كتاب عربي 21

لماذا رفض الرئيس مرسي عرض صندوق النقد الدولي؟

1300x600

في أول يوليو 2012 حين سلم المجلس العسكري الحكم -مجازا- للسلطة المنتخبة كان الاحتياطي الأجنبي حينها قد هبط إلى 15.5 مليار دولار فقط، أي إن المجلس العسكري أنفق ما يزيد على 20 مليار دولار، حيث كان الاحتياطي قد بلغ 36 مليار دولار حينما تم مبارك على ترك الحكم.

وفي أول لقاء عقده الرئيس مرسي حين استلم الحكم مع الدكتور فاروق العقدة محافظ البنك المركزي وقتها، أخبر العقدة الرئيس بأن وضع الاحتياطي الأجنبي في غاية الخطورة وأن عليه، أي الرئيس، أن يتصرف من أجل الحفاظ على سعر الصرف، وإتاحة الدولار في البنوك من أجل المستوردين، ودفع استحقاقات المديونيات الخارجية. كل هذه الأمور أصبح لزاما على الدكتور مرسي التعامل معها بشكل عاجل بالإضافة إلى المشاكل المالية الداخلية التي كان بعضها له علاقة بطبيعة المرحلة وكثير منها مصطنع وموجه من أجل إفشال النظام الجديد.

ما أريد التركيز عليه في هذه السطور هو ما حدث بين الحكومة والدكتور مرسي من جهة وبين صندوق النقد الدولي من جهة أخرى. ماذا أراد صندوق النقد الدولي؟ وكيف كانت ردود الحكومة؟ ولماذا تأخر منح القرض ولماذا تعطلت المفاوضات؟

والحديث مع صندوق النقد الدولي وتطورات المفاوضات معه يأتي كأحد الملفات المهمة القليلة التي يمكن دراستها، من أجل محاولة فهم النهج الاقتصادي الذي أراده الرئيس مرسي وحزب الحرية والعدالة الذي كان رئيسا له قبل فوزه بالانتخابات.

ربما تكون دراسة القرارات والقوانين إحدى أهم الأدوات لفهم التوجه الاقتصادي للرئيس والحزب، ولكن ملف المفاوضات مع صندوق النقد بشكل عام، وقضية الدعم بشكل خاص، دليل على أن التوجه الاقتصادي للدكتور مرسي وحكومته كان مختلفا بشكل جذري عن توجهات الحكومات السابقة، حتى وإن تشابهت في المسميات العامة مثل الحفاظ على محدودي الدخل ومحاربة التضخم وتنمية الموارد المحلية، الخ… ولكن مع تشابه المسميات يكون التطبيق خير دليل على اختبار الكلام النظري أو البرامج الحزبية.

مرحلة جديدة


كان صندوق النقد الدولي مثله مثل باقي المؤسسات الدولية في حالة ترقب من النظام الجديد ذي الخلفية الإسلامية، كشأن وضع الدول الأوروبية المهمة وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية تجاه مصر، فلم يكن هناك قرار دولي بحظر التعامل مع النظام الجديد، أو مساعدته.


وأعتقد أن أكثر من وصف هذه الحالة بشكل دقيق هو الرئيس الأمريكي السابق أوباما، عندما سئل عن ما إذا كانت مصر ما زالت صديقة بعد صعود الإسلاميين للحكم، فأجاب بأن مصر ليست صديقا وليست عدوا، بل هي دولة لنا معها مصالح. كانت هذه هي طريقة التعامل الجديدة من الطرفين، ولست هنا بصدد تحليل ما إذا كان هذا صحيحا أم لا. ولكن كانت طريقة تتسم بالندية يبحث فيها كل طرف عن مصلحة من يمثلهم.

فمثلا صندوق النقد الدولي كان يبحث عن مصالح المنظومة الدولية التي يمثلها، والتي تريد أن تسيطر بشكل ما على النظام الجديد.

وكذلك الرئيس مرسي وحكومته كانوا يبحثون عن مصلحة مصر من خلال الحصول على القرض، لما في ذلك من فتح باب لمزيد من العلاقات مع المؤسسات الدولية والبنكية الأخرى مع عدم التنازل عن ثوابت محددة سنذكرها فيما بعد.

توجه مختلف

أراد صندوق النقد الدولي أن تطبق الحكومة ما يسميه إصلاحا هيكليا لمنظومة الدعم، وهو رفع السعر على جميع المستفيدين على عدة مرات حتى يتم إلغاء الدعم وتتخلص المالية العامة للدولة من أعبائه، التي كانت تكلفها ما يقارب من ربع الميزانية السنوية.

ويهدف الصندوق من هذا التوجه التأكيد على أن الدعم الذي سيعطيه للدولة سيتم الاستفادة منه في تنمية مستدامة، وأن لا يتم توجيهه لفاتورة الدعم أو سد الفجوة التمويلية. وبالتالي أصر أعضاء الصندوق على فكرة أن مصر تحتاج لقرارات جريئة.

الرئيس مرسي كان يرى بشكل قاطع أن فكرة إلغاء الدعم يجب أن تسبقها مجموعة من الإجراءات، منها غلق منافذ الفساد المستشري داخل منظومة الدعم، وصولا إلى الدعم الجزئي للمواطن، ثم مع الوقت يمكن الحديث عن إجراءات أخرى تتمثل في رفع أسعار بعض المنتجات المدعومة بعد التأكد أن الحكومة أدت ما عليها أولا.

 فعلى سبيل المثال، يجب على الحكومة التصدي أولا لتهريب البترول المدعم الذي يباع في السوق السوداء لبعض الشركات التجارية، أو الذي يتم تهريبه عبر بعض الموانئ للمراكب التجارية، أو ما يتم تهريبه للأردن حيث تنشط تجارة تهريب البترول من السعودية ومصر بما أن المنتج مدعوم من الحكومتين.

 فإذا كان الصندوق يريد التأكد من أن الدولة ستتخلص من أعباء الدعم، فهناك ما لا يقل عن 25% من الدعم الذي يتسرب ولا يصل لمستحقيه. فكان القرار أن تشتري شركات البترول المنتج بالسعر المحرر ثم تستعيد الفرق بعد وصوله للمستفيد النهائي، وبهذا تضمن الحكومة بإجراء واحد ألا يتم بيع المنتج في السوق السوداء سواء محليا أم خارجيا.

ولك أن تتخيل أن فاتورة الدعم من البترول كانت ستنخفض بنسبة لا تقل عن 15% فقط من هذا البند، ولك أن تتخيل أيضا من الذي كاد أن يجن جنونه من هذا الإجراء. والجدير بالذكر أن الميناء الذي كان يتم تهريب أكثر الوقود منه هو ميناء الأتكة التابع للقوات المسلحة.

فهناك مافيا حقيقية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى في مسألة الدعم، وبالتالي إذا أردت أن تخدم هذه المافيا وتلبي رغبات صندوق النقد الدولي، فمن السهل أن تقوم برفع السعر على الجميع وسيستفيد أصحاب المصالح وإن كان بنسبة أقل، ولكن سيدفع المواطن التكلفة الكبرى خاصة في ظل عدم تحسن حالته الاقتصادية العامة أو دخله الشهري.

للأمانة لم تكن هناك معارضة صريحة من صندوق النقد الدولي، ولا أستطيع أن أقول أيضا أنه كانت هناك مماطلة في الإتمام لأنهم أرادوا التأكد من قدرة الحكومة على تطبيق هذه الآلية أولا، ولذلك تم الإسراع في تطبيق منظومة كارت الدعم الذي كان سيعمل على وصول الدعم للمستفيد الحقيقي وبالقيمة المقررة، وبالتالي يمكن إعطاء دعم جزئي للمواطن ثم يشتري المواطن بعدها بالسعر المحرر، مثل أن يحصل على 150 لتر بنزين مثلا في الشهر بالسعر المدعم ثم بعدها يشتري بالسعر المحرر.

هذا التفصيل السردي مهم للتأكيد على أنه كان هناك عدة طرق يمكن تطبيقها لا ترهق المواطن ولا تقوم بإذلاله بعلة أن فاتورة الإصلاح الاقتصادي يجب أن يتحملها الجميع. فلتتحمل الحكومة الإصلاح الإداري ومحاربة مافيا الدعم أولا، ثم يطالب المواطن بعد ذلك بتحمل نصيبه من هذه القرارات.

منهجية الانقلاب

هناك إرادة ممنهجة لدى حكومة الانقلاب بأن يتم نقل العبء المالي للدعم بسرعة فائقة من ميزانية الدولة إلى ميزانية المواطن، وهو يدل على جهل تام وربما إصرار على ألا يستطيع المواطن أن يتنفس، وأن ننتقل من التنازل عن الرفاهيات إلى التنازل عن الأساسيات، والانحدار السريع من الطبقة الوسطى والطبقات الكادحة إلى طبقات ما تحت مستوى الفقر والفقر المدقع.

وقعت حكومة الانقلاب العسكري على اتفاق يمكنها من الحصول على قرض صندوق النقد المقدر بـ 12 مليار دولار، ما مكنها من مخاطبة مزيد من المؤسسات الداعمة للحصول على قروض أخرى، وكما هو معلوم فقد زاد الدين الخارجي الآن إلى ما يزيد على 92.5 مليار دولار، أي بنسبة تزيد على 100% عن كل الديون التي تحملتها مصر عبر تاريخها بالكامل.

وقامت حكومة الجنرال الانقلابي برفع الدعم وما صاحبه من قرارات أخرى مثل تعويم الجنيه وتبني مشروعات ذات طابع تمويلي كبير مثل العاصمة الإدارية ومشروع تفريعة قناة السويس. وبعد قرار التعويم غير المدروس، أصبحت الدولة تطالب المواطن بسد الفارق بين السعر المدعم والسعر العالمي، فمثلا بعد أن كان على المواطن أن يسد فارق 4 جنيهات عن لتر البنزين في 2012 أصبح عليه أن يسد فارق 13 جنيها في 2017 و2018.

مهمة الحكومة

ومن المهم الإشارة إلى أن التعامل مع الدعم عند الرئيس مرسي كان له أبعاد أخرى، ومنها التأكد من أن المنتج المدعوم مصنع أو مزروع محليا، وبالتالي فإنه كان على الوزارات المعنية التفاوض الجاد في حال استيراد المواد الاستراتيجية مثل القمح والبترول للحصول على أفضل أسعار تنافسية (والفساد هنا أكبر من أن نتحدث عنه فالأرقام مرعبة في ما يخص استيراد القمح مثلا من دول مثل أوكرانيا وروسيا وفرنسا)، وأصبح على الحكومة أيضا تبني سياسات واضحة وداعمة للمحصول المحلي مثل زيادة المساحات المزروعة بالقمح ودعم الفلاح أو التفاوض المحترم الذي يعلي مصلحة الوطن مع الشريك الأجنبي في حقول البترول المصرية، وتفاصيل التفاوض الجديدة مع بريتيش بتروليوم وبي جي كثيرة جدا. لقد شعر الكثيرون بالقلق عندما أدركوا أن هناك إرادة سياسية حقيقية في تغيير شكل التعامل الاقتصادي، وأن المواطن جزء من عملية التغيير ولكنه آخر من سيطالب بتحمل العبء، بعد أن أصبح هناك نظام حاكم محترم يدافع عن حقوقه أولا ويحارب الفساد الداخلي ويتحرر من التبعية العمياء للمنظومة الدولية.

ربما لم يكتب لهذه المشروعات أن ترى النور نتيجة للانقلاب الدموي، ولكن إلغاء هذه المشروعات وطريقة التفاوض الجاد مع صندوق النقد الدولي والهرولة فقط لطلب مزيد من القروض بشكل جنوني كفيل بن يؤكد أن النظام في عهد الدكتور مرسي كان لديه نظرة أخرى، وجدية في الانحياز للمواطن والانحياز للوطن، ويتمثل هذا المشروع عندي بشكل لا لبس فيه في شخصية الرئيس مرسي، وأصبحت هذه هي الروح العامة التي تتعامل بها الحكومة مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات الأخرى كبنك التنمية الأوروبي وغيره.

ختاما، للأسف، فإن النظرة المستقبلية ليست متفائلة، فالنظام يدرك ما يفعل وسيقوم بشكل متسارع بإلقاء مزيد من الأعباء على كاهل العائلات المصرية التي لم يعد بمقدورها تحملها، وستنتقل مصر كلها إلى مزيد من التفكك والفقر، بينما يخرج الجنرال الخائن ليحدثنا عن فخره بالشعب الذي تحمل فاتورة الإصلاح الاقتصادي وأنه قريبا وقريبا جدا سينعم الجميع بالنتائج وفي اليوم التالي يتخذ من القرارات ما يؤدي إلى زيادة أسعار المنتجات والخدمات.

لم يكن الرئيس مرسي إلا دليلا على أن الشعب المصري يملك البديل، البديل الحقيقي الذي بالتأكيد أخاف أصحاب المصالح، ولربما لم يرق ذلك النهج حتى للمواطن العادي في لحظة ما، لأنه لم يتعود أن يكون هذا شكل الحاكم أو هذه طباعه، ولكنه بالتأكيد أثبت أن هناك من امتلك طرحا مختلفا وأنه لا مجال للمقارنة بين ما تفعله منظومة مستبدة وفاشلة منذ أكثر من ستة عقود وبين من سعى بشكل واضح على مدار أشهر قليلة للتغيير وانحاز فيه للوطن، وللوطن فقط.