كتاب عربي 21

إفلاس مصري

جمال الجمل
1300x600
1300x600
(1)
تتعايش مصر مع حالة إفلاس شامل أطاح بمكانتها في الإقليم ودورها الأفريقي القديم، وسمعتها الدولية كأكبر قوة عربية قائدة ومؤثرة. والمقصود بالإفلاس الشامل هو خطر يتجاوز الحديث عن حالة الإفلاس الاقتصادي، إلى نوع من الإفلاس الفكري والنقدي والسياسي، يتبعه تدنٍ في الأداء العام وفي نوعية القضايا والأحاديث المثارة للنقاش للعام، سواء في الإعلام الرسمي أو في مستوى التلقي عند جمهور فقد حافز الانتباه للمستقبل، وصار غارقا في قاع الزمن يستهلك أيامه تحت أقدامه، مكتفيا باللحظة.

وبرغم أن حالة الاستغراق في اللحظة لها أبعاد فلسفية (كما في الوجودية مثلا) تمجد الحاضر وتعتبره جوهر الزمن، إلا أن مصر لا تعبأ بالفلسفة والتنظير والأبعاد الفكرية لأي شيء، لذلك فإن استغراقها في اللحظة يشبه بيزنطة في مرحلة ما قبل السقوط، حيث يتحول النقاش إلى لغو وتناحر لا يفضي على نتائج مفيدة، وحيث يتحول التاريخ على مادة للسخرية والتراشق العبثي الاحتقاري، وحيث يتحول المستقبل إلى مساحة مبهمة من الميتافيزيقا التي يستخدمها الجميع كوسيلة للخداع: السياسي يسرف في وعود كاذبة لا يحاسبه عليها أحد في الغد، وشركات التسويق تبشر بالفردوس في الإعلانات، وعندما تلقي بالمستهلك في الجحيم لا يجد إلا الفراغ الملعون، فالاعتراض جريمة، والقانون خدعة، والمحاسبة لا تجري إلا في اتجاه واحد فقط؛ من الأقوياء ضد الضعفاء.
السياسي يسرف في وعود كاذبة لا يحاسبه عليها أحد في الغد، وشركات التسويق تبشر بالفردوس في الإعلانات، وعندما تلقي بالمستهلك في الجحيم لا يجد إلا الفراغ الملعون، فالاعتراض جريمة، والقانون خدعة، والمحاسبة لا تجري إلا في اتجاه واحد فقط؛ من الأقوياء ضد الضعفاء

(2)
بينما يرفع السيد اللواء وزير النقل سعر تذاكر المواصلات العامة بنسبة لا علاقة له بمداخيل الناس، يتحدث بمنطق أعمى عن ضرورة تحمل المواطن لنصيبه من ارتفاع أسعار الطاقة في العالم. وبالطبع لا علاقة للسيد اللواء بمداخيل ركابه، فهو مجرد "جابي" يرغب في تحصيل أكبر كمية من الأموال مستخدما أسلوبا تجاريا عن تفادي خسارة المرافق التي يديرها، بصرف النظر عن فكرة التوصيل والاتصال التي تتحملها الدولة ضمن خطة تنشيط الاقتصاد وضمان وصول الناس لأشغالهم وتدبير شؤون حياتهم.

وفي الوقت الذي تتفاخر فيه السلطة بإنشاء عشرات الكباري وآلاف الكيلومترات من الطرق، مرفقة بتصريحات سياسية على المستوى الأعلى تتحدث عن أهمية "شبكة الطرق" لتسهيل حركة الناس، نتابع في الممارسات الواقعية أساليب تعطيل الناس وتعويق حركة الاتصال، فالكمائن الأمنية تنتشر على الطرقات، وبوابات تحصيل الرسوم تحولت إلى "قطاع طرق" لاقتناص "اتاوات" مبالغ في تقديرها، وتوقيف المارة لتفتيش هواتفهم ينشر الخوف بين المارة، بحيث صار المشي في شوارع المدن أشبه بمغامرة لا يعرف المواطن إذا كانت تأخذه إلى بيته أم تلقي به في أحد أقسام الشرطة أو زنازين السجون؟!

(3)
قبل ساعات ضجت مواقع الأخبار في مصر بخبر مثير عن إقالة السيد اللواء (..) مدير الأمن الإداري بإحدى محافظات الصعيد، بعد العثور على "حمّالة صدر حمراء" في دورة مياه للرجال!!.. (يا للهول بصوت يوسف وهبي).. حمراء يا فاسد يا ملوث الشرف يا حامي الرذيلة! إنها الحرب "حتى يراق على جوانبه الدم".
في الوقت الذي تتفاخر فيه السلطة بإنشاء عشرات الكباري وآلاف الكيلومترات من الطرق، مرفقة بتصريحات سياسية على المستوى الأعلى تتحدث عن أهمية "شبكة الطرق" لتسهيل حركة الناس، نتابع في الممارسات الواقعية أساليب تعطيل الناس وتعويق حركة الاتصال، فالكمائن الأمنية تنتشر على الطرقات، وبوابات تحصيل الرسوم تحولت إلى "قطاع طرق" لاقتناص "اتاوات" مبالغ في تقديرها، وتوقيف المارة لتفتيش هواتفهم

قد يكون للإقالة منطق يتعلق بتعطل كاميرات المراقبة والإهمال في أداء مهمة تأمين مبنى المحافظة، لكن معالجة الخبر وطريقة تسويقه للجمهور العام تعبر عن نوعية الاهتمامات التافهة السائدة في الإعلام، كما تعبر عن تغليب الهوامش والجزئيات على الموضوع الرئيس، بحيث ينشغل الناس بحمّالة الصدر الحمراء، ولا يفكرون في إهمال دولة اللواءات، وفشل أصحاب الرتب الكبيرة في تأمين مبنى حكومي في محافظة مظلومة خدميا.. ثم ينفجر الخطاب العام في وجهنا عن انتصار السلطة على الإرهاب، ونجاحها في تأمين مصر من المخاطر الجسيمة التي تحيط بها؛ من هضبة إثيوبيا إلى صحراء ليبيا إلى حقول الغاز في المتوسط وجبال سيناء التي تتخفى في كهوفها الفئران!

(4)
في رأيي أن أخطر أنواع الإفلاس هو "إنكار الإفلاس"، فالعقول المفلسة لا تستطيع أن تعترف بخوائها، بل بالعكس.. تبالغ في تقدير إنجازاتها وتلحّ على الناس بمميزات ومعجزات على طريقة إعلانات الزيوت ومساحيق الغسيل ومنتجعات الصفوة ومساكن العاصمة اللا اسم لها، في حين أن الاعتراف بالإفلاس قد يكون بداية الحل، بما يمثله من إدراك صادق للواقع، وطرح للمشاكل الحقيقية ليتدبر فيها العقل الجمعي للمجتمع مع اجتهادات الخبراء الوطنيين (المستبعدين من مؤتمرات النفاق الرخيص).

فمن الواضح أن "الدولة المفلسة" لا تفتح أبواب قاعاتها وشاشات إعلامها إلا للنوعية التي ترى ثوب "الإمبراطور العاري" وتمدح في جماله!
أخطر أنواع الإفلاس هو "إنكار الإفلاس"، فالعقول المفلسة لا تستطيع أن تعترف بخوائها، بل بالعكس.. تبالغ في تقدير إنجازاتها وتلحّ على الناس بمميزات ومعجزات على طريقة إعلانات الزيوت ومساحيق الغسيل ومنتجعات الصفوة ومساكن العاصمة اللا اسم لها، في حين أن الاعتراف بالإفلاس قد يكون بداية الحل

(5)
لم أتحدث عن الإفلاس الاقتصادي، لأنني أراه حلاً، بما يمثله من شجاعة في التعامل مع الواقع والاعتراف بالحال الذي وصلت إليه البلاد نتيجة سياسات خاطئة، ومع ذلك فإن التفكير في المستقبل يجب أن يجذبنا إلى الحلول، بحيث لا نقف في دائرة اللوم على الماضي، وهذا أمر يبدأ بالاعتراف بالأخطاء والرغبة في تجاوزها، وبدلا من محاولة الاستمرار في "الاستدانة القاتلة" والخضوع لابتزاز صندوق النقد الدولي الذي يتعمد أن يشطر الدول إلى "سلطة جشعة استغلالية" و"شعب مستنزف"، لا بد أن تعلن الدول الواقعية الشجاعة توقفها عن تسديد الديون، وتسعى لبناء اقتصادات وطنية تهتم فيها بالزراعة والإنتاج المخطط لتغطية معظم احتياجاتها، مع الاهتمام ببناء شراكة تبادلية تعاونية مع الاقتصادات القريبة منها لتحقيق أعلى درجة عادلة من التكامل والتعاون خارج شبكة الهيمنة الغربية.

للقضاء على شبح الخوف من إعلان الإفلاس أوضّح أن إفلاس الدول هو "إفلاس سيادي" تحتفظ فيه الدولة بكل مواردها وسيادتها، لأن الدول ليست شركات ولا يصح في القانون الدولي الحجز عليها أو اتخاذ أي أعمال عدائية ضدها، وفيما عدا بعض القروض الصينية التي تبيح الحجز على بعض الأصول وخلافه، لا تترتب على توقف أي دولة عن سداد ديونها أية مصادرات أو خسائر؛ غير وقف التعاون المالي والتجاري في حال فشل الدبلوماسية بإقناع الدول أو المؤسسات الدائنة بتأجيل الدفع أو إسقاط الديون أو نسبة منها.
للقضاء على شبح الخوف من إعلان الإفلاس أوضّح أن إفلاس الدول هو "إفلاس سيادي" تحتفظ فيه الدولة بكل مواردها وسيادتها، لأن الدول ليست شركات ولا يصح في القانون الدولي الحجز عليها أو اتخاذ أي أعمال عدائية ضدها

المشكلة أن هذا الإعلان الشجاع يحتاج إلى خطة متكاملة لإدارة اقتصاد الدولة وعلاقاتها الخارجية بمنطق جديد؛ متحرر من التبعية وقائم على الاعتداد بالمصلحة الوطنية والقرار الداخلي، والتنسيق بطريقة مبدعة مع 90 في المائة من دول العالم التي تحتاج إلى ممر خروج آمن من شبكة التبعية اللعينة؛ وما جلبته من إفقار وتدمير للاكتفاء في الدول التي دخلت المصيدة.

(6)
قد يؤدي إعلان الإفلاس في أي دولة إلى هزة سياسية وتأثيرات مصرفية وسحب لرؤوس أموال أجنبية، وهذه كلها (في تقديري) تأثيرات هامشية يمكن معالجتها بذكاء ومشاركة جماهيرية، إذا قيست بمكاسب التوقف عن سداد أقساط الديون وفوائد الديون الخارجية التي بلغت أرقاما تحطم قدرة أي اقتصاد مديون بهذه الأرقام على النمو أو تجاوز مشاكله..

المهم في هذا كله هو توفر الإرادة السياسية المخلصة لإنقاذ مصر من الإفلاس الشامل الذي تورطت فيه، فليس من العقل ولا المصلحة أن نستمر في ستر العورات بلوح من الزجاج، ومعالجة الأخطاء بمزيد من الأخطاء، فالديون لا يمكن تسديدها بمزيد من الديون، والرخاء لا يمكن أن يتحقق بتجويع الناس والتضييق على معيشتهم.
الأصل في أي سياسة ناجحة أن تعكس نفسها على حياة الناس ورفاهيتهم، وهذا هو المؤشر الأساسي الصادق في الحكم على جودة أي سياسة أو فشلها، وليس بناء القصور والمنتجعات واستنزاف موارد الدولة بوهم جذب الاستثمارات الخارجية؛ في بلد يعاني

