كتب

الفكر الإسلامي في منظور الآخر.. وجهة نظر دومينيك أورفوا

الأثر يبدو أقرب إلى الموسوعات التي لا تقدّم الموادّ الضخمة إلا وهي تميل إلى الاختزال والتبسيط
الأثر يبدو أقرب إلى الموسوعات التي لا تقدّم الموادّ الضخمة إلا وهي تميل إلى الاختزال والتبسيط

الكتاب: تاريخ الفكر العربي والإسلامي 
الكاتب: دومينيك أورفوا، ترجمة رندة بعث
الناشر: المكتبة الشرقية بيروت 2010
عدد الصفحات: 822 صفحة.

1 ـ بين يدي الكتاب:

كتاب "تاريخ الفكر العربي والإسلامي" للباحث دومينيك أورفوا المتخصص في الدراسات الإسلامية والأستاذ بجامعة تولوز لوميراي، مؤلَّف ضخم يحاول أن يشقّ الزّمن العربي والإسلامي شقا رأسيا، وأن يجول في فضائه عرضيا ليختزل مجمل ظواهر فكره من فقه وكلام وفلسفة واجتماع وسياسة، ليبحث عن القوانين الكبرى والأحداث المحركة تاريخه. فينبه قارئه منذ الاستهلال قائلا: "سوف نختصر إذن التّاريخ الجماعي والمعطيات السّيرية الفردية إلى عناصرها الأساسية.. ولن ندخل في تفحّص فرضيات إلا لإبراز الخطوات الكامنة خلفها".. مبرزا أنه يريد بـ"الفكر العربي الإسلامي"، .."الأفكار التي اتخذت حاملا لتعبيرها اللغة العربية و/ أو عقيدة الإسلام. والاثنان مترابطان في معظم الأحيان، ولكن ليس على الدّوام". ولضخامة هذا الأثر وأهمية مختلف مباحثه، قدّرنا أن نكتفي منه بالفصول التي خاض فيها في أهم الظواهر الفكرية؛ كـ"تشكّل الكلام" و"بدايات التصوف النظري" و"ظهور الفلسفة"، أي الفصول الواردة بين الصفحات 203 ـ 294.

2 ـ تشكّل الكلام

يعود دومينيك أورفوا إلى بداية نشأة التّفكير العقدي الإسلامي، فيصل بوادره الأولى تاريخيا، بخلافة الأموي عبد الملك بن مروان (65/ 685ـ86/705). ولا بد من الاعتراف بأنه يقدّم منظورا مختلفا عمّا تتداوله المصنّفات العربية في تأريخها لنشأته. فيذكر أنّ المسلمين قد تمكّنوا، على المستوى السياسي، من تأسيس أمبراطوريتهم وفرضها أمرا واقعا على خصومهم. ولكن من الجانب العقدي، ظلّ خصومهم، بعد نحو قرن من ظهور الرسالة المحمدية، ينظرون إليهم باعتبارهم مجرد ظاهرة اجتماعية ناشئة، لا باعتبارهم أصحاب دين جديد، ولم يتعاملوا معهم على هذا الأساس. 

ويعرض مثالين من هذا السياق الفكري المعادي لهم؛ أولهما أثر بعنوان "كتابات حول الإسلام" يوحنا الدمشقي، وفيه يهاجم القدّيس أفكارهم وكتابهم بشدة، ولا تخلو مواقفه من التّهكّم والازدراء. وثانيهما كتاب بعنوان "محاورة بين مسلم ونصراني" للفقيه النصراني ثيوذورس أبو قرّة. ومع أنّه يبدو متأثرا بكتاب الدمشقي، مثّل خطوة إلى الأمام في التّعاطي مع أفكار المسلمين؛ فقد حُرّر بالعربية، وفي ذلك اعتراف بمنزلة هذه اللّغة ورغبة في مجادلة مستعمليها والتفاعل معهم. وفيه بدت صورة المسلم، هذا المحاور المفترض، مختلفة؛ فهو يصدر عن أفكار متطورة ومعقدة أحيانا ويستند إلى حجج المنطق. ولكن مجادلته تفضي دائما إلى هزائم فكرية لضعف حججه وتعجّله. 

لهذه العوامل، كانت حاجة المسلمين إلى بلورة علم يدافع عن الشريعة ضد من لا يسلّمون بمقولاتها شديدة، وغالبا ما كان سياق الجدل وطبيعة المحاوَر يوجبان عليهم البحث عن أدلة من خارج النّص، والاستناد إلى المنطق والعقل؛ فكان علم الكلام.

ويعمل الباحث على ضبط أصل الاصطلاح، فيرجح أنّ الإشارة إلى هذا العلم الوليد بـ"الكلام" ترجمةٌ لمصطلح logos اليونانية، وهذا يوافق طابعه الجدلي.. ولئن لم تخل الإشارة إلى اسم الفاعل (متكلِّم) في أصل الاستعمال العربي من بعد تهجيني، في ثقافة ترفض الثّرثرة وتمتدح الإيجاز والاقتضاب، فإنّ  في واقع الحال يحوّل التهجين إلى مدح لصدور المتكلّم عن القول الإلهي. وكما الأمر في مختلف المصادر، يردّ ظهوره إلى واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، في النصف الأول للقرن الثاني للهجرة، وكلا العلمين بصري من أصول إيرانية، وضع نفسه في خدمة الديانة الإسلامية في نقاشها مع الديانات الأخرى.

ويعرض المتداول حول ظهور المعتزلة. ويردّ مختلف مبادئها إلى قولهم بفكرة العقل السليم، التي تطرح مبدأين أساسيين: فوجودُ العالم ووحدته يفترضان وجود خالق واحد، ويكون القرآن عندئذ وبما هو كلام الله، مخلوقا، ويكون الإنسان قادرا على اكتشاف الحقائق الأخلاقية بنفسه، ويبقى حرا في اتباعها من عدمه. ومن هنا، تتأكّد عدالة الله أولا وتبعية الوحي للعقل وخدمته له ثانيا؛ فقد جاء لإكماله. ويعتبر أنّ مختلف ما سيظهر لاحقا من أفكار معتزلية، يظل ضربا من التوسّع في هذه النواة، فيعرض تطور مقولاتها ونزعتها إلى التّجريد الأقصى، ويرجّح أن تكون هذه الحركة قد أدّت دورا ما في الاحتجاج الذي آل إلى إقامة الخلافة العباسية، دون أن يشغل نفسه بالبرهنة على هذا الترجيح. فهاجسه يبقى البحث في الأنساق الناظمة والقوانين المؤسّسة.

3 ـ بدايات التصوّف النّظري:

يعرض الباحث في هذا الفصل الأشكال العملية الأولى للتّصوف، وهو المرحلة المتقدمة من تجربة الزّهد التي تحوّله من سلوك عملي إلى عقيدة. فيربط نشأته بصورتين للرسول رسختا على اختلافهما، في أذهان المسلمين. فهو القائد الذي نجح في بناء الدولة وفي جمع ثروة بفضل غنائم الجهاد، وهذا مؤشر على ضرورة الانخراط في الحياة العامة والفعل فيها. وهو الزاهد الذي لم يكن يعبأ بمباهج الحياة الدينا ومغرياتها، فكان يعيش حياته الروحية على هامشها. وعن الاتجاه الثاني، سينشأ سلوك عمليّ زاهد يعزز فضيلة الورع، ويدعو إلى تجنّب كل ما يكون له صلة بالدنس، فلا يكتفي المؤمن بالامتناع عمّا نهى عنه الشرع، ووجدت اللغة العربية سجعا يكرّس الاختلاف بين الرؤيتين، وهي الحسّاسة إلى الإيقاع وتناسق البنى، فأشارت إلى الاتجاه الأول بمذهب الفقهاء وإلى المذهب الثاني بمذهب الفقراء، واختار المتصوفة أن يكونوا فقراء لا فقهاء، وأشاروا على أنفسهم بهذه التسمية. 

ويصل ظهورَ الزهد بالسياسة، فقد نزعت السّلالة الأموية، بعد أن استقرّ لها الحكم، إلى التّفاخر بالجاه والثّروة. وهذا ما دعّم منبر رافضي مباهج الحياة الدينا ومغرياتها، والمنتصرين إلى حياة الزهد والقيم الروحية. فشكّلوا ورَعا معارضا على عبارة الكاتب. والصلة على المستوى اللغوي، بين مصطلح التصوّف والإعراض عن مباهج الحياة بيّنة. ففي لباس الصّوف الخشن، لباس الفقراء، تضاد مع الأقمشة الثّمينة الناعمة التي يرتديها الأثرياء. وكعهده في عامّة الأثر، لا يكون حاسما في تحديد الظواهر، فيعرض تصورا آخر لأصل التسمية. فبعضهم يرجّح أن يكون المصطلح اقتراضا معجميا من اليونانية. فكلمة sophos  تفيد معنى الحكمة. ولأصحاب هذا التقدير ما يبرر فرضيتهم. فالمتصوّف يُسمى في إيران الشرقية بالحكيم أو العارف، والإشكالية التي يطرحها هنا تتمثل في عبور هذا المعتقد من كونه سلوكا عمليا تلقائيا إلى عمل ذهني تأملي، خاصّة أنّ الزهد الأول يحتقر بشكل معلن مختلف العلوم ويشدّد على معرفة الله معرفة عملية، تسمح بالوصول إلى الحقائق الأساسية. ولا يستبعد ارتباط الأمر بمؤثرات خارجية، كأن يكون لتلك الحركات الوريثة للغنوصية التي انتقلت إلى الديانة التوحيدية دور، أو أن يكون ممارسات وردت إلى الفكر الإسلامي عبر معتنقين جدد، كانوا على صلة بالقواعد الرهبانية. 

4 ـ الفلسفة الإسلامية

انفتح العرب فيها على أفكار أرسطو، ولم يجادلوا في الإشارة إليه بالمعلم الأول الذي خلعه عليه النصارى، فترجموا كتبه واستلهموا مفاهيمه في تأملاتهم، فأسهم هذا النشاط في التفاعل مع الإرث الفلسفي اليوناني، ويركز الباحث على بداية مشروع التفلسف إلى العربي. وينسبه إلى يوسف الكندي (252هـ)، مؤكّدا أنّ هذا الرجل لم يكن معزولا عن محيطه العلمي، فقد كان له أتباع واصلوا جهده، وكان له منافسون أيضا. 

لقد كان الكنديّ يرى أنّ قانون الإيمان الإسلامي يلبيّ متطلبات العقلانية اليونانية أكثر من قانون الإيمان النصراني، وكتابه "الرّد على النصارى" عينة لهذا الجدل. وواجه الفيلسوف العربي الأول المسائل التي طرحتها المعتزلة كوحدانية الله والصفات والخلق ونهاية العالم وحرية الإنسان، ووضعها موضع تأمل فلسفي. فوفق تصوّره، لا يمكن أن يوجد ما هو أزلي مع الله. والقول بهذا المبدأ يعني القطع مع وحدانيته. 

 

رغم أنّ كلّا من الفيلسوف والنبيَ يعالج المسائل نفسها، وهي الربوبية والوحدانية الإلهيتين والفضيلة والسلوك البشريين، فإنّ الكندي، وفق تقدير الباحث، لا يرى للفيلسوف سوى مزية واحدة، هي سرعة اكتساب المعرفة واقتضاب التعبير لعمله بإلهامات فورية.

 



وفي أثره "الفلسفة الأولى "ساجل المسلمين السلفيين والنصارى، وقارن بين وحدة الله، وهي أساسية ووحدة الكائنات وهي عرضية. وانتهى في التعاطي مع إشكالية الجبر والاختيار إلى التّتابع السببي التّالي: يؤدي الفكر إلى ميلٍ، والعبور من الميل إلى اتخاذ القرار يشكل إرادة تؤدي إلى الفعل. وهذا الفعل يؤدي إلى ميول أخرى، وهكذا تتوالد الحلقات. وعليه تندرج أفعال الإنسان في "سيرورة، سببية حلقية"، تبدو جبرية يحكمها قانون الحتم والضرورة؛ لأنّ كل عنصر يكون نتيجة لعنصر سابق ويتسبب بدوره في فعل لاحق. وهذا كله يسببه اللهُ الفاعلُ الأولُ في النهاية. ولكن الإنسان يبقى حرّا مع ذلك، بفعل قدرته على الاختيار وبما له من نفس عقلانية قادرة على المداولة، وتمييز للأسباب التي تجعل الفعل ضروريا. 

أي دور إذن للفيلسوف في حضارة الوحي والنبوّة؟

 

يجد الباحث أنّ الكندي يقارن ضمنا بين الأنبياء والفلاسفة، فشأن المتفلسف أن يستثمر الموارد الفلسفية المنقولة عبر تطوير المفاهيم وترجمة النصوص لدعم الحقيقة المتلقاة عبر الوحي. والاستدلال الأقصى في مجال الحقيقة، يفضي إلى اتفاق بين الوحي الذي يتولاه الأنبياء والتطوير البشري المستقل عنه الذي يتولاه الفلاسفة. ولكن أنى لهم ذلك؟ فهؤلاء يقصرون عن معانقة الحقيقة بأكملها، والاقتراب منها لا يقوم إلا على مقاربة تراكمية عبر الزمن. ورغم أنّ كلا من الفيلسوف والنبي يعالج المسائل نفسها، وهي الربوبية والوحدانية الإلهيتين والفضيلة والسلوك البشريين، فإنّ الكندي، وفق تقدير الباحث، لا يرى للفيلسوف سوى مزية واحدة، هي سرعة اكتساب المعرفة واقتضاب التعبير لعمله بإلهامات فورية، فتتمثل مهمته في "إحضار ما قال القدماء في ذلك قولا تاما على أقصد سبله وأسهلها على أبناء هذه السبيل، وتتميم ما لم يقولوا فيه على مجرى عادة اللّسان وسنة الزمان". فيبقى خاضعا لتصور يرى في الفلسفة معاضدة لعمل الأنبياء، ويضبط الحدود التي ستتحرك الفلسفة الإسلامية في أفقها، فلا تتجاوزها.

5 ـ "تاريخ الفكر العربي والإسلامي" وبعد؟

لا ينكر فضل هذا الأثر في تقديم رؤية بانارومية لمجمل تاريخ الفكر العربي والإسلامي إلا جاحد، فقد ركب دومينيك أورفوا مركبا صعبا، وليس من السّهل أبدا أن نعرض نماذج بعينها تكون ذات قدرة تمثيلية للفكر كلّه نحو قوله: "يبلغ عمر الفكر العربي والإسلامي ستة عشر قرنا، وهو ينبسط فوق اراضي قارتين. إنه فكر تعدّدي في مصادر إلهامه وفي تطوّره على حدّ سواء، غنيّ بالسّجالات والمناظرات والخلافات، يتجاوز الحفاظ على التقاليد والرّغبة في الابتكار، أو يتواليان أو يتواجهان، وتتلاقى العقائد الدينية والأنظمة الفلسفية والنّظريات العلمية والالتزامات السياسية.، والفاعلون فيها كلّها هم السّنة والشيعة والصوفيون، وكذلك العرب المسيحيون أو العرب اليهود إلى جانب كثير سواهم". 

ولكن ما يختزله هذا الكتاب من الظواهر كثير جدا، يمتدّ على نحو 16 قرنا، بما في ذلك الزمن الجاهلي الذي استهل به صفحاته. وبعمل حسابي بسيط ندرك أنه يخصصّ ما معدّله نحو 50 صفحة لكل قرن. فيوزّع مادته على ثلاثة وثلاثين فصلا، تبدأ بـ"قيم ما قبل الإسلام" وتنتهي بـ "الاتجاهات الراهنة". وتُطرح في هذا السياق مفارقة وتُثار إشكالية.

 

والمفارقة هنا أنّ الأثر يبدو أقرب إلى الموسوعات التي لا تقدّم الموادّ الضخمة، إلا وهي تميل إلى الاختزال والتبسيط والتّغاضي عن الدقائق والتّفاصيل والفروع. وهذه العناصر كثيرا ما تمثّل عاملا فارقا بين ظاهرة وأخرى، وفي الآن نفسه، يحاول أن يحتفظ بصرامة العلماء ودقتهم. وليس الجمع بين الماء والنار في ربق واحد متيسرا دائما. والإشكالية أنّ عمل الباحث يمثل مشروعا لاختزال الفكر العربي والإسلامي بأسره، في أنساق ناظمة تذكّرنا بمشروع عابد الجابري على سبيل المثال. والمقارنة بين المشروعين وتأثير الخلفيات الفكرية والحضارية المختلفة في كليهما، إن تبنته المؤسسات البحثية، سيكون عملا بحثيّا مثمرا بكلّ تأكيد. 


التعليقات (0)