قضايا وآراء

قتلتهم الفئة الباغية

1300x600
بقلب يملؤه الأسى والألم المرير، تابعنا اللحظات الأخيرة في حياة تسعة من خيرة شباب مصر، يوم الأربعاء الدامي، في القضية المعروفة إعلاميا بـ"قضية النائب العام"، ثم تصفية ثمانية من أبرياء سيناء بعد تنفيذ حكم الإعدام الجائر بسويعات معدودة.

ولسنا هنا بصدد تفنيد أدلة الادعاء الواهية التي بنى عليها قاضي الإعدام أحكامه، ومنها وجود أحد المنفذ فيهم الحكم في الجيش المصري لتأدية فترة تجنيده، ووجود بعضهم رهن الاعتقال في أثناء اغتيال النائب العام، أو التعذيب الممنهج الذي تعرض له هؤلاء الشباب وأعلنوا عنه للقاضي فلم يلتفت لهم، فتلك مهمة الحقوقيين، ولسنا كذلك بصدد إثبات تسييس القضية رغم علامات الاستفهام التي تحيط بها وتفسيرها في صالح المغدورين، إنما نحن بصدد ما هو أكبر، في قضية حرص النظام على غلق أوراقها بعدما وقف قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي بنفسه، متوعدا في جنازة النائب العام بتعديل القوانين لتسمح بسرعة تنفيذ أحكام الاعدام، وكان ذلك قبل تلفيق التهمة لكوادر جماعة الإخوان المسلمين وقبل البدء في أي تحقيقات.

إننا بصدد جرائم تمت بالفعل في أسبوعين داميين، بتنفيذ أحكام إعدام في قضايا رأي عام، حولها الكثير من اللغط وشبه اليقين بتورط النظام فيها، وجرائم أخرى يعد لها، وطابور من الأبرياء ينتظر النحر تحت ظل حكم لا قضاء به، ولا قانون، ولا رحمة. تحت مظلة فرقة كبيرة لأصحاب الحق، بينما يدفع الوطن وأبناؤه الأبرياء الثمن الأكبر.

لماذا أعدم الشباب

منذ اليوم الأول للانقلاب، لم يتوقف النظام عن قتل الشباب بكل وسيلة متاحة له: الإخفاء القسري، والإهمال الطبي في المعتقلات، والقتل في المسيرات المناهضة له بدم بارد، والقتل الجماعي للسلميين في رابعة والنهضة. فليس غريبا اليوم تلفيق التهم وتنفيذ أحكام جائرة، وليس غريبا ألا تكون آخر الاعدامات، بل بداية موجة مخيفة منها قد تطال بعض القيادات المطلوب التخلص منها على خلفية تعديل الدستور، وخروج الأصوات الداعية للمقاطعة بقوة لتلك الجريمة المعد لها منذ زمن، وتأليب الشعب عليها، وفضح البرلمان ووسمه بالخيانة لتمريرها، ومصاحبة كذلك لما يتم في غيبة من وسائل الإعلام المحلية والعالمية؛ من جرائم تشهدها أرض سيناء لتفريغها من سكانها، وتسليمها خالصة لتنفيذ الصفقة المشبوهة والمعروفة بصفقة القرن.

يكثر القتل لبث حالة من الرعب والصدمة لدى فئات الشعب التي بدأت في التململ، وإظهار الغضب والتجرؤ على الجهاز الأمني والشرطي خلال مواجهات الأهالي في الوراق ونزلة السمان، ورفضهم التخلي عن أرضهم وبيوتهم التي يريد النظام اغتصابها لأسباب لا تقنع طفلا متابعا. كان لا بد من بث الذعر داخل الشعب الذي بدأ همسه يصل لمسامع النظام، من رفضه المطلق لبقاء السيسي على سدة الحكم في ظروف اقتصادية أعجزت المواطن عن الاستمرار في حياته، حتى يصير الانتحار تحت عجلات مترو الأنفاق ظاهرة، والإلحاد ظاهرة، والفوضى والتدني الأخلاقي ظاهرة، وانعدام الأمن في الشارع المصري ظاهرة.

تعالت أصوات الشعب المختنقة في هيئة نكات هزت أركان السيسي، فوقف مغاضبا يشتكي السخرية منه، ويعدد الشائعات التي خرجت في أوساط البسطاء وعلى صفحات التواصل الاجتماعي التي أصبحت المتنفس الوحيد للشباب للتعبير عن غضبه تجاه الظلم المتزايد في البلاد، ومتوعدا بمن يفعل بالويل والثبور.

كان لا بد من صدمة موجعة تذكر الناس برابعة والقتل الجماعي، بغير رادع أو خوف. والحقيقة الجلية أن النظام المصري لم يعد أمامه خيارات كثيرة في طريقته في الحكم. لقد وضع القتل الممنهج النظام في طريق له اتجاه واحد، هو الخلاص من كل صوت يمكن أن يعرقله عن الاستمرار، حتى لو كان هذا الصوت ممن دعموه وأتوا به ودعوا إليه وبشروا به، أو البديل سوف يكون رحيلا داميا له ومن معه. يعلم النظام الحالي تلك الحقيقة ويدركها، بينما قد لا يدركها معارضوه الذين لا يملكون سوى أصواتهم الممزقة بالخلاف، التي يخشى من وحدتها كما يخشى ساعة الحساب، فيحرص على بث الفرقة بينها وإبقاء الوضع على ما هو عليه.

لقد قتل السيسي الشباب رغم يقين العالم ببراءتهم، ورغم معرفته بالقاتل الحقيقي، ليس عداء معهم كأفراد، وإنما رسالة لكل من يقف في طريقه؛ بأنه لا يعرف سوى طريق واحد: إما معي أو ضدي، إما أن نحكمكم أو نقتلكم، إما أن تكونوا قوة مترابطة كما كنتم في كانون الثاني/ يناير، أو سأجعلكم أشلاء واحدا تلو الآخر، وفصيلا تلو الآخر. ليس المقصود الإخوان وحدهم، وإنما كل معارض له، وكل مناوئ، وكل عقبة في طريق فرض سيطرته على البلاد وإسكات كل صوت معارض له. ومعنى ذلك أن أحكام الإعدام لن تتوقف على الإخوان دون غيرهم، فاليوم بدأ بهم، وغدا يمتد جبروته لغيرهم. هكذا يفعل المستبد في كل زمن.

إن إعدام الشباب رسالة قوية من النظام بأن تكف تلك الأصوات التي تعادي تعديل الدستور، وتقوم بفضحه أمام العالم وإظهاره بالمرفوض شعبيا، وتعريه أمام الجميع.

كيف نوقف تلك المجازر؟

كما قلت بداية، فإن من قتل الشباب هي الفئة الباغية، والفئة الباغية لا تتوقف عند السيسي وزبانيته، وإنما كل من يعرقل عملية الاصطفاف ضد هذا النظام الذي فجر في خصومته مع الشعب الذي يكشف المزيد من التآمر كل يوم.

ولا سبيل لإيقاف تلك المجازر إلا أن يجد النظام هذا الشعب قوة متوحدة في مواجهته. إن الغضب المتزايد في الشارع لأسباب متعددة؛ يجب أن توجهه قيادة ليصب في تيار واحد يسمع العالم صوت المصريين هادرا.

فمن جملة تلك الجرائم، نستشف موقف الغرب الذي يكيل بمكاييل متعددة، ويضع نصب عينيه مصلحته في المقام الأول، فلن تهزه دماء المصريين مهما كبر حجمها إلا أن يشعر بتهديد تلك المصالح في بلادنا، وأننا شعوب لم تمت بعد. وتلك أوروبا التي تهدد تركيا بوقف مفاوضات العضوية إذا أعادت العمل بعقوبة الإعدام؛ لا تحرك ساكنا أمام آلة الذبح المستمرة لأحرار مصر. فالاعتماد على الغرب أو المنظمات الحقوقية الدولية، أو حتى الأمم المتحدة، هو درب من الوهن وهدر للوقت، وإعطاء مزيد من الفرص لقتل أكبر عدد يستطيعه النظام المصري العسكري.

لقد وجب الآن على كل ذي بصيرة أن يتوقف ويتساءل: ماذا قدمت لإسقاط هذا الطاغية الغاشم؟ ماذا قدمت وأنا أرفض التعاون مع هذا وأهاجم ذاك وأعلن شماتتي بهؤلاء؟ لقد آن الأوان أن نوحد غايتنا وإن تعددت وسائلنا. فالصوت المفرد لا قيمة له، والحراك الفردي سهل وأده في مهده، فلم يعد فصيل قادر وحده على صنع معجزة.

لا يستطيع القيام بالمهمة إلا الشعب مجتمعا. وقد تبين الصديق من العدو، ومن يريد بهذا الشعب خيرا ومن لا يريد. لقد آن الأوان لأن ترفع الوصاية على الشعب ليقرر بنفسه مصيره، وينتزع حريته دون وضع الحصان أمام العربة وتقسيم ما لا نملك. فلنجتمع دون شروط مسبقة، ولنبدأ من جديد، ولينضم كل من يعادي الاستبداد، ونرحب بكل عائد طالما أعلن توبته من الانقلاب ولم يشارك في الدماء، وليتوحد أبناء الصف الواحد وهم يوقنون بأن سفينة بأكثر من ربان تغرق، وليتحرك أصحاب الرؤي ليجمعوا حولهم البسطاء. والبداية الصادقة كفيلة بأن تجمع حولها الفرقاء.

لقد آن الأوان لأن نستفيق بعد تلك الدماء الطاهرة التي أهدرت، وما زال المزيد في الانتظار حتى يقرر الشعب أن تكون له كلمة.