كتاب عربي 21

هل الصراع بين إيران وأمريكا مسرحية؟

1300x600

يحتشد الخيال الشعبي العربي بالكثير من التفسيرات التآمرية للأحداث، ويتم التعامل بناء على هذا الخيال مع كثير من الظواهر السياسية والسيسيولوجية باعتبارها مجرد مسرحيات. فالصراع بين أمريكا وإيران مسرحية، والصراع بين الاحتلال الصهيوني وحزب الله مسرحية، وتأسيس تنظيم الدولة وكل ما قام به منذ نشوئه إلى حين هزيمته الميدانية هو الأخر مسرحية، وينطبق الأمر على العلاقة بين إيران وتنظيم القاعدة وربما على كل الظواهر السياسية والاجتماعية المعقدة.

ثمة أساس يبدو "منطقيا" لهذه التحليلات بالنظر لتاريخ المنطقة، فقد تعرض العرب للكثير من المؤامرات والظلم عبر التاريخ الحديث، ابتداء من سايكس بيكو وتقسيم المنطقة، مرورا بوعد بلفور وما تبعه من احتلال لفلسطين، وتأسيس الدولة العربية الحديثة من قبل الاستعمار، وحروب العرب مع الاحتلال، وغزو العراق، وغيرها من الأحداث التي لا تكاد تتسع لها قائمة.


دولة مثل أمريكا لم تتعامل مع إيران بطريقة ثابتة وأحادية، ولم تجعل التجربة التاريخية تحكم علاقاتها مع هذه الدولة، بل اتبعت معها سياسات متغيرة حسب تغير الظرف، ودائما حسب المصالح القومية الأمريكية

وعلاوة على حضور التاريخ الكثيف في فرض هذا النوع من التفسيرات، فإن الواقع العربي يساهم في تعزيزها أيضا، فالشعوب المهزومة والأمم المتأخرة تميل للتفسير التآمري على حساب التحليلات العلمية القائمة على فهم تعقيدات السياسية.

ومع تفهم هذه الأسباب التاريخية لانتشار التحليلات الاختزالية (والمصطلح هو للراحل عبد الوهاب المسيري) لأحداث المنطقة، إلا أن الحقيقة هي أن الأحداث المعقدة والمركبة مثل الصراعات السياسية لا يمكن تفسيرها بشكل اختزالي بل إنها تحتاج لتحليل مركب معقد يتوافق مع طبيعة الأحداث.

ويمكن أن نستعرض تحليلات لكافة الأحداث التي ذكرت في مقدمة المقال وتفسر على أنها مسرحيات، ولكن المقام لا يحتمل مثل هذه الإطالة، ولكننا نكتفي بالتركيز على تحليل العلاقة بين إيران والولايات المتحدة في ظل تصاعد الصراع والتوتر بينهما، وأيضا في ظل ارتفاع الأصوات التي تعتبر هذا الصراع مجرد مسرحية!

قامت "الثورة الإسلامية الإيرانية" منذ بدايتها على التصادم مع الولايات المتحدة، فالثورة حسب كثير من خبراء الشرق الأوسط لم تكن سوى امتداد لتجربة رئيس الوزراء محمد مصدق الاستقلالية عن الغرب، والتي استمرت عامين قبل أن يتم الانقلاب عليها في عام 1953 بدعم وتخطيط أمريكي. وبهذا المعنى فإن "الثورة الإيرانية" هي في الأصل ضد المصالح الأمريكية.

 

يبقى القول إن الدرس الأهم الذي يمكن قراءته من هذه العلاقة المضطربة المتغيرة بين واشنطن وطهران هو أن السياسة الخارجية الواعية لأي دولة لا يجب أن تقوم على توجه واحد، ولا على وضع البيض كله في سلة واحدة

وإذا كان هناك من شك لدى أمريكا عن توجهات السياسة الإيرانية تجاهها، فقد ثبت العداء بين الجمهورية الجديدة وبين واشنطن بعد حادثة احتجاز 52 دبلوماسيا أمريكيا كرهائن في سفارة واشنطن بطهران لمدة 444 يوما بين نهاية عام 1979 وبداية عام 1981.

ومع ذلك، فإن دولة مثل أمريكا لم تتعامل مع إيران بطريقة ثابتة وأحادية، ولم تجعل التجربة التاريخية تحكم علاقاتها مع هذه الدولة، بل اتبعت معها سياسات متغيرة حسب تغير الظرف، ودائما حسب المصالح القومية الأمريكية.

ولعل هذا التغير هو ما يسمح بتبني تفسيرات "مسرحية" للأحداث، إذ يتساءل أصحاب هذه النظرية مثلا عن فضيحة "إيران كونترا" وتزويد أمريكا طهران بأسلحة متطورة أثناء حربها مع العراق، كما يتساءلون عن عدم حصول حرب حقيقية حتى الآن بين البلدين، وعن "تعاون" البلدين في ملفات مثل غزو العراق والحرب على طالبان.

هذه الأسئلة كلها مشروعة ولها أصل حقيقي مرتبط بالأحداث، ولكنها جميعا تسقط التفسيرات "المسرحية" عند قراءتها في سياقاتها التاريخية والسياسية.

 

فتصدير الأسلحة لإيران مثلا كان جزءا من سياسة واشنطن المعروفة بـ"الاحتواء المزدوج" للخطر الإيراني والعراقي من خلال تأجيج هذه الحرب عبر مد الطرفين بالسلاح اللازم لإطالتها، وهو ما حصل فعلا حيث خرج البلدان منهكين تماما من الحرب.

 

أما عدم مواجهة إيران للغزو الأمريكي للعراق فهو يرتبط بعداء إيران لنظام صدام حسين ودعمها للمعارضة "الشيعية" التي دعمتها واشنطن، ولكن حتى هذا "التوافق" بين البلدين في غزو العراق لم يلبث إلا ليتحول إلى حالة من العداء والصراع على النفوذ السياسي والاقتصادي، ثم ليتحول إلى توافق من جديد في الصراع مع تنظيم الدولة في الموصل.

 

وينطبق نفس التحليل على وقوف إيران ضد طالبان لأسباب تتعلق بدعمها لأطراف أقل عداء للشيعة في الساحة الأفغانية.

 

أما عن عدم حصول حرب عسكرية بين البلدين، فإن تفسيره ينطلق من قدرة أمريكا على إنهاك إيران عبر العقوبات الاقتصادية ومن سياسة طهران الانسحابية التي تتراجع عند شعورها بوصول الصراع مع أمريكا إلى حافة الحرب كما حصل عند توقيع الاتفاق النووي عام 2016، وأيضا يمكن تفسيره بتراجع الرغبة لدى الدولة والمؤسسات الأمريكية عن فكرة الحرب بعد تجربتها المريرة في كل من العراق وأفغانستان.

إن متابعة السياسة الخارجية لكل من إيران والولايات المتحدة بشكل تحليلي، يوصلنا لنتيجة مفادها أن كلا البلدين لديهما سياسة "نشطة" لا تقوم على العداء الدائم أو التحالف الدائم، أو الخضوع الدائم من طرف لطرف آخر، ولكنها سياسة متغيرة حسب المصالح المرحلية والاستراتيجية لكل دولة.

ويبقى القول إن الدرس الأهم الذي يمكن قراءته من هذه العلاقة المضطربة المتغيرة بين واشنطن وطهران هو أن السياسة الخارجية الواعية لأي دولة لا يجب أن تقوم على توجه واحد، ولا على وضع البيض كله في سلة واحدة، ولعل هذا ما يفسر قدرة إيران على تحقيق إنجازات في أكثر من ساحة (مثل العراق، سوريا، لبنان، واليمن) بينما تخسر الدولة العربية التي تتبنى سياسة خارجية خاملة تحكمها أساسا متطلبات العلاقة مع الولايات المتحدة!