قضايا وآراء

عاشوراء.. وسطوةُ الصّوتِ الشّجيّ

1300x600
‏"الرّادود" هو المنشد الذي يقرأ أشعار الرّثاء وأناشيد النّدب والتّفجّع على آل البيت عموما والحسين وكربلاء على وجه الخصوص. فأنشودة الرّثاء بذاتِها تُسمّى في العرف الشّيعي "ندبيّة"، ولكنّها باعتبار الجوّ المصاحب من التّفاعل واللّطم فإنّها تُسمّى "لطميّة".
 
و"الرّادود" هو الذي يقود اللَّطميّات في المجالس العاشورائيّة الشّيعيّة، ويُعدّ ‏العنصرَ الأبرز الأكثر تأثيرا في إحياء موسم عاشوراء، سواء داخل الحسينيّات أو في المجالس والمواكب العاشورائيّة في السّاحات العامّة.

ويعتمد "الرّادود" في تجييش ‏العاطفة على الصّوت الشّجيّ المُغرق في الحزن، إضافة إلى استحضار واقعة الطّفّ ومأساةِ كربلاء؛ في ‏كلماته الثّوريّة الثّأريّة حينا والمنكسرة المخذولة أحيانا.‏

الخطابُ الشّيعيّ لا يعتمدُ في التّأثير على الجمهور في المناسبات والمواسم الدّينيّة (وأشهرها موسم عاشوراء وفيه ذكرى استشهاد الحسين رضي الله عنه) على محوريّة الخطيب أو على ‏أسلوب الإلقاء الخطابي من حيث المبدأ، كما هو عندَ عامة أهل السّنّة، وإنّما يرتكزُ في ‏التأثير بالدّرجة الاولى على "الرّادود" الذي يبعثُ الحزنَ الكامن في أعماق النّفس ‏المتأهبة للبكاء، معتمدا على اللّحن العراقيّ المعجون بالحزن عجنا حتّى في اللَّطميّات ‏أعجميّة اللّغة، كالفارسيّة والأوردية والهنديّة وغيرها من اللّطميّات غير العربيّة؛ وذلك لما ‏يُحدثه الحزن العراقيّ من العَصف في أعماق النّفس، إذ تَشَكّلَ عبرَ قرونٍ لم يشهد العراقُ ‏فيها شيئا كما شهد الأحزانَ التي طبعت روحَ أبنائه بلوعةٍ تتدفّق متجاوزة حدودَ الزّمان ‏والمكان.‏

وحتّى عندما تكونُ فقرةُ السّرد التاريخي لواقعة كربلاء ومشهد استشهاد الحسين ومن معه من آل البيت، رضي الله تعالى عنهم أجمعين، في مجلس العزاء العاشورائي، لا ‏يستطيع المتحدّثُ إلّا أن يخرج عن دائرة الحديث الطبيعيّ إلى السّرد الملحّن بالصّوت ‏الشّجيّ الذي يتمّ انتقاء أصحابه بعنايةٍ فائقة.‏

وحين تسمعُ على سبيل المثال لطميّة "يا ريح الهاب"، من الرّادود الأشهر باسم الكربلائي الملقّب بسلطان المنبر الحسيني، أو لطميّة "يمّه ذكريني" بصوت الرّادود حمزة الصغيّر، ولطميّة "باحسين بضمايرنا" بشجن الرّادود ياسين الرّميثي، ولطميّة "يا ليل طوّل ساعاتك" للرّادود أبي بشير النّجفي؛ فإنّه يظهر بجلاء كيف يكون "الرّادود" هو الركن الأهمّ والأبرز والأكثر تأثيرا في المجالس الحسينية العاشورائية بصوته الشجيّ.

هذا الصّوت الشّجيّ الذي يرتكز عليه الشّيعة في مخاطبة الجمهور؛ يمتزج بكلماتٍ ‏تعتمدُ التّصوير المسرحيّ الذي يخلع قلوب السّامعين وهو ينقل الحوار بين بنات ‏الحسين وأبيهنّ أو بين الحسين وأبنائه، أو شكوى الرأس المرفوع على الرّماح من الخذلان ‏وقلّة النّصير والموت عطشا، أو تقطيع أكفّ أبي الفضل العبّاس وهو يحاول إيصال الماء إلى الحسين العطشان؛ فتكون هذه الكلمات في اللّطميّة هي ثالثةُ الأثافي في التأثير العميق. فالكلمةُ المؤثّرة تتشابكُ مع اللّحن الجنائزيّ، ويتلفّعان معا بالرّكن الثّالث والأهمّ، وهو الصّوت الشّجيّ المُغرقِ في الحزنِ والتّثويرِ في آنٍ معا.

على أنّ "الرّادود" يملكُ صلاحية أن يُوجِد من الأحداث ما يراه مناسبا للنّدبِ والتّفجُّع، ويختلق من ‏الحوارات ما يقدّرُ ضرورتَه لتهييج الجمهور. وكم أساءت اجتهادات واختلاقات "الرّواديد" هذه لصورة الحسين وآل البيت الكرام، رضوان الله تعالى عنهم أجمعين، فأوجدت وقائع تتناقض حتّى مع صورة الحسين وآل البيت المرسومة في الموروث الشيعيّ؛ وذلك لغايةِ تحصيلِ الهياج العاطفي عند الجمهور.

‏فكم صوَّرت هذه اللطميّات الحسينَ منكسرا يستجدي شربة ماء كي لا يموت ‏عطشانا، وصوّرته ضعيفا يناجي بناتِه السبايا وهو لا يلوي على شيء ولا يستطيعُ الدّفاع عنهنّ.. وغير ذلك من الصور التي تشوّه صورة ‏الحسين الثّائر على الظلم، الفارس الشّجاع والسّيد النّبيل. ولكنّ هذه الصورة الشّوهاء تغدو ضروريَّة، لانسجامهَا مع اللّحن ‏البكائي والتّصوير الجنائزيّ الذي يجب أن يصبغ به "الرَّادود" صوتَه الشّجيّ.‏

على أنّ الاعتماد على الصّوت الشجي في التأثير بالجمهور تهييجا وتأجيجا ليس من ‏دأب الشّيعة وحدهم، بل هو من مرتكزات الخطاب الإسلاميّ في عمومه، وقد اعتمدت عليه القاعدة وأخواتها في الاستقطاب، كما اعتمدت عليه جماعة الإخوان المسلمين في فترة سابقةٍ للتربية والتعبئة والتّحