كتاب عربي 21

الأخلاقان

تميم البرغوثي
1300x600
1300x600
إن الثورات عادة تصنع بنفسها أخلاقا جديدة، وتكون هذه المنظومة الأخلاقية ناتجة عن الأيديولوجية الغالبة ما بين القوى الثورية. ففي الثورة الروسية مثلا كان التقييم الأخلاقي لأي سلوك فردي أو اجتماعي يعتمد على قرب ذلك السلوك من قيمتي العدالة والمساواة أو بعده عنهما، حتى أن ارتداء ملابس من الفراء الثمين أو ركوب سيارات فارهة كان سلوكا سلبيا يقلل من شأن سالكيه بين الناس.  وفي الثورة الأمريكية كانت قيم الحرية والمسؤولية الفردية والاستقلال الاقتصادي في الصدارة، وكانت أخلاقية أي سلوك تقاس ببعده أوقربه منها. فكان ثراء المرء مدعاة للاحترام والتقدير خاصة إن كان حصل على ماله من عمله. كذلك فقد أصبح المجتمع الحضري الإيراني أكثر محافظة في الثمانينيات، بعيد الثورة الإسلامية، منه في أوائل السبعينيات والستينيات.

وأي منظومة أخلاق، تشبه الإضاءة في المسرح أو في الرسوم، تعلي قيما وتهمل أخرى. فإن من كان يدين ثوب الفراء في روسيا في أوائل القرن العشرين بصفته علامة ثراء والثراء علامة استغلال الآخرين، لم يكن يدين تكميم أفواه المعترضين على النظام السياسي بنفس القدر بل يكاد يغفل عن ذلك. ومن كان يقدر الثراء العصامي في الولايات الأمريكية الثائرة على الأمبراطورية البريطانية في أوائل القرن الثامن عشر لم يكن يزعجه أن كثيرا من هذا الثراء نتج عن استغلال بشر مستضعفين سواء كانوا عبيدا أم عمالا أم أصحاب أرض أصليين طردهم المستعمرون الأوروبيون وسلبوهم أوطانهم. وكثيرون ممن كانوا راضين بالمحافظة الدينية التي تحمي الهوية الثقافية وتقاوم الاستعمار الأجنبي بعد الثورة الإيرانية كانوا يتغاضون عن مسألة الحريات الشخصية. وهذا ليس خطأ بالضرورة لأن تحديد الأولويات ضرورة طبيعية لأي نظام ثقافي وسياسي.

وقد قامت محاولات الثورة في العالم العربي ولم تكتمل لدينا بعدُ نظريات نبني عليها نظما سياسية جديدة. لم يكن لدى نخبنا من مخزون الفكر السياسي والأيديولوجي ما كان لدى غيرنا من أصحاب الثورات الكبرى، فإن كان مفكرونا نقلوا الفكر الاشتراكي والليبرالي عبر الجغرافيا، أو نقلوا الفكر الإسلامي عبر التاريخ، فإنهم لم يصنعوا هم فكرا يكون ابن وقته وابن مكانه. لذلك ترى أن الثوار، وأكثرهم شباب، اعتصموا بالأخلاق العامة، غير المرتبطة بمنظومة أيديولوجية وفلسفية واضحة، أو المجمعة من منظومات عقائدية وفكرية وعامية مختلطة، وجعلوها أساسا لسلوكهم السياسي.

 فإذا عدنا إلى صورة الإضاءة على المسرح،فإن الأخلاق العامة المختلطة المجمَّعة هذه، غير المحكومة بإطار أيديولوجي، تضيء جميع القيم في الوقت ذاته وبالقدر ذاته، فلا يستطيع المهتدون بها ترتيب الأولويات بوضوح. فهل قيمة مقاومة الاحتلال الأجنبي مثلا تعلو على الحريات الفردية أم العكس؟ هل قيمة الاحتفاظ بالهوية الثقافية للأمة، والدين مكون أساسي لها، أهم، أم قيمة التجديد والتمرد على التراث؟ هل الدولة الحديثة خطوة تقدمية، أم قفص استعماري نقيض للتقدم؟ 

إنك إذا سألت هذه الأسئلة لمجموعة من الثوار العرب لوجدت إجابات شتى، وكان افتراق آرائهم مؤذنا بافتراقهم وتبدد إجماعهم وتمكن أعدائهم في معكسر الثورة المضادة منهم.

على أن الثورة المصرية والتونسية، وإن كانتا قد قامتا بدون خلفية أيديولوجية واحدة واضحة، فإن الممارسة على الأرض في البلدين طرحت من خلالهما وسائل جديدة للتنظيم البشري يمكن أن ينطلق التنظير منها وتنبني الأيديولوجيات عليها ثم ينعكس هذا على القيم الأخلاقية الأبرز في للمجتمع. فقد استقلت المجتمعات عن دولها واستطاع الناس أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم،  وحلت شبكة العلاقات الأفقية محل هرم العلاقات التراتبية، وغلبت المظاهرة الشرطة، ثم غلب الفدائيون المتطوعون المجندين المجبرين. وعليه فقدأصبح ممكنا، ببعض الجهد النظري، بناء نموذج للحداثة البديلة، غير الحداثة الاستعمارية التي تحتل تفكير نخبنا منذ قرن أو قرنين. حداثة تكون تطورا طبيعيا للتراث، لا تلفيقا وتوفيقا بينه وبين ما فرضته بنادق الغزاة. أصبح من الممكن العمل النظري على شكل جديد للحكم، لا يلتزم بالحدود الجغرافية والاقتصادية والعسكرية والقانونية التي فرضها الاستعمار علينا لتفيده وتضرنا. ولكن ذلك الجهد النظري لم يكتمل رغم إمكان اكتماله، ناهيك عن أن تنبع عنه أخلاق ثورية جديدة.

وهذا الارتباك الأيديولوجي، وما أدى إليه من عجز عن تقديم أخلاق جديدة، يمكنك أن تراه في كل شيء، حتى في كلام بعض الثوار، فتراهم كرام الشيم مرتبكي اللغة. فترى البعض يدين القيم الذكورية للمجتمع مثلا ثم لا يكف عن استخدام لغة تنحدر إلى السباب المنبني كله على تحقير المرأة، وهو يستخدمه كتابة وعلنا مثلا. وقد أدى هذا الغموض في الطرح الأخلاقي، إلى استفادة أنصار الثورة المضادة، فكانوا يذبحون الناس ويغتضبون النساء ويحرقون الجثث، بينما يركز إعلامهم على لغة فلان أو علان من الثوار.

أقول إن علينا العمل على جبهتين، الأولى هي التأسيس النظري لشكل الحكم الذي نريده، والثاني هي الوضوح في شكل الطرح الأخلاقي المنبثق عنه. وكما سبقنا الناس في اقتراح شكل التنظيم السياسي عمليا حين احتشدوا في الميادين واستقل الشعب عن الدولة، والناس عن الحكومة، فإن الناس سبقونا أيضا في اقتراح جنينيّ لأخلاق جديدة. إن الثوار أنتجوا فيما بينهم ثقافة تشمل تغييرا لمعنى الشرف والستر والفضيحة، ولم تعد الفضيحة في إعلان النساء عما تعرضن له من إساءات بل في الإساءات نفسها، ولم تعد الفضيحة في تعرض المرء للسجن، بل في السكوت عن حق المسجونين ظلما. أصبحت الفضيحة هي في استجداء أموال السفارات والتعاون مع الاحتلال وتلفيق القضايا لا في شكل الملبس أو في العلاقات الشخصية أو في اللغة. لقد أصبح هناك أخلاقان: أخلاق النظم البائدة العائدة والثورات المضادة والمخلوقات ذات الأرواح اللزجة والوجوه الرخامية والهواء الجامد والظل الثقيل، وهي أخلاق تتهرأ كالثوب إذا جال فيه العث، ثم هناك أخلاق الثوار، وهي رغم ارتباكهم وارتباكنا، كالطير الوليد يحاول الطيران وإن مصيره أن يعلو ويعطي السماوات أسماء جديدة. إنها أخلاق وليدة حقا، وما تزال في طور التكوين وتحتاج عملا كثيرا حتى تتأصل وتتناسق وتبرأ من تناقضاتها ولكنها أساس صالح للبناء عليه.

وحالها في ذلك حال الثورة ذاتها، هي بداية ثورة، أو ربما تجربة أولية، كما يفعل الرسام بقلم الرصاص قبل أن يشرع في اللوحة الحقيقية. إن القادم سيكون أعنف وأشمل، ولكنه أيضا سيكون أكثر اتساقا مع نفسه، وسينتج ثقافته وأخلاقه وانتصاره الهادم الباني.
التعليقات (2)
حكم غانم
الخميس، 02-07-2015 09:41 ص
هذا تنظير جدي للحالة الثورية العربية تحتاج إلى الكثير من التأسيس
ابو حسين
الإثنين، 29-06-2015 08:21 م
اشكر الاستاذ علي هذا المقال الرائع و ان كنت اختلف معه في بعض النقاط الجانبية الا ان المقال عموما يضع الاصبع علي موضع الالم ... فثوراتنا و ان كانت عظيمة و راقية في مجملها الا انها تحتاج الي النضج في نقطتين و هما المشروع السياسي و المشروع الاخلاقي ... و لعلي قد كتبت قالا صغيرا علي صفحتي علي الفيسبوك قبل الانقلاب ببضعة أشهر و ذكرت فيه ان غياب المنظومة الاخلاقي او اختفاءها في الشارع النصري و عدم حلول منظومة اخلاقية محلها سيفشل الثورة بالقطع ... عموما تحياتي للاستاذ و أرجو منه التواصل معي علي عنواني الالكتروني : [email protected]