الذاكرة السياسية

الأحمر: حذرني السلال من الفقهاء ولست ديك رمضان زمن الأرياني

فيصل جلول مع الشيخ الأحمر في باريس وفي الصورة  علي عبد السلام التريكي وزير الخارجية الليبي السابق.
فيصل جلول مع الشيخ الأحمر في باريس وفي الصورة علي عبد السلام التريكي وزير الخارجية الليبي السابق.

كان الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر الزعيم القبلي الأكثر حضورا في مختلف المراحل الانتقالية من الإمامة إلى الجمهورية، ومعه الشيخ سنان أبو لحوم ومشايخ آخرون، كانوا يؤدون أدوارا محددة وظرفية. هذا الحضور سنجده أيضا في العهود الجمهورية المتعاقبة من السلال حتى الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، وغالبا ما كان الرجل الثاني أو الخصم الأول في كل عهد.

 

                           الشيخ عبد الله مع حفيدته في  حديقة بيته في صنعاء.


بدأت العلاقة بين الشيخ الأحمر والمشير عبد الله السلال في جبهات القتال ضد القوات الإمامية، لن تتراجع إلا بعد سنوات من الصراع مع الإماميين وتحديدا في العام 1965، حيث اجتمع الجمهوريون عنده في خمر وقرروا نقل السلطات الجمهورية من الجناح العسكري إلى الجناح المدني، رائدهم في ذلك أن القوات المصرية كانت لا تثق إلا بالمشير السلال، وبدأت تضع أسس نظام موال لها في مفاصل الدولة، وتؤسس وحدات عسكرية تشرف عليها حصرا في الجيش كفرقة الصاعقة. 

كان الرئيس شريكا في المشروع المصري الذي يتجه أيضا لعزل القبائل أو على الأقل لإبعادها عن مراكز السلطة. أضف إلى ذلك، أن الحكومة المصرية كانت ميالة في إحدى الفترات للتنازل في المسالة اليمنية بعد لقاء المصالحة بين الملك فيصل والرئيس جمال عبد الناصر. تلا هذا اللقاء مؤتمر جدة بين القبائل الجمهورية والقبائل الملكية لإقامة دولة غير جمهورية بدستور جمهوري، على أن يتم استبعاد السلال وآل حميد الدين، لكن هذه المبادرة فشلت وتلاها مؤتمر آخر في برط بالوجهة نفسها، وفشل أيضا.

مؤتمر خمر

في أيار (مايو) 1965 قرر الجمهوريون عقد مؤتمر خاص في "مدينة خمر" قاعدة الشيخ الأحمر وبضيافته ورعايته، واتخذوا قرارات تنحو إلى نقل السلطة من الجيش إلى المدنيين: 1- تعديل الدستور، 2- إنشاء مجلس جمهوري، 3- إنشاء مجلس شورى، 4- إعلان قيام تنظيم شعبي شامل، 5- تكوين جيش وطني، 6- تأليف مجلس دفاع وطني، 7- تشكيل محكمة شرعية تتولى محاكمة العابثين بأموال الدولة ومقدرات الشعب. 

هذه القرارات، انطوت على إنشاء مؤسسات جمهورية دستورية مدنية، وطالب المؤتمرون أن يقتصر الدور المصري في اليمن على مساعدة الجمهوريين في مقاومتهم للقوات الإمامية المدعومة من المملكة العربية السعودية، والكف عن التدخل في الشؤون الداخلية اليمنية المتعلقة بالإدارة والاقتصاد والوظائف العامة.

لم يرق هذا الأمر للسلال رغم تشكيله المجلس الجمهوري. ولم يرق للمصريين الذين اعتبروا أن القرارات تطعنهم في الظهر، لذا اتسع سوء التفاهم بين الطرفين، وبالغ المصريون في قمع مخالفيهم إلى حد إعدام بعض المشايخ، والتشدد في إجراءات الأمن داخل العاصمة، فكان رد فعل المشايخ من الطبيعة نفسها، الأمر الذي أدى إلى قتل جنود مصريين في الشوارع. 

 

                              سنان أبو لحوم مع الرئيس جمال عبد الناصر.

حاول القاضي عبد الرحمن الأرياني إيجاد حل للخلافات مع الرئيس جمال عبد الناصر، فسافر إلى القاهرة مع وفد حكومي رفيع المستوى يضم أبرز القادة الجمهوريين، فاعتقلهم الأمن المصري وظلوا في السجن حتى هزيمة الخامس من حزيران (يونيو) 1967. ستؤدي الهزيمة إلى تغيير ميزان القوى في اليمن، ومن ثم الإطاحة بالرئيس السلال الذي سافر في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) إلى الخارج، والتقى قبل سفره في مدينة الحديدة بالقادة العائدين من القاهرة، ليقع انقلاب سوريالي من دون طلقة واحدة.

ديك رمضان 

يروي الشيخ عبد الله الأحمر تفاصيل تلك الأيام بقوله؛ إنه كان يقظا تجاه ما يدور، وأن حوالي عشرة آلاف مسلح من القبائل جاء بهم إلى صنعاء للسيطرة على المدينة، ومن ثم فرض شروط الجمهوريين الرامية لإقالة السلال، وتعيين القاضي عبد الرحمن الأرياني رئيسا للجمهورية، وكان حذرا تجاه المناورات التي بذلها السلال في الأيام الأخيرة. اليقظة والدعوة للحذر شدد عليها أحد المشايخ بقوله للأحمر: "انتبه يا شيخ عبد الله أن يفعلوا بك مثل ديك رمضان. وما هو ديك رمضان؟ سأله الأحمر. إنه الديك الذي يصحّي الناس من النوم لكي يتسحروا في شهر رمضان، ومن ثم يذبحه أصحابه يوم العيد". 

ما كان بوسع السلال أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء في تلك الأيام، فكان أن رافقه الشيخ الأحمر إلى الحديدة وجاء في الوقت نفسه لاستقبال الأرياني والجمهوريين العائدين من القاهرة. وفي هذه اللحظة أدرك السلال أنه لن يعود إلى اليمن وأن أمر الحكم قد انتهى، لذا عين القاضي عبد الرحمن الأرياني نائبا لرئيس الجمهورية، وطلب منه تحمل مسؤولية الدولة في غيابه. صعد الشيخ عبد الله لوداعه في الطائرة، فقال له السلال: "انتبه يا شيخ عبدالله من أن يخدعك الفقهاء (أي القضاة ومنهم الأرياني). الجمهورية كلها في عهدتك". وأكد الأحمر أن السلال وضع إصبعه على عنق الشيخ مرددا: "الجمهورية في عنقك. في عنقك يا شيخ عبدالله". تمت الترتيبات الانتقالية من عهد السلال إلى عهد القاضي الأرياني في منزل الشيخ عبد الله الأحمر في صنعاء، بل في "غرفة نومي" على حد تعبيره. 

يروي القاضي عبد الرحمن الأرياني تلك اللحظة في مذكراته بالقول: "في أثناء الليل، انتقلنا إلى بيت الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر. واتفقنا على صياغة البيان الذي أذيع صباح الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) بتشكيل المجلس الجمهوري، مع بيان تشكيل الحكومة وتنحية السلال. وأشرنا في البيان إلى التنديد بأحداث ثلاثة أكتوبر ضد القوات ّ المصرية، وحمّلنا السلال تبعة ذلك، وقد أردنا بذلك أن نكسب الـ "ج.ع.م" إلى جانبنا، وكانت قواتها لا تزال في الحديدة وحراز والحيمة. وقد وجهنا في الوقت نفسه إلى إخواننا اليمنيين الذين يعملون في صفوف بيت حميد الدين، نمد لهم أيدينا بالإخاء َوالسلم والمودة ونطلب اللقاء بينهم وبين اللجنة التي تشكلت بعد مؤتمر خِمر للغاية نفسها، التي كان إحياؤها كغيرها من مؤسسات مؤتمر خمر" (مذكرات القاضي الرئيس عبد الرحمن الأرياني الجزء الثاني 1962 ـ 1967 الطبعة الأولى عام 2013 ص 620).

قوبل عهد القاضي عبد الرحمن الأرياني بارتياح شديد في البلاد، واعتبر المشايخ الذين التفوا حوله أنهم حققوا انتصارا تاريخيا يجدر الدفاع عنه بالأرواح، ومثلهم تيارات حزب البعث والناصريون وعموم أحزاب اليسار.

لن يكون للمنتصرين على المشير السلال والمصريين هامشا واسعا للمناورة، إذ ما كادت القوات المصرية تغادر اليمن حتى شن الملكيون هجمات واسعة على العاصمة وحاصروها لمدة سبعين يوما (28 نوفمبر / تشرين الثاني 1967 إلى 7 شباط / فبراير 1968)، فدافع عنها ضباط وجنود القوات اليمنية المسلحة، ومعهم مشايخ القبائل وأحزاب اليسار والإخوان المسلمين وغيرهم دفاعا مستميتا، وكان هذا الانتصار الأول الذي حققه الأرياني والشيخ الأحمر. وسيليه انتصار ثان عبر المصالحة بين الملكيين والجمهوريين في المملكة العربية السعودية، هذا الاتفاق الذي قضى بدمج القبائل الملكية في النظام الجمهوري، وطي الملف الإمامي من طرف المملكة العربية السعودية.

سقوط الاستعمار البريطاني

سيشهد شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1967 سقوط الاستعمار البريطاني في عدن وتولي اليسار السلطة في جنوب اليمن. ومع هذا الحدث، سترتسم جغرافية سياسية جديدة في اليمن سيؤدي فيها ماركسيو الجنوب دورا مهما في الشمال مقابل الدور والنفوذ السعودي، ذلك ان المملكة طوت صفحة بيت حميد الدين وأنصارهم، لتفتح صفحة جديدة مع مشايخ شمال اليمن، وسيطبع الصراع اليساري ـ السعودي والأمريكي ـ الروسي خلال الحرب الباردة صراعات اليمنيين وتنافسهم. وسيقف الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر ضد التيار اليساري، خصوصا بعد ضرب المشايخ في الجنوب وتهميش المؤسسة الدينية، وتأميم الملكيات الخاصة واستقرار السوفييت في قاعدة عسكرية مركزية في عدن، بمواجهة الغرب المستقر في جيبوتي على الضفة الأخرى من باب المندب.

 

                                 القاضي عبد الرحمن الأرياني

تولى الشيخ الأحمر رئاسة المجلس الوطني في عهد القاضي الأرياني وفي مرحلة أخرى رئاسة مجلس الشورى، ستشهد صنعاء ابتداء من العام 1972 صراعا مفتوحا بين الرجلين، ذلك أن الأرياني كان يميل إلى مواجهة الشيخ عبد الله الأحمر والمملكة العربية السعودية، بالتحالف مع بعض الوجوه القبلية واليسارية. كان يشكو من النفوذ الواسع للأحمر في أروقة الدولة والمجتمع، في حين يشكو الأحمر من نفوذ اليسار والجنوب الماركسي في سلطة الأرياني. سيصل الصراع إلى ذروته في ربيع العام 1974 الأمر الذي سيؤدي إلى انقلاب إبراهيم الحمدي، ومن ثم دخول البلاد دورة عنف جديدة.

يلخص الشيخ سنان أبو لحوم هذه اللحظة في مذكراته من خلال رسائل تلقاها من الأرياني والأحمر معا، وفيها يشكو الشيخ عبد الله من رئيس الجمهورية بقوله؛ إن أولاده يقفون مع التيار الاشتراكي، وأنه يقرب العناصر الحزبية، وأن اللواء محمد الأرياني القائد العام للقوات المسلحة يجمع الناس حوله، وأن الرئيس يريد "نقل ما هو في الجنوب إلى الشمال، والدليل أنه وضع الشيوعيين والحركيين والبعثيين في المراكز والمناصب والوظائف المهمة، وقام بتصفية العناصر المؤمنة والمستقلة والنزيهة، بدعوى أن هذا قبيلي غير متعلم وهذا شيخ خطير وهذا من الإخوان المسلمين وهذا هاشمي وهذا متزمت وهذا غير مرغوب فيه وهذا صاحب فلان. أما الأعداء والملحدون، فيكفي أنهم ثوريون وتقدميون". سنان أبو لحوم، اليمن حقائق ووثائق عشتها 1962 ـ 1974، صادر عن مؤسسة العفيف الثقافية، صنعاء ص 466 إلى 470).

رد الرئيس الأرياني سيكون من الطبيعة نفسها وبلغة لا تشبه تصريحاته العلنية، على ما نقله سنان أبو لحوم عن الشيخ عبد الله الأحمر ". الشيخ عبدالله يعمل ضدي وأنا قدمت استقالتي أكثر من مرة وطلبت منكم أن تختاروا من تريدون، وما دمتم تريدون أن أبقى فلن أقبل المهانة أو أعمل موظفا عند أي أحد.

وأضاف بلهجة شديدة: "لن أقبل المهانة أبدا وسأجعلهم يسحبونه في الشوارع". صدمتني هذه العبارة وقلت له أنت معروف عند الناس بترفعك، وما كنت أتصور أن تقول مثل هذا الكلام، وأعتبر من هذه اللحظة أن ما بيني وبينك من عهد لا يلزمني". الكلام دائما للشيخ سنان أبو لحوم في مذكراته ص  470 .

في مطالع حزيران (يونيو) عام 1974 كانت صنعاء على موعد مع لاعب جديد ورئيس جديد هو المقدم إبراهيم الحمدي.

 

اقرأ أيضا: الأحمر.. مشيخة معمرة في بيئة إسلامية لم تخترقها الكولونيالية

 

اقرأ أيضا: عبد الله الأحمر في عرين النظام الإمامي ومقاومة العثمانيين

 

اقرأ أيضا: الأحمر وفشل رهان الإصلاح يفتح باب الثورة والجمهورية في اليمن

 

اقرأ أيضا: الأحمر يشارك بحماية الجمهورية مع السلال ومن ثم الانقلاب عليه








التعليقات (0)