فالأصل في أي سياسة ناجحة أن تعكس نفسها على حياة الناس ورفاهيتهم، وهذا هو المؤشر الأساسي الصادق في الحكم على جودة أي سياسة أو فشلها، وليس بناء القصور والمنتجعات واستنزاف موارد الدولة بوهم جذب الاستثمارات الخارجية؛ في بلد يعاني ولا تصلح أعباء الحياة فيه لإقناع المال الأجنبي بالاستثمار الآمن لمجرد إنشاء قطار سريع أو شق طريق أو بناء فندق. فهذا النوع من الاستثمار (كما في تجربة الإمارات وأموالها) يزيد الأعباء على الناس ويساهم في الاحتكارات ورفع الأسعار المحلية، نتيجة التنافس المحموم على السوق، والمدعوم بتسهيلات العلاقات السياسية والتحتية والرشاوى بكل أنواعها، لذلك فهو استثمار استنزافي مؤقت له تأثيرات سلبية على الاقتصاد الوطني وحياة الناس.

(7)
لا أطرح هذا الطرح للتشفي في نظام أو تهييج الجماهير والمؤسسات للإطاحة بحاكم مفلس ملعون والمجيء بمفلس ملعون غيره، لكنني أطرحه لكسر حالة الإفلاس والبدء في تفكير واقعي ينظر لأزمة المعيشة في مصر باعتبارها أزمة حياة وضمير وليست أزمة صراع مع سلطة. ولا يعنيني اسم المسؤول الشجاع الذي يتوقف عن الكذب والخداع ويتعاطى مع مشاكل البلاد؛ بهدف اساسي هو تخفيف المعاناة عن الشعب والتحول نحو "دولة رفاهية"، بدلا من "دولة النصف في المائة" التي تعلن عن مساكن يتجاوز ثمنها 30 مليون جنيه لشعب 99 في المائة منه يعاني من رفع سعر تذكرة القطار أو المترو..

في كل الأحوال، لا عيب في التفكير، فالعقول التي تنشغل بحمّالة الصدر الحمراء تستطيع أن تفكر فيما فوقها ولا تكتفي بما تحتها.

والله معين الصادقين..

[email protected]
التعليقات (2)
Elnashar
الإثنين، 08-08-2022 02:53 ص
مقالة قيمة من أحد أبناء مصر المخلصين الذين لم يبيعوا قلمهم أو ضمائرهم لا أعتقد أن أحدا خارج مصر أو داخلها لم يحذر ويحذر بل ويترجى وقف الديون وبناء مشروعات لها عائد وعندما يكون هناك فرصة فمن العائد عندما يكون هناك فائض يتم الإنفاق على ترميم القصور وبناء أخرى رغم أن مصر لا ينقصها قصور وهذا طبعا يسبقه الإنفاق على بناء العقول في أكبر المدارس وأعظم المستشفيات ونشر المكتبات وتأهيل مدرسينا والصرف على البحث العلمي الذي تحتاجه مصر . لكن سليمان الدكتور كان عارف مشاكل مصر وعارف حلها ومن يحذر أو يعترض يبقى مش فاهم الموضوع اللي بيتكلم فيه .نتمنى السلامة لمصرنا من كل الأخطار التي تحيط بها وأن تعمل يو تيرن .
حمدى مرجان
الخميس، 04-08-2022 02:58 ص
كان زوجها يبيع الدقيق ويعيشا عيشة طيبة ، و لكن انتابها احساسا عميقا بغدر الايام ، فكانت تأخذ كل يوم مقدارا ، حتي اذا تجمع لديها كمية ، باعتها واستثمرت عائدها ، وحدث ما توقعت وافلس الرجل ، فقدمت له ما كان لديها ، فسدد ديونه وبدأ من جديد ، علمت الجارة بما حدث ، وكان زوجها يبيع " الصحف " ، فلم تتواني وكانت تأخذ كل يوم مجموعة ، حتي اذا بلغت عددا محددا ، قامت بتغليفها ووضعها في مكان امين ، وعندما حلت به الكارثة قدمتها له ليعوض بها خسارته ، وعندما فتح احداها ، نظر اليها طويلا وقال : الآن عرفت سبب افلاسي