخنة أو المحورية في المنطقة والعالم.

وقد حقق منذ تأسيسه إنجازات مهمة وضعته على قمة المراكز البحثية العربية المستقلة، وجعلت من إصداراته مرجعاً رئيساً للباحثين والمثقفين العرب في شتى القضايا المحورية التي تناولتها هذه الإصدارات.
كان لشخصية الدكتور حسيب والمجموعة الفكرية والعلمية والسياسية والاقتصادية التي دعمته وتعاونت معه؛ دور مهم في بلورة هذه المشاريع وتطويرها، وأهمها المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي- الإسلامي ومخيمات الشباب العربي ومؤسسات الترجمة وحقوق الإنسان، والحوار العربي- الإيراني- التركي

لكن أهمية المركز لا تقتصر على دوره العلمي والفكري والبحثي، بل من خلال تحوله إلى منطلق لحركة فكرية وسياسية ونهضوية في العالم العربي، من خلال سلسلة الأفكار والمشاريع التي ساهم في اطلاقها ودعمها ورعايتها. وكان لشخصية الدكتور حسيب والمجموعة الفكرية والعلمية والسياسية والاقتصادية التي دعمته وتعاونت معه؛ دور مهم في بلورة هذه المشاريع وتطويرها، وأهمها المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي- الإسلامي ومخيمات الشباب العربي ومؤسسات الترجمة وحقوق الإنسان، والحوار العربي- الإيراني- التركي، إلى غير ذلك من المشاريع والأفكار المهمة.

وقد يكون مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي الذي بدأ في أوائل الثمانينات من القرن الماضي من أهم هذه المشاريع، وعلى ضوء نتائج هذا المشروع كان الاهتمام الكبير بالحركات الإسلامية وتطوير الفكر العربي، والدعوة إلى الحوار القومي- الديني والقومي- الإسلامي، والحوار بين العالم العربي ودول الجوار (إيران وتركيا ودول أفريقيا).

وقد تكون استقلالية المركز وعدم تبعيته لأية دولة أو حزب أحد أبرز ميزات هذا المركز، رغم قناعات الدكتور خير الدين حسيب والمجموعة المؤسسة بالفكر القومي العربي وخلفيات بعضهم الحزبية والسياسية. وخلال السنوات الست والأربعين الماضية حرص المركز على هذه الاستقلالية، رغم ما تعرض له من حصار وتضييق أحيانا في بعض الدول العربية.

وقبل وفاة الدكتور خير الدين حسيب بسنوات قليلة انتقلت إدارة المركز إلى مجموعة جديدة، ومن أبرزها الدكتورة لونا أبو سويرح، مع مجلسي أمناء وإدارة جديدين. وقد نجحت هذه المجموعة في الحفاظ على دور المركز ونشاطاته المتنوعة عبر سلسلة الإصدارات والندوات المختلفة، رغم كل الظروف المالية والصحية والاقتصادية والأمنية الصعبة التي عانى منها لبنان والعالم خلال السنوات الأخيرة.
هذه الأزمة التي يعاني منها مراكز دراسات الوحدة العربية هي من أبرز تجليات أزمة التفكير العربي المستقل، لأن معظم مراكز الدراسات والأبحاث في العالم العربي أصبحت تابعة إما لدول أو أحزاب أو حركات سياسية أو مرتبطة بأجندات خارجية، مما يجعلها غير قادرة على دعم التفكير الحر لمواجهة مختلف التحديات الداخلية والخارجية أو تقديم الأفكار الجريئة لصناع القرار

لكن يبدو أن المركز يواجه اليوم أزمة مالية خطيرة بسبب الأوضاع الخاصة بلبنان، وعدم سماح البنوك اللبنانية للمودعين في الحصول على أموالهم بالعملة الصعبة، وتراجع سعر الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأمريكي وارتفاع تكاليف الطباعة والنشر. وكل ذلك وضع المركز في ظروف صعبة دفعت المشرفين عليه لتوجيه نداء خاص لدعمه والتعاون معه، وخصوصا من خلال شراء منشوراته وكتبه.

وهذه الأزمة التي يعاني منها مراكز دراسات الوحدة العربية هي من أبرز تجليات أزمة التفكير العربي المستقل، لأن معظم مراكز الدراسات والأبحاث في العالم العربي أصبحت تابعة إما لدول أو أحزاب أو حركات سياسية أو مرتبطة بأجندات خارجية، مما يجعلها غير قادرة على دعم التفكير الحر لمواجهة مختلف التحديات الداخلية والخارجية أو تقديم الأفكار الجريئة لصناع القرار والمسؤولين في العالم العربي، وتتحول بعض هذه المراكز إلى مجرد أدوات للدعاية لأصحاب القرار السياسي.

ومن هنا أهمية الالتفاف حول مركز دراسات الوحدة العربية وكل مراكز التفكير والبحث المستقلة، وتقديم كافة أشكال الدعم لها، لعل ذلك يساهم في حماية التفكير العربي المستقل وتطويره، بدل القضاء على هذه الفسحة الهامة والمشرقة في العالم العربي.

twitter.com/KassirKassem
التعليقات (0)