كتب

نظام التعددية القطبية ليس نظام الثنائية القطبية.. قراءة في كتاب

إن العالم متعدد الأقطاب، لا يتوافق بأي حال من الأحوال مع مشروع العالم غير القطبي، لأنه لا يقبل أسس اللحظة أحادية القطب كمقدمة للنظام العالمي المستقبلي..
إن العالم متعدد الأقطاب، لا يتوافق بأي حال من الأحوال مع مشروع العالم غير القطبي، لأنه لا يقبل أسس اللحظة أحادية القطب كمقدمة للنظام العالمي المستقبلي..
الكتاب: "نظرية عالم متعدد الأقطاب"
الكاتب: ألكسندر دوغين
ترجمة: د. ثائر زين الدين، د. فريد حاتم الشحف
الناشر: دار سؤال للنشر والتوزيع، واستفهام للنشر والتوزيع، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى 2023
(571 صفحة من القطع الكبير)


إن العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي انتهت في عام 1945، هو عالم انتهت فيه لعبة التوازن الأوروبي، وبرزت فيه قوتان امتلكتا قدرات وإمكانات ضخمة وكونية الطابع، هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وأسستا نظاماً عالمياً جديداً، هو العالم الثنائي القطبية، حيث سعت كل من الامبراطورية الأميركية الصاعد نجمها في فضاء السياسية العالمية، والاتحاد السوفييتي "الاشتراكي"، إلى سد فراغ القوة، الذي تركه الاستعمار الأوروبي الآفل.

كما أن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، شهد صراعاً إيديولوجياً حادّاً، بين الاشتراكية والرأسمالية، وتوترات إيديولوجية حول القضية القومية، بحيث أصبح للإيديولوجيا ،أي كانت طبيعتها ،حضوراً قوياً في الصراعات الدولية المعاصرة، والأزمات الإقليمية، فضلاً عن أنها تحولت إلى قوة محركة وفاعلة تسير الأحداث السياسية المهمة، وحتى الدول في إطار الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. فالرأسمالية في الغرب هي رسالة الديمقراطية المسماة بالليبرالية وذات النزعة الفردية، والرسالة في الشرق هي رسالة الديمقراطية الاستبدادية والاشتراكية.

وهكذا، تشكل بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945، نظام الثنائية القطبية في العالم، ويُطلق عليه أيضاً اسم: نظام يالطا. استمر هذا النظام شكلياً، في الإصرار على الاعتراف بالسيادة المطلقة للدول جميعاً، وأسست الأمم المتحدة على هذا المبدأ، استمراراً لعمل عصبة الأمم. ومع ذلك، من الناحية العملية، ظهر مركزان عالميان لصنع القرار في العالم - الولايات المتحدة، واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية. مثلت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي نظامين سياسيين واقتصاديين: الرأسمالية العالمية والاشتراكية العالمية، وبالتالي النظام الاستراتيجي. واستندت القطبية الثنائية إلى ازدواجية أيديولوجية ـ الليبرالية ضد الماركسية.

هذا النظام الدولي ذو القطب الواحد بزعامة الولايات المتحدة، والذي يعكس جوهرياً أزمة العولمة الرأسمالية الجديدة، يقوم على الثورة التكنولوجية الهائلة التي تعتمد على المعرفة المكثفة، وتشكل المراكز الرأسمالية الغربية قاعدتها الأساسية، والتي سوف يكون لها إسقاطاتها الفكرية والاجتماعية والسياسية في تغيير الوجه المادي للعالم.
قام العالم ثنائي القطب على التكافؤ الاقتصادي والعسكري الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، على أساس التماثل، مقارنة بإمكانات كل من المعسكرين المتعارضين. ولم يكن في الوقت نفسه لدى أي دولة أخرى تنتمي إلى هذا المعسكر أو ذاك قوة بالمستوى نفسه، حتى ولو من بعيد، يمكن مقارنتها بقوة موسكو أو واشنطن وبالتالي كانت هناك دولتان عظميان مهيمنتان على المستوى العالمي، محاطتان بكوكبة من الدول المتحالفة (شبه التابعة بالمعنى الاستراتيجي). السيادة الوطنية المعترف بها شكلياً بالنسبة لهذه الدول في مثل هذا النموذج فقدت تدريجياً أهميتها. ففي المقام الأول إن أي بلد يعتمد على السياسة العالمية للدولة المهيمنة، التي ينتمي إلى منطقة نفوذها، لذلك فهو لم يكن مستقلاً، والصراعات الإقليمية (كقاعدة، كانت تدور في منطقة العالم الثالث) التي سرعان ما كانت تتطوّر إلى مواجهة بين الدولتين العظميين، اللتين تحاولان إعادة توزيع ميزان النفوذ العالمي على "المناطق المتنازع عليها". وهذا ما يفسر النزاعات في كوريا، وفيتنام، وأنغولا، وأفغانستان وهلمج.

يقول الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين،"وفي هذا العالم ثنائي القطب كانت ثمة قوة ثالثة أيضاً ـ حركة عدم الانحياز. وقد ضمت عدداً من دول العالم الثالث، التي رفضت الخيار الوحيد إما لصالح الرأسمالية، أو الاشتراكية، مفضّلة المناورة بين المصالح المتناقضة للولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. نجح البعض إلى حد ما، ولكن إمكانية عدم الانحياز نفسها تفترض وجود قطبين تحديداً، ينبغي الموازنة بينهما بطريقة أو بأخرى.

وفي الوقت نفسه فإنّ "دول عدم الانحياز" لم تكن قادرة بأي حال من الأحوال على إنشاء "قطب ثالث"، وتنازلت في المعايير الأساسية للقوى العظمى، وكانت مشتتة وغير موحدة فيما بينها، ولا تجمعها أي منصة اجتماعية واقتصادية مشتركة. قسم العالم بأكمله إلى الغرب الرأسمالي (العالم الأول the West)، والشرق الاشتراكي (العالم الثاني)، و"بقية الدول" (the Rest، العالم الثالث)، وكانت "بقية الدول" هي "الضواحي" (الأطراف) بكل ما في الكلمة من معنى، حيث اصطدمت فيها بشكل دوري مصالح القوى العظمى. كان الصراعُ بين القوى العظمى نفسها، وبسبب التكافؤ في القوى، مستبعداً تقريباً (بسبب ما يمكن أن يحدث من التدمير المتبادل المؤكد بعضها لبعض من جراء استخدام الأسلحة النووية). كانت دول (الضواحي) المحيط (آسيا، أفريقيا، أمريكا اللاتينية) بمنزلة المنطقة المفضّلة لإجراء مراجعة جزئية يختبر فيها ميزان القوى"(ص31).

عقب نهاية الحرب الباردة، انهار النظام ثنائي القطب، بعد (انهيار أحد القطبين انهار الاتحاد السوفييتي في عام 1991). ما يطلق عليه اسم "النظام الدولي الجديد"، هو النظام الأمريكي القائم بالفعل، حيث أعلنت الولايات المتحدة في عام 1990 أنها حققت الانتصار بقولها: "بأن الحرب الباردة قد انتهت.. لقد فزنا فيها". وهذا النظام الدولي ذو القطب الواحد بزعامة الولايات المتحدة، والذي يعكس جوهرياً أزمة العولمة الرأسمالية الجديدة، يقوم على الثورة التكنولوجية الهائلة التي تعتمد على المعرفة المكثفة، وتشكل المراكز الرأسمالية الغربية قاعدتها الأساسية، والتي سوف يكون لها إسقاطاتها الفكرية والاجتماعية والسياسية في تغيير الوجه المادي للعالم.

خصائص نظام أحادية القطبية

 لكنَّ هذا النظام الدولي تتحكم فيه الأيديولوجية الليبرالية الأمريكية الجديدة، التي انبثقت عن الثورة المحافظة المضادة للمكاسب الاجتماعية والثقافية والأخلاقية التي تحققت على يد الأيديولوجية الليبرالية الكلاسيكية، هذه الثورة المحافظة المضادة متسمة بنزعة رجعية شديدة الصلافة والعداء للأقليات وحقوق الطبقات الشعبية، وللحركات النقابية، والشعبية، وللثقافة الليبرالية والتقدمية، وبعداء شديد للعالم الثالث يقوم على تدميره بالحد الأقصى من العنف، لكي تسحب من هذا العالم النزعة الإنسانية، ونزعة التقدم.

ومنذ أن فرضت الولايات المتحدة هيمنتها بإطلاقية على النظام الدولي، على الأقل مؤقتاً، بنت إستراتيجية أطلسية مطابقة لرؤيتها لهذا النظام الدولي، والتي تقوم على استعادة السيطرة على أوروبا الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وإقامة حكومات متعاونة مع الغرب، وخوض معارك تصفية ضد قوى حركة التحرر الوطني العربية بمساعدة القوى الرجعية، وبناء قوات التدخل السريع، وإعدادها لعمليات واسعة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وحشدها القوة العسكرية للحرب والتهديد بالحرب في المنطقة العربية، من خلال إقامة تحالف إستراتيجي بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وتوقيع اتفاقية لإقامة منطقة التجارة الحرة بين الكيان الصهيوني وواشنطن، واستخدام خيار العنف الأقصى المدمر لأحداث تغييرات في العالم العربي، وحسم المعركة فيه لمصلحتها، وعلى حساب مصالح الشعوب، في سبيل إخضاع مخازن النفط الأساسية لسيطرتها، بعد أن أصبح النفط أهم سلعة إستراتيجية مهمة للإنتاج الصناعي في الدول الرأسمالية الغربية، فضلاً عن خوف الولايات المتحدة من أن يتم توظيف عامل النفط في بناء قوة جديدة في الوطن العربي، قد تهدد المصالح الحيوية الإستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط لهذا السبب أو ذاك.

اقترح المحافظون الجدد الأمريكيون، الصياغة الأكثر دقة لنظرية أحادية القطب، فأكدوا على دور الولايات المتحدة في النظام العالمي الجديد، وأعلنوا في بعض الأحيان صراحة أن الولايات المتحدة هي "الإمبراطورية الجديدة" (ر. كابلان)، "الدولة الجيدة المهيمنة عالمياً" و كريستول ر. کاغان)، وتوقع حلول "القرن الأمريكي" مشروع القرن الأمريكي الجديد). أي إن أحادية القطب اكتسبت أساساً نظرياً عند المحافظين الجدد. نظر إلى النظام العالمي المستقبلي، على أنه بناء يتمحور حول أمريكا، حيث تقع الولايات المتحدة في الصميم في دور الحكم العالمي وتجسد مبادئ «الحرية والديمقراطية»، وتنظم حول هذا المركز كوكبة من الدول الأخرى، وتعيد إنتاج النموذج الأمريكي بدرجات متفاوتة من الدقة. تختلف في الجغرافيا وفي درجة التشابه مع الولايات المتحدة:

الدائرة المقربة ـ الدول الأوروبية واليابان،ثم البلدان الليبرالية التي تتطور بقوة في آسيا،ثم الدول الأخرى جميعها.إنَّ كل الأحزمة الموجودة حول أمريكا العالمية وعلى مدارات مختلفة، مدرجة في عملية "الدمقرطة" و"الأمركة"، ونشر القيم الأمريكية يسير جنباً إلى جنب مع تنفيذ المصالح الأمريكية العملية، وتوسيع منطقة السيطرة الأمريكية المباشرة على النطاق العالمي.

يُعبر عن القطبية الأحادية على المستوى الاستراتيجي، بالدور المركزي للولايات المتحدة في حلف الناتو، علاوة على ذلك، في التفوق غير المتكافئ للقدرة العسكرية المشتركة لدول الناتو على جميع القوى الأخرى في العالم. ويتفوق الغرب بموازاة ذلك، على الدول غير الغربية الأخرى من حيث الإمكانات الاقتصادية ومستوى تطور التقنيات العالية، وهلمج. والأهم أنَّ الغرب هو المصفوفة التي يتطور فيها تاريخياً ويترسخ نظام القيم والمعايير، الذي يعد اليوم معياراً عالمياً لجميع البلدان الأخرى في العالم. ويمكن أن يطلق عليه تسمية: هيمنة فكرية عالمية، من ناحية، فهو يخدم البنية التحتية التقنية للتحكم العالمي، ومن ناحية أخرى، يقف في مركز النموذج الكوكبي المهيمن الهيمنة المادية تسير جنباً إلى جنب مع الهيمنة الروحية، والفكرية، والمعرفية، والثقافية، والمعلوماتية.

منذ أن فرضت الولايات المتحدة هيمنتها بإطلاقية على النظام الدولي، على الأقل مؤقتاً، بنت إستراتيجية أطلسية مطابقة لرؤيتها لهذا النظام الدولي، والتي تقوم على استعادة السيطرة على أوروبا الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وإقامة حكومات متعاونة مع الغرب، وخوض معارك تصفية ضد قوى حركة التحرر الوطني العربية بمساعدة القوى الرجعية،
كان انهيار الاتحاد السوفييتي يعني في الوقت نفسه، اختفاء إحدى القوى العظمى المتناظرة، ومعسكر أيديولوجي ضخم بأكمله. لقد كان يمثل نهاية واحدة من القوى العظمى المهيمنة عالمياً. تغير هيكل النظام العالمي نوعياً بالكامل منذ تلك اللحظة وبشكل لا رجعة فيه. القطب المتبقي في هذه الحالة، هو قطب برئاسة الولايات المتحدة، وعلى أساس الأيديولوجية الرأسمالية الديمقراطية الليبرالية - وقد استمر كظاهرة وأخذ يوسع نظامه الاجتماعي والسياسي (الديمقراطية، السوق، أيديولوجية حقوق الإنسان) على النطاق العالمي. هذا ما يسمى عالم أحادي القطب؛ النظام العالمي أحادي القطب. يوجد في مثل هذا العالم، مركز واحد لصنع القرار للقضايا العالمية الكبرى. وجد الغرب ونواته (المجتمع الأوروبي الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة) نفسيهما في دور المهيمن الوحيد المتبقي وأصبحت مساحة الكوكب بأكملها، في ظل هذه الظروف هي تقسيم ثلاثي المناطق (موصوفة بالتفصيل في النظرية الماركسية الجديدة لواليرستين):

المنطقة الأساسية ("الشمال الغني"، "المركز").
منطقة محيط العالم ("الجنوب الفقير"، "المحيط").
منطقة وسيطة ("شبه محيطيّة"، وتشمل الدول ذات التطور النشط على طريق رأسمالية الدول الكبرى: الصين، والهند، والبرازيل، وبعض دول منطقة المحيط الهادئ، وكذلك روسيا المصابة بالقصور الذاتي، والتي تحتفظ بإمكانيات استراتيجية واقتصادية وطاقية كبيرة).

تسترشد النخبة السياسية الأمريكية على وجه التحديد، من حيث المبدأ، بمقاربة الهيمنة الواعية هذه، ويتحدث المحافظون الجدد عن ذلك بوضوح وشفافية، بينما تطبيق هذا المشروع على المدى المتوسط والطويل، وما إذا كانت الولايات المتحدة وحدها تستطيع تحمل عبء الإمبراطورية العالمية الكونية. لقد أدت المشاكل على مسار هذه الهيمنة الأمريكية المباشرة والمفتوحة، والتي بدت وكأنها أمر واقع في يفضل ممثلو الحركات السياسية والأيديولوجية الأخرى التعبيرات الأكثر انسيابية. وحتى نقاد العالم أحادي القطب في الولايات المتحدة لا يشككون في مبدأ "عالمية" القيم الأمريكية. والسعي إلى تحقيقها على المستوى العالمي. تركز الاعتراضات على التسعينيات، إلى دفع بعض المحللين الأمريكيين (س. كراو ثامر نفسه، الذي قدم هذا المفهوم) للتحدث عن نهاية لحظة أحادية القطب.

ولكن، على الرغم من كل شيء، فإنّ أحادية القطب بالذات، وبأشكالها الصريحة أو المحجبة ـ هذه أو تلك هي نموذج للنظام العالمي، الذي أصبح حقيقة واقعة بعد عام 1991، وما زال حتى يومنا هذا.

يقول الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين :"تتعايش أحادية القطب في الممارسة العملية، مع الحفاظ الاسمي على نظام وستفاليا، وبقايا دول العالم ثنائي القطب المعطلة ذاتياً. ولا تزال سيادة جميع الدول القومية معترفاً بها قانونياً، ولا يزال مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يعكس جزئياً ميزان القوى المطابق لحقائق الحرب الباردة. وتوافقاً مع ذلك، فإن الهيمنة الأمريكية أحادية القطب، موجودة في وقت واحد مع عدد من المؤسسات الدولية التي تعبر عن توازن القوى في العصور والدورات الأخرى في تاريخ العلاقات الدولية. إن التناقضات بين الوضع الفعلي والشرعي تذكر بنفسها باستمرار - على وجه الخصوص - في أعمال التدخل المباشر للولايات المتحدة أو التحالفات الغربية في دول ذات سيادة (في بعض الأحيان تتجاوز حق النقض لمثل هذه الإجراءات في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة). في حالات مثل غزو القوات الأمريكية العراق عام 2003، نرى مثالاً لانتهاك مبدأ سيادة الدولة المستقلة، من جانب واحد، (تجاهل النموذج الوستفالياي)، ورفض أخذ موقف روسيا (ف. بوتين) بعين الاعتبار في مجلس الأمن الدولي، وحتى عدم اهتمام واشنطن باحتجاجات الشركاء الأوروبيين في حلف الناتو (فرنسا، ج. شيراك. وألمانيا، ج. شرودر).

يُصر أكثر أنصار أحادية القطبية (على سبيل المثال الجمهوري ج. ماكين) على جعل النظام الدولي يتماشى مع توازن القوى الحقيقي ويقترحون إنشاء نموذج مختلف بدلاً من الأمم المتحدة - عصبة الديمقراطيات، حيث يكون الموقف المهيمن للولايات المتحدة، أي تثبيت القطبية الأحادية، من الناحية القانونية. إن صياغة مثل هذا المشروع قانونياً في هيكل العلاقات الدولية للهيمنة الأمريكية لما بعد يالطا، وإضفاء الشرعية على العالم أحادي القطب، والوضع المهيمن للإمبراطورية الأمريكية أمور تمثل أحد الاتجاهات الممكنة لتطور النظام السياسي العالمي"(صص 35 ـ 36).

التعددية القطبية لا تتوافق مع عالم أحادي القطب

من خلال بلورته لنظرية عالم متعدد الأقطاب، يعتقد الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين أنَّ عالم متعدد الأقطاب ليس عالماً ثنائي القطب (كما عرفناه في النصف الثاني من القرن العشرين)، حيث لا توجد منذ ذلك الحين قوة واحدة في العالم اليوم قادرة على ذلك بمفردها، أي المواجهة الاستراتيجية لقوة الولايات المتحدة ودول الناتو، وإلى جانب ذلك، لا توجد أيديولوجية واحدة عامة وواضحة يمكنها توحيد جزء كبير من الإنسانية في مواجهة أيديولوجية حازمة مع أيديولوجية الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية و"حقوق الإنسان"، التي تقوم على أساسها هذه المرة الهيمنة الأمريكية الجديدة. لا روسيا الحديثة، ولا الصين ولا الهند ولا أي دولة أخرى، يمكن أن تطمح وحدها في ظل هذه الظروف، إلى مركز القطب الثاني. إنَّ استعادة القطبية الثنائية أمر مستحيل، إما لأسباب أيديولوجية (نهاية جاذبية الماركسية الواسعة)، أو للإمكانات الاستراتيجية والموارد العسكرية الفنية المتراكمة (الولايات المتحدة ودول الناتو على مدى الثلاثين عاماً الماضية تصدرت القيادة حتى إن منافسة متكافئة معها في المجالات العسكرية - الاستراتيجية والاقتصادية والتقنية غير ممكنة لأي دولة في العالم).

من الواضح أن النظام العالمي متعدد الأقطاب لا يختلف فحسب عن أحادي القطب، بل هو نقيضه المباشر، الأحادية القطبية تعني هيمنة مركز واحد لصنع القرار، أما تعددية الأقطاب فتصر على وجود مراكز عدة، وعدم امتلاك أي منها الحق الحصري، ويهدف ذلك إلى مراعاة مواقف الآخرين. وبالتالي فإن التعددية القطبية هي بديل منطقي مباشر للأحادية القطبية لا يمكن أن يكون هناك حل وسط بينهما: وفقاً القوانين المنطق، إما أن يكون العالم أحادي القطب أو متعدد الأقطاب. وخلال ذلك، ليس من المهم كيفية إضفاء الطابع القانوني أو الحقوقي، على هذا النموذج أو ذاك، ولكن كيف يمكن لهذا النموذج أن يكون أمراً واقعاً. كان الدبلوماسيون خلال حقبة الحرب الباردة، والسياسيون مترددين في قبول القطبية الثنائية، والتي كانت مع ذلك حقيقة واضحة. لذلك، من الضروري فصل اللغة الدبلوماسية عن الواقع الملموس. إن العالم أحادي القطب هو الترتيب الفعلي للنظام العالمي اليوم. ولا يسع المرء إلا أن يجادل، فيما إذا كان هذا جيداً أم سيئاً، سواء كان هذا فجر مثل هذا النظام أو، على العكس من ذلك هو غروبه هل سيستمر لفترة طويلة، أو على العكس من ذلك، سينتهي بسرعة. لكن الحقيقة تبقى. نحن نعيش في عالم أحادي القطب. لا تزال لحظة أحادية القطب مستمرة (على الرغم من أن بعض المحللين مقتنعون بأنها تقترب من نهايتها بالفعل).

عالم متعدد الأقطاب لا يُعد غير قطبي

اقترح النقاد الأمريكيون للأحادية القطبية المتشددة، ولا سيما المنافسون الأيديولوجيون للمحافظين الجدد المتمركزين في مجلس العلاقات الخارجية، مصطلحاً آخر بدلاً من الأحادية القطبية عالم لا قطبي (non-polarity). اعتمد هذا المفهوم على حقيقة أن عمليات العولمة ستستمر في الظهور، وسيوسع النموذج الغربي للنظام العالمي وجوده بين جميع دول وشعوب الأرض. وهكذا، ستستمر الهيمنة الفكرية والقيمية للغرب سيكون العالم المعولم عالماً لليبرالية والديمقراطية والسوق الحرة وحقوق الإنسان. لكن دور الولايات المتحدة كقوة وطنية ورائد العولمة، حسب مؤيدي هذه النظرية، سيتقلص بدل الهيمنة الأمريكية المباشرة، ستبدأ في التبلور الحكومة العالمية، التي سيشارك فيها ممثلو مختلف البلدان المتضامنون مع القيم المشتركة، والساعون لإنشاء فضاء اجتماعي وسياسي، واقتصادي واحد، على أراضي الكوكب بأسره. نحن مرة أخرى، نتعامل هنا مع نظير لـ «نهاية التاريخ» لفوكوياما، مفسر بمصطلحات مختلفة فحسب.

سوف يقوم العالم غير القطبي على أساس تعاون الدول الديمقراطية (بصمت). لكن يجب تدريجياً، إشراك الجهات الفاعلة غير الحكومية في عملية التشكيل ـ المنظمات غير الحكومية، والحركات الاجتماعية، وجماعات المواطنين المنفصلة ومجتمعات الإنترنت، وما إلى ذلك.

إن الممارسة الرئيسية في بناء عالم غير قطبي، تتمثل في تبديد مستوى صنع القرار من مركز واحد اليوم واشنطن إلى عديد من المراكز ذات المستوى الأدنى ـ وصولاً إلى الاستفتاءات الكوكبية، عبر الإنترنت حول أهم الأحداث والإجراءات للبشرية جمعاء، وسيحل الاقتصاد محل السياسة، وستزيل المنافسة في السوق جميع حواجز البلدان الجمركية. وسوف يتحول الأمن من مسألة دول، إلى مسألة تخص المواطنين أنفسهم. وسيحل عصر الديمقراطية العالمية.

سوف يقوم العالم غير القطبي على أساس تعاون الدول الديمقراطية (بصمت). لكن يجب تدريجياً، إشراك الجهات الفاعلة غير الحكومية في عملية التشكيل ـ المنظمات غير الحكومية، والحركات الاجتماعية، وجماعات المواطنين المنفصلة ومجتمعات الإنترنت، وما إلى ذلك.
تتوافق هذه النظرية بشكل أساسي مع نظرية العولمة، وتُقَدَّمُ كمرحلة يجب أن تحل محل العالم أحادي القطب. ولكن فقط بشرط أن يصبح النموذج الاجتماعي، والسياسي والقيمي والتكنولوجي، والاقتصادي (الديمقراطية الليبرالية) الذي تروج له الولايات المتحدة والدول الغربية اليوم ظاهرة عالمية، وتختفي الحاجة إلى حماية صارمة للمثل الديمقراطية والليبرالية من قبل الولايات المتحدة نفسها - يجب أن تكون جميع الأنظمة التي تقاوم الغرب والدمقرطة والأمركة، بحلول العالم غير القطبي، قد قضي عليها. ويجب أن تصبح النخبة في جميع البلدان متجانسة، ورأسمالية، وليبرالية، وديمقراطية ـ باختصار، "غربية"، بغض النظر عن أصولها التاريخية والجغرافية والدينية والوطنية.

إن مشروع عالم غير قطبي، مدعوم من عدد من المجموعات السياسية، والمالية المؤثرة ـ بدءاً من عائلة روتشيلد إلى جورج سوروس وصناديقه. هذا المشروع لعالم غير قطبي موجه نحو المستقبل. يُنظر إليه على أنه التكوين العالمي الذي يجب أن يأتي ليحل محل أحادية القطبية، وكأنه يأتي بعدها، وهو ليس بديلاً بقدر ما هو استمرار لها. وستصبح هذه الاستمرارية ممكنة فقط عندما ينتقل مركز الثقل في المجتمع، من التركيبة الحالية لتحالف مستويين من الهيمنة - المادي (المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، والاقتصاد والموارد الغربية) والروحي (المعايير والإجراءات والقيم) - المجرد الهيمنة الثقافية، وستنخفض أهمية الهيمنة المادية تدريجياً. هذا هو مجتمع المعلومات العالمي، حيث ستنشر العمليات الرئيسية للهيمنة في مجال العقل، من خلال التحكم في العقول، والتحكم في الوعي، وبرمجة العالم الافتراضي.

إن العالم متعدد الأقطاب، لا يتوافق بأي حال من الأحوال مع مشروع العالم غير القطبي، لأنه لا يقبل أسس اللحظة أحادية القطب كمقدمة للنظام العالمي المستقبلي، ولا الهيمنة الفكرية للغرب، ولا عالمية قيمه، ولا تشتت مستوى صنع القرار على التعددية الكوكبية، دون الأخذ بالحسبان انتماءها الثقافي والحضاري. يفترض العالم غير القطبي، أن النموذج الأمريكي لبوتقة الانصهار، سوف يمتد إلى العالم كله. ونتيجة لذلك، ستمحى جميع الاختلافات بين الشعوب والثقافات، وستتحول البشرية الموحدة، إلى مجتمع مدني عالمي بلا حدود. إن التعددية القطبية تعتبر أن مراكز صنع القرار، يجب أن تكون على مستوى عال بما فيه الكفاية (ولكن ليس في حالة واحدة - كما هي الحال اليوم في عالم أحادي القطب)، بل يجب الحفاظ على الخصائص الثقافية لكل حضارة معينة وتقويتها (ولا تذوب في مجموعة عالمية واحدة).

اقرأ أيضا: العالم ينتقل من القطبية الأحادية إلى التعددية القطبية.. قراءة في كتاب
التعليقات (0)