قضايا وآراء

ميثاق أخلاقي بالسياسة: هل استعاض يوسف الشاهد عن القانون بالأخلاق؟

1300x600
يوم 4 نيسان/ أبريل الجاري، شهدت الجلسة العامة في البرلمان التونسي المخصصة للحوار مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد حول قطاع الصحة تحديدا، حالة من الاحتقان والفوضى من طرف أساتذة اتحاد "إجابة" المتواجدين في الشرفة المطلة على قاعة الجلسات العامة، جاؤوا للاحتجاج بعد أن عمدت وزارة التعليم العالي لحرمانهم من مرتباتهم بسبب إضراباتهم التي تستمر منذ عدة أشهر، ولم تقبل سلطة الإشراف بالتفاوض معهم بدعوى عدم انضوائهم تحت المنظمة النقابية الرئيسية "الاتحاد العام التونسي للشغل"، كما رفضت رابطة حقوق الإنسان تبني قضيتهم بنفس التبرير.

وقد أجبر رئيس المجلس محمد الناصر، بسبب حالة الفوضى تلك، على رفع الجلسة لمدة عشر دقائق، قبل أن يُضطر رئيس الحكومة إلى المغادرة بعد لحظات من بداية القاء كلمته.

ذاك المشهد خلّف ردود فعل وتساؤلات في الوسط الإعلامي والسياسي حول هيبة الدولة، وحول مهابة البرلمان، وحول تطبيق القانون، وحول الحد الفاصل بين الحرية والفوضى، علما أن مثل هذا المشهد في البرلمان يتكرر باستمرار وبطرائق مختلفة. فالجميع يتذكر ذاك الأمني الذي انتحل صفة النائب مبروك الحريزي (عن حزب المؤتمر) وجلس في مقعده وأدى القسم بدلا منه، يوم 2 كانون الأول/ ديسمبر 2014، وقد علم أن النائب الحقيقي متغيب عن الجلسة.

كما تكررت تحت قبة البرلمان حالات الاشتباك والتطاول وتعطيل السير العادي للجلسات. وقد اضطر النائب الأول لرئيس البرلمان الأستاذ عبد الفتاح مورو قبل مدة؛ إلى التهديد بالاستقالة، وتغيّب أياما عن الجلسات، بسبب ما تعرض له من تطاول أثناء إدارته لإحدى الجلسات.

ولعل آخر ما حدث من سوء تواصل تحت قبة البرلمان؛ هو ما حصل بين وزير التربية وإحدى النائبات في جلسة مساءلة مع سيادة الوزير. لقد كان الخطاب من الطرفين غير مناسب، لا لشخصيهما ولا للبرلمان ولا لمعاني الحرية.

لقد شهدت تونس منذ عشية 14 كانون الثاني/ يناير 2011؛ منسوبا عاليا من "الجرأة" في التعبير ورفع الصوت والاحتجاج، وغلق الطرقات وتعطيل المؤسسات، وطرد المسؤولين الكبار، بمن فيهم رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس المجلس التأسيسي، كان ذلك في سيدي بوزيد في الذكرى الأولى للثورة سنة 2012، كما حدث ثانية وداخل مؤسسة أمنية ومع نفس المسؤولين.

كان يمكن تفهّم مثل تلك "الجرأة" حين تصدر عن عموم الناس، لكونهم عاشوا عقودا تحت سلطة البوليس، يفتقدون أدنى مقدار من الحرية ويتعرضون للتتبع بسبب أي نقد أو موقف رافض، ولكن أن تكون تلك "الجرأة" صادرة عن سياسيين ومسؤولي أحزاب، فهو ما يُفهم على أنه يدخل في إطار "الشعبوية" السياسية، وفي "خطة" الاستعداد للانتخابات القادمة، حتى وإن كان ذلك على حساب هيبة الدولة ومهابة المؤسسات والكرامة الشخصية للأفراد، سواء من المسؤولين في الحكومة أو من المنافسين حزبيا وسياسيا.

التونسيون لم تعد تعنيهم معارك السياسيين، ولم يعودوا يتأثرون بحماسة البعض وشعبوية البعض الآخر، بل أصبحوا واقعيين أكثر؛ تعنيهم ظروف عيشهم ومقدرتهم المعيشية، وتعنيهم الأسعار التي لا تكف عن الارتفاع، وتعنيهم المواد الاستهلاكية المفقودة بسبب المحتكرين والمضاربين والمهربين.

وهنا يسأل المواطن السيد رئيس الحكومة عما سيفعله في مواجهة الفساد والمفسدين، وفي مقاومة الذين أجرموا ويُجرمون في حق المواطن؛ يهددون أمنه الصحي والغذائي، ويعبثون بقيمه وثقافته وهويته وتاريخه.

السيد يوسف الشاهد يقيم مشروعية حكمه على "محاربة الفساد"، وهو يكرر ذلك دائما ويقول إنه "لا يخاف" إذ يُواجه المفسدين، غير أن أثار الفساد يشاهدها الناس في حياتهم اليومية، ويلمسونها في أقواتهم وأدويتهم وحليب أطفالهم، وهم لا يحتاجون خطابا وإنما ينتظرون أفعالا.

السيد رئيس الحكومة في كلمته يوم الاربعاء 17 نيسان/ أبريل الجاري؛ أعلن عن مبادرة من أجل "ميثاق أخلاقي سياسي"، الهدف منه بنظره "تنقية الأجواء في الساحة السياسية، من أجل حماية المكسب الديمقراطي للشعب التونسي دون أي إقصاء لأي كان"، معتبرا أن "الإقصاء والديمقراطية لا يلتقيان"، ومحذرا مما قال إنها "أخبار زائفة تهدف إلى ضرب الحكومة ومعنويات التونسيين"، دون أن يغفل التعبير عن تعهده بـ"التصدي للذين يريدون إرجاع البلاد للفوضى والعنف السياسي".

دعوة الشاهد لميثاق أخلاقي؛ وجدت تجاوبا سريعا لدى كل من حزب النداء وحركة النهضة وحزب "تحيا تونس". أما الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية، أمين عام حزب العمال الشيوعي حمة الهمامي، فقد نفى أي صِدقية عن دعوة الشاهد، ووصفه بالمستبد، وتوقع له نهاية كما نهاية كل المستبدين.

أما السيد منصف المرزوقي، رئيس الجمهورية السابق والمتأهب للرئاسية القادمة، فقد طالب الشاهد بالاعتذار إليه علنا أمام التونسيين على ما صدر منه تجاهه بعد ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية في 2014، حيث تم تسريب شريط فيديو ظهر فيه الشاهد يرقص ويقول كلاما نابيا بحق المنصف المرزوقي، وهو رئيس يومها يستعد لمغادرة القصر بعد "هزيمته" أمام الباجي قائد السبسي.

قديما قالت المعتزلة: "لو تكافَّ الناسُ عن التظالم لاستغنوا عن الشرع". فالقوانين إنما جُعلت لتنظيم حياة الناس وضبط علاقاتهم ومعاملاتهم، ومنع المظالم وحماية الحقوق. ولو كان الناس على درجة عالية من الاستقامة ومن التزام الحق ومراعاة الواجب، بما تقتضيه الفطرة الإنسانية السوية، لما احتاجوا لا إلى قوانين ولا إلى سلطة تحرص على تطبيق تلك القوانين وإنفاذ الأحكام.

غير أن طبائع الناس وأمزجتهم متفاوتة واستعداداتهم الروحية والذهنية متقلبة بتقلب مصالحهم، وتحرك غرائزهم وشهواتهم، فيظلون بحاجة إلى قوانين وإلى سلطة مقتدرة؛ تأخذ على أيدي الظالمين وتحمي حقوق الضعفاء وتمنع الفوضى والفساد.

وفي نظريته حول العمران البشري يقول العلامة ابن خلدون:

"ثمّ إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قرَّرناهُ وتمَّ عُمرانُ العالم بهم، فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض، لما في طِباعهم من العدوان والظلم، وليست آلة السلاح التي جعلت دافعةً لعدوان الحيوانات العُجم عنهم كافيةً في دفع العدوان عنهم؛ لأنها موجودة لجميعهم. فلا بد من وجود شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض.. فيكون ذلك الوازع واحداً منهم يكون له عليهم الغَلبة والسلطان واليد القاهرة، حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان، وهذا هو معنى الْمُلك".