كتب

هل هناك حاجة لإعادة كتابة التاريخ الفلسطيني؟ آراء مؤرخين

كتّاب ومؤرخون فلسطينيون ينتقدون محاولات الاحتلال لتزوير التاريخ ويدافعون عن الرواية الفلسطينية
كتّاب ومؤرخون فلسطينيون ينتقدون محاولات الاحتلال لتزوير التاريخ ويدافعون عن الرواية الفلسطينية

الكتاب: إعادة كتابة التاريخ الفلسطيني
إعداد: حسام أبو النصر 
الناشر: بيت القدس للدراسات والبحوث الفلسطينية؛ أبو غوش للنشر والتوزيع، 2021

هدف المُعد، من وراء كتابه هذا، إلى "تصحيح مفاهيم متداولة، في كتابة التاريخ، بشكل عام، والفلسطيني، بشكل خاص". (مقدمة المعد، ص 7) ولتحقيق هذا الهدف، حشد معد الكتاب كوكبة من المؤرخين العرب: د. عاصم الدسوقي (مصر)، أحمد الدبش، عبد القادر سطيح، عبد القادر ياسين، د. جوني منصور، د. سلمان أبو ستة، ومعين الطاهر (فلسطين).

في المدخل، أشار أبو النصر إلى "أن فكرة إعادة كتابة التاريخ، تنبَّه لها كثير من المؤرخين، خاصة بعد احتلال فلسطين، لمحاولة ربط المشروع الاستعماري بالتاريخ اليهودي في المنطقة". (ص9)

لقد بدأ التاريخ الفلسطيني القديم من النطوفيين، وما قبل، وصولا إلى التاريخ الحديث، والحكم العثماني. وقد تعرَّض هذا التاريخ لكثير من المغالطات، والالتباسات، وبدأت عمليات التزوير، بعد وصول المستشرقين إلى فلسطين، ما بين القرنين، السادس عشر والسابع عشر، وبلغ التزوير ذروته، في حملة نابليون بونابرت على فلسطين (1799م)، وقبلها بعام على مصر. وتسارعت وتيرة تزوير التاريخ، على أيدي المحتلين الصهاينة، بعد إقامتهم كيانهم، وتعزَّزت هذه المحاولات، بعد هزيمتنا في حرب 1967. (ص10 ـ 12).

يشكو المعد من ندرة المصادر، والمراجع، ومن تطفُّل غير المتخصصين على عالم التاريخ، مع ندرة المتخصصين، والباحثين في الآثار. وقد اعتبر المؤرخون سقوط الدولة البيزنطية، وفتح القسطنطينية (1453م) على أيدي العثمانيين، بداية للتاريخ الحديث. ويغص الأرشيف العثماني بالمادة التاريخية الضرورية للمؤرخ العربي. (ص14 ـ 18).

حتى التاريخ المعاصر لم يسلم من التزوير، خاصة بعد نكبة 1948 الفلسطينية، وقد تصدى كل من "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" (1963)، و"مركز الأبحاث" (1964)، لمهمة توثيق نضالات الشعب الفلسطيني. ولا أدري لماذا أغفل المعد اسم د. كامل محمود خلة من بين المؤرخين الفلسطينيين. وجاء التشكيك في الروايات التاريخية، من خارج عِلم التاريخ؛ شعراء، وسياسيون، وأحزاب. (ص19 ـ 20).

اشتكى أبو النصر من تخليد الكثير من الشخصيات، السياسية والثقافية، بنصب تذكاري، أو تمثال، أو إطلاق اسمه على شارع، أو مؤسسة، وتغافل المستوى السياسي عن المؤرخين!

ختم أبو النصر بأن "الرد على الرواية الإسرائيلية، هو بالتاريخ الفلسطيني". (ص23)

لفت أول المشاركين في الكتاب، أ.د. عاصم الدسوقي، النظر إلى أن يُكتب عن التاريخ العربي، أو تاريخ فلسطين، دائما، حيث يُدخِل الكاتب وجهة نظره. بينما نحن بحاجة إلى ما يُعرف، في التاريخ، بالكتابة الموضوعية، وأن نُفرِّق بين تفسير الحدث والحكم عليه، دون أن نستخدم ألفاظا عظيمة، أو دونية. ويُلاحظ الدسوقي بأن للاستعمار، والغزوات، أثرا على كتابة التاريخ العربي، وبضمنه التاريخ الفلسطيني. وقد كان لوصول المستشرقين إلى الشرق، أثر سلبي في كتابة تاريخ المنطقة. (ص 25 ـ 27)


تتمثل المراجع التاريخية، فيما يكتبه أصحابها، في أثناء وقوع الحدث؛ كالمذكرات، والخبر الصحفي، والأرشيف، والوثائق. ولأن هذه الوثائق تمثل إدانة للسلطات الحاكمة، فهي لا تسمح بالاطلاع عليها! ناهيك عن مشكلة تبعية بعض حكوماتنا العربية للغرب الإمبريالي. (ص28 ـ 30)

استطرد الدسوقي، مؤكدا بأن التاريخ عِلم، والعِلم مستقل عن السياسة، وعن الدين، والتاريخ مدرسة لكل مواطن، خاصة النشطاء السياسيين، والمقاتلين. وثمة نظريات لتفسير الوقائع، بحثا عن العلَّة وراء وقوع الحدث. وقبل أن تتبلور هذه النظريات، في القرن الثامن عشر، كان عبد الرحمن بن خلدون قد وضع كتابه "المقدمة"، في منتصف القرن الرابع عشر، وفيه ميَّز بين الظاهر، والباطن. وما أبشع ما يقوم به البعض، من تسخير التاريخ لخدمة السلطان!

أما الباحث الفلسطيني، المتخِّصص في التاريخ القديم، أحمد الدبش، فنوَّه إلى أن الاستعمار البريطاني، ومن بعده الإسرائيلي اجتهدا لربط المكتشفات الأثرية في فلسطين بالكتاب المقدس، أو التوراة؛ لخدمة أغراض الإمبريالية. وأشار الدبش إلى "مدارس تاريخية"، في هذا الصدد.
 
عن تسخير الاستعمار، والصهيونية التاريخ، بعد تزويره، شدَّد الباحث نفسه على ضرورة استكمال السردية الفلسطينية؛ فنحن لم نستطع كتابة تاريخنا، منذ أكثر من 72 عاما؛ لأننا لم نجتمع على تاريخ واحد، كما لم تكن هناك مأسسة لكتابة التاريخ.

إلى ذلك، طالب الدبش "بالتوقف عن إطلاق بعض المسميات: كنعانية، وأرامية، وحيثية، وآمورية؛ لأنها مجرد أسماء لغوية. كما شدَّد الدبش على ضرورة التخلص من هيمنة "الكتاب المقدس". وقد لوى الاستعماريون عنق هذا الكتاب؛ لتسويق قيام إسرائيل.

انتهى الكاتب نفسه إلى التأكيد أنه "في اليوم الذي يتوقف (الكتاب المقدس) عن تغذية تاريخنا الفلسطيني"، تغدو فيه كتابتنا للرواية الفلسطينية ـ العربية، ببداية ونهاية، متحررة من إمبراطورية الأفكار التوراتية. (ص51)

تحت عنوان "إعادة كتابة التاريخ الحديث"، تحدث د. عبد القادر سطيح، الأستاذ المتخصِّص في التاريخ العثماني، مشدِّدا على أهمية الحقبة العثمانية لنا، كفلسطينيين (1516 ـ 1918)؛ ذلك أن "الكثير من الأمور المهمة في بلادنا، لازالت، إلى اليوم، تعمل بالعديد من الأحكام من (المجلة العدلية العثمانية)". وفي هذا المجال، فإن ثمة مؤرخين محليين، شاب ما أرَّخوا له قصور ملحوظ. بينما كان لهؤلاء المؤرخين الاستفادة من "الحوليات الدمشقية"، ومن تقارير القناصل الأجانب، ووثائق الكنائس، وكُتب الرحالة، العرب، والمسلمين، والأجانب. (ص53 ـ 58).

عدَّد سطيح أهم مصادر تاريخ فلسطين، في العهد العثماني، التي يتطلب الرجوع إليها إلمامنا باللغات التركية، والعربية، والفارسية. أما لماذا تم التركيز على فترة السلطان عبد الحميد، في الكتابات العربية، فيعيدها المؤرخ نفسه إلى إلمام من يؤرخ هنا باللغتين، الفرنسية والإنجليزية، فضلا عن أن الرواية الغربية تتعمد إظهار القرنين السابع عشر، والثامن عشر؛ للإيحاء بأن وصول الصهاينة إلى فلسطين، منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، قد أحيا المناطق الفلسطينية! (ص 58 ـ 69).

نأتي إلى كاتب هذه السطور، الذي قطع بأنه، "لا يمكن اعتبار الإنسان مناضلا، أو مثقفا، دون إلمامه بتاريخ وطنه، وبتاريخ الثورات في العالم"، مشيرا إلى أن كتابة التاريخ العربي الفلسطيني، تمت عبر مناهج عدة؛ بدأت بالسرد، قبل الأخذ بالمنهج المادي، بدءا من نجاتي صدقي، وأحمد صادق سعد (مصري). لكن المدرسة الأولى عادت فطغت، إلى أن جاء ناجي علُّوش، بكتابه "المقاومة العربية في فلسطين" (1967)، تبعه إميل توما، فكامل محمود خلة، وأُقفلت هذه المرحلة بكتابي "كفاح الشعب الفلسطيني قبل العام 1948" (1975). وإلى جانب السرد، فإن ثمة من أخذ بمنهج "تأثير أنف كليوباترا على التاريخ"، إلى من رأى التاريخ عربة، تجرها مجموعة من الزعماء. (ص 70 ـ 72)

اللافت أن غالبية من كتبوا في التاريخ الفلسطيني المعاصر، جاؤوا من خارج دائرة المؤرخين.

بعد الاحتلال الإسرائيلي لمعظم فلسطين، جرت محاولات محمومة لشطب "رواية النكبة"، وما بعدها. ومن ثم، توالت محاولات تزوير التاريخ، وإخفاء الوثائق، كسرقة الوثائق الفلسطينية، والسطو على "مركز الأبحاث، التابع لمنظمة التحرير، في بيروت (خريف 1982).

تأسَّيتُ لأن الشأن الثقافي تراجع، واختفى حماس الناشرين لكتب عن فلسطين، بينما لا يُولي "قادتنا" الثقافة، وفي القلب منها التاريخ الفلسطيني، الاهتمام اللائق بهما، بينما هذا التاريخ قضية وطنية، وليس للتسلية! في الوقت الذي بخِل "قادتنا" في كتابة مذكرات، بينما بعضهم غير مؤهل لهذه المهمة! وأعدتُ الفضل في وجود "مركز الأبحاث" إلى أحمد الشقيري. (ص74 ـ 80).

عن "كتابة التاريخ: النكبة واللجوء"، أسهم د. سلمان أبو ستة، الذي يُعد، بحق، "راهب العودة"، وقد رأى أن " صاحب القضية يذهب لمحام، والمحامي يسأله ما قصتك؟ ومن يقص حكايته يصبح مؤرخا". ثم عمد أبو ستة إلى إلقاء الضوء على تجربته مع مراكز الأبحاث، والوثائق، والأرشيف الأمريكي والبريطاني  عن فلسطين، فضلا عن الأرشيف الإسرائيلي، الذي افتعل تاريخا. ولاحظ أبو ستة بأن "السياسة شغلت المقاومة الفلسطينية، أكثر من التوثيق". (ص 82 ـ 93).

نبَّه "راهب العودة" بأن "للتاريخ معنًى، ومعناه يتغيَّر مع الزمن. كما أن الموضوع القانوني للتاريخ يتغيَّر. ويتطلب الأمر ممن يتصدى للتاريخ، التحلي بالصراحة. ونحن نكتب التاريخ، لتحويله إلى قوة شعبية، للمطالبة بالحقوق". وإن رأى صاحبنا أن "التاريخ القديم، على أهميته، له مكانته، ولكن ليس له أي دور حقيقي، في الواقع الحالي؛ بمعنى أن الصهاينة يستغلونه، ويستحضرونه؛ لأن لا حقائق لديهم واقعية، ولا قانونية". (ص94 ـ 101).

ختم أبو ستة بتوصية "تدريس التاريخ، والجغرافيا للشباب، كي تكون في عقولهم، وليس، فقط، في صفحات الكتب؛ لكي يتحوَّلوا، فيما بعد، لحركات وطنية، تطالب بحقنا في الوطن". (ص102)

أما د. جوني منصور، المحاضر في قسم دراسات التاريخ، بالكلية الأكاديمية (في بيت بيرل)، والمتخصِّص بتاريخ الشرق الأوسط الحديث، فتصدى لموضوع "كتابة التاريخ الشفوي والنكبة". حيث لاحظ بأن الكتابة التاريخية في هذا الصدد لم تتطور، كما تطور مفهوم النكبة خلال السنوات السبعين الماضية، حيث بدأ الحديث عن البكائيات، وإن جرى استقرار لحالة الصدمة، في خمسينيات القرن الماضي، بوجود مخيمات اللاجئين. 

وبعدما تجسَّد الكيان السياسي الفلسطيني، في "منظمة التحرير الفلسطينية"، انتقل الحديث إلى المواجهة مع العدو الإسرائيلي. ومع مرور الوقت، تعزَّز التوجُّه إلى إعادة بناء الهوية الفلسطينية. وكلما ابتعدنا عن فترة النكبة، ازداد ارتباط الإنسان الفلسطيني بوطنه. والمؤرخ الفلسطيني، في هذا كله، ليس حياديّا؛ ونحن بحاجة مستمرة إلى كتابات في التاريخ الفلسطيني، وكل ما يُقال عن انقسام عربي ـ عربي، أدى إلى أن فلسطين لم تعد "قضية العرب المركزية". (ص 103 ـ 116)

أما التاريخ الشفوي، فيعتمد أكثر على العامة، وقصص الناس البسيطة، بما جعله أقرب إلى التاريخ الاجتماعي. وأعرب منصور عن أننا اليوم في وضع أفضل، وصار لنا عدد أكبر من الباحثين، ليس في التاريخ، فحسب، بل في شتى الاختصاصات، الاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية، كما لم تعد المصادر وقفا على الغرب. (ص117 ـ 124).

عالج معين الطاهر، قائد "الكتيبة الطلابية" في "فتح"، موضوع "كتابة تاريخ المعارك الفلسطينية والعربية"، معربا عن اعتقاده بأن معيار النصر والهزيمة، يتعلق بمدى تمسكنا بروايتنا. وإن أبدى الكاتب نفسه أسفه لافتقادنا تاريخا عسكريا فلسطينيا، كما أن هناك مفاصل مهمة جدا لم يُكتب عنها. إننا لا نمتلك توثيقا حقيقيا للتاريخ الذي يحتاج إلى الأرشيف، والتاريخ الشفوي. وتجربة كتابي (تبغ وزيتون) تجربة شخصية، ليست لإعادة كتابة ذلك". (ص 126 ـ 148) ولاحظ الطاهر أن كلا الانتفاضتين (1987، و 2000)، لم يتم تأريخهما، بشكل معمق. (ص149 ـ 153).

أوجز أبو النصر المحصِّلة في "الخاتمة". (ص 155 ـ 156)

وبعد، فنحن أمام كتاب من 160 صفحة من القطع المتوسط، لكنه شديد الأهمية، في مجال "المنهج"، وحبذا لو أن الصديق العزيز حسام عمد إلى إصدار جزء ثان منه، يتَّسع لبقية المدارس، فالكتاب الذي بين أيدينا، يكاد يكون وقفا على المدرسة المادية، والله أعلم.


التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم