كتاب عربي 21

الجزائر.. 11 يناير 1992

1300x600

على التلفزيون الجزائري الرسمي، وفي نشرة الثامنة ليلا، كان المشهد يومها كالتالي: يدخل الرئيس الشاذلي بن جديد لإحدى غرف القصر الرئاسي، حيث كان في انتظاره أعضاء المجلس الدستوري ليسلم عليهم الواحد تلو الآخر.

 

بين استقالة ابن جديد وبوتفليقة


يتحدث الشاذلي بن جديد: بعد تفكير في حل أحفظ من خلاله وحدة الأمة والأمن والاستقرار في هذه البلاد، قررت، وأردت أن أعلن هذا القرار أمامكم جميعا أعضاء المجلس ورئيس المجلس، استقالتي من رئاسة الجمهورية ابتداء من هذا اليوم.

سلم ابن جديد مجددا على الحاضرين وغادر.

أخلفت الجزائر يومها الموعد مع تجربة ديمقراطية كانت سباقة إليها في كل ديكتاتوريات الوطن العربي، ودخلت في أتون حرب أهلية دامت عشر سنوات عاثت فيها العصابات بمختلف انتماءاتها الرسمية وغير الرسمية فسادا. وفي 13 تموز (يوليو) 1999 اُستُدعِيَّ عبد العزيز بوتفليقة لتحمل مسؤولية "إعادة الاستقرار" على جثث مئتي ألف جزائري فُرِض على ذويهم القبول بالصمت قربانا للأمان.

الثاني من نيسان (أبريل) 2019: مشهد القصر الرئاسي، الرئيس يقدم استقالته، كلاكيت مرة ثانية.

على التلفزيون الجزائري الرسمي، وفي موعد متأخر من الليل ظهر عبد العزيز بوتفليقة منهكا على كرسيه المتحرك، وعلى جنبيه رئيسا مجلس الأمة والمجلس الدستوري. لم يقو بوتفليقة على تسليم رسالة "الاستقالة" إلا بصعوبة بالغة. كما لم يتمكن من توجيه ولو كلمة واحدة إلى الشعب وهو الصائم، مضطرا، عن الحديث منذ سنوات تناوبت عليه خلالها الجلطات، فقضاها سعيا بين قصر المرادية ومستشفيات جنيف وباريس.

في كلا المشهدين، كان الجيش اللاعب الخفي/الظاهر في تعيين وإقالة الرؤساء. لكن أحداثا مفصلية حدثت بين المشهدين، إن على المستوى المحلي أو الدولي جعلت مخرجهما يتبنى مدرستين "فنيتين" مختلفتين.

 

اختاره الجيش


في العام 1979، استقدم الجيش أحد أبنائه القابعين في الظل لتولي رئاسة الجمهورية الجزائرية ضدا على التخمينات التي كانت تسير في اتجاه تسليم العهدة لآخرين كان عبد العزيز بوتفليقة واحدا منهم. 

ظهر الشاذلي بن جديد يومها على الساحة حاكما باسم الجيش حتى العام 1988، حيث اندلع ما سمي وقتها بريبع الجزائر على شكل مظاهرات شبابية عارمة، احتجاجا على سياسات التقشف الحكومي، وكان الرد وحشيا من حراس المعبد العسكريين. انتهى الأمر بالجزائر، رغم ذلك، إلى تجربة ديمقراطية وليدة شكلت الاستثناء في جغرافيا الاستبداد العربي. لم يكن الجيش ليتقبل مآلات الوضع الجديد المهدد لمصالحه ولسيطرته على دواليب الدولة فقرر إجهاض المسلسل الانتخابي، قبل انتهائه، آمرا الشاذلي بن جديد بترك السفينة عنوة ليغرقها الجنرالات بعد ذلك في أتون حرب أهلية لم يسلم من آلامها بيت جزائري.

 

المؤسف أن يصبح "السيسي" نموذجا يستنبت كالفطر في كل الأقطار، وأن تصل نبتته الخبيثة لأرض الأحرار في بلد ثورة المليون شهيد.


بعد عشرين سنة من إقصائه عن خلافة هواري بومدين، وعشر سنوات من الحرب الأهلية والأحكام العرفية، استقدِم عبد العزيز بوتفليقة للحكم، باسم الجيش دوما أو هكذا أِريد له. ولأن الجيش كان في أضعف حالاته، خصوصا على مستوى صورته التي سودتها كثير من الشكوك التي تناسلت عن دوره المريب طوال العشرية السوداء وجرائمها، كانت الحاجة ماسة لم يرممها ويدفع التهمة عن جنرالات المرحلة بإسكات الجزائريين عن الخوض في الموضوع إلى الأبد، وكان العنوان "ميثاق السلم والمصالحة الوطنية"، الذي قبل بوتفليقة تبنيه مقابل كرسي الرئاسة ومعه وزارة الدفاع. 

 

بين بوتفليقة والجيش

التوجس بين الرجل وجنرالات الجيش ظل مسيطرا طوال عهده الأربعة في السر والعلن، وكانت تباشير المواجهة واضحة من اليوم الأول حين تحدى بوتفليقة الجنرالات علنا في تصريح للتلفزيون السويسري في العام 1999 قائلا: "أنا الجزائر. أنا أجسد الشعب الجزائري. أبلغوا الجنرالات أن يلتهموني إن كانوا قادرين على ذلك". 

طوال سنوات حكمه الأولى لم يتوان عبد العزيز بوتفليقة في تقليم أظافر الجيش باستبعاد وجوه مرحلة العشرية السوداء البارزين، ومحاولة تكريس رجاله قادة للجيش الشعبي، وعلى رأسهم كان أحمد قايد صالح، رئيس الأركان الحالي. وقبل أشهر فقط، تعرض عدد من قادة الجيش للتنحية، بل الاستماع إليهم في قضايا فساد وإثراء غير مشروع، وهو ما فسر على أنه تهيئة في طريق إقرار العهدة الرئاسية للرئيس. كما توالت الرسائل من قصر المرادية في خطابات، صار ينظر إليها اليوم على أنها منسوبة للرئيس، تدعو الجميع للاصطفاف وراءه على اعتبار أن "عهد إمساك العصا من الوسط قد ولى"، وأن "عهد المراحل الانتقالية في الجزائر" ولى معه، وهو ما فسره البعض وقتها بأنه تحذير من انقلاب يقوده الجيش، "استجابة" لدعوات بدأت تطفو على السطح وقتها تدعوه للتدخل ضد "عصابة" الرئيس.

 

 

الأكيد أن الانقلاب أو فرض الاستقالة على الرئيس بوتفليقة ما عاد ممكنا بالطرق التقليدية


صدق حدس قصر المرادية، وأظهرت الأيام كيف استخدم أحمد قايد صالح مصطلح "العصابة" في مواجهة القصر الرئاسي "استجابة" لطموحات الشعب الذي خرج إلى الشوارع بالملايين، وتمكن الجنرالات على ما يبدو أن يلتهموا بوتفليقة العاجز، عشرون سنة بعد تحديه المتلفز، بعد أن تمكن الفساد من نظامه وتعفنت أركانه.

الأكيد أن الانقلاب أو فرض الاستقالة على الرئيس بوتفليقة ما عاد ممكنا بالطرق التقليدية، بالرغم من كل النكوص الذي تشهده منطقة شمال أفريقيا مع تولي السيسي مقاليد مصر وسعي حفتر الحثيث لتملك ليبيا، وتناوب العسكر على حكم موريتانيا جنرالا بعد آخر. تحريك الشارع أو على الأقل الركوب على صموده في مواجهة "لا اهتمام" السلطة بمطالبه، كان الوسيلة الأضمن لاستعادة الجيش زمام المبادرة وتأكيد سموه على الخلافات السياسية باعتباره الحامي الأمين للنظام الجمهوري. لكن تسلسل خطابات قايد صالح فضحت بجلاء "انتظارية" الرجل وعدم قدرته، ووراءه الجيش، على المبادرة والإقدام. وإن صدقنا بما جاء فيها، فذاك فشل أمني واستخباراتي فظيع أن يكتشف رئيس الأركان ومن معه، اليوم فقط، وجود "العصابة" التي استولت على مقدرات الوطن. تحرك رئيس الأركان كان مجرد رد فعل استباقي لمحاولات قصر المرادية تنحيته عن المشهد، وهو من ثم تحصين لمصالح شخصية لا علاقة لها بالحراك ولا بمطالب المتظاهرين ولا بالواجب الوطني. المؤسف أن يصبح "السيسي" نموذجا يستنبت كالفطر في كل الأقطار، وأن تصل نبتته الخبيثة لأرض الأحرار في بلد ثورة المليون شهيد.

مشهد من فيلم سينمائي.

فيلم (حادث النيل هيلتون ـ 2017) للمخرج طارق صالح.

تقترب سيارة رئيس قسم شرطة قسم النيل كمال مصطفى، وبجانبه المقدم نور الدين، واحدة من المظاهرات التي خرجت في الخامس والعشرين من شهر كانون ثاني (يناير) 2011 وما تلاه للمطالبة بإسقاط النظام والفساد الذي نخره من كل أطرافه. قبلها بقليل فطن نور الدين أن رئيسه في العمل، وعمه في الحياة، من الفاسدين الكبار في المؤسسة الشرطية، وهو الفساد الذي لم يفلت منه شخصيا لكن بحجم أصغر بكثير. يبدو أن ضمير المقدم بدأ في الاستيقاظ.

يوقف كمال السيارة وينزل منها حاملا بيده حقيبة تحتوي على الرشوة التي أغلق بموجبها ملف جريمة قتل، راحت ضحيتها مغنية على يد أحد النافذين المقربين من النظام. وبينما هو يلتفت بعد أن صار وسط التظاهرة، يظهر له نور الدين حاملا سلاحه بما يعني رغبته في اعتقاله، ومنعه من الفرار بما تحصل عليه من مال.

كمال مصطفى: أنت اتجننت بقا. عاوز تقبض عليا؟ ده أنا كنت بأعاملك زي ابني. ايه النذالة ده؟ أوكي.. عاوز تقبض عليا؟ اقبض عليا يا حضرة الضابط (رافعا يديه إلى أعلى) اقبض عليا (يصرخ لإسماع المتظاهرين).

يتنبه المتظاهرون إلى ما يحدث بين الاثنين.

أحدهم: ده شرطة ومعاه سلاح..

ويبدأون في ركله وضربه في وقت ينسحب فيه كمال مصطفى بهدوء، ويختفي وسط الجموع ومعه "أمواله" المنهوبة من قوت الشعب.

في أعلى بناية، يواصل بعض من الثوار مهمة تمزيق صورة محمد حسني مبارك.

نرجو ألا  يكون ما يحدث في الجزائر مجرد شيء من هذا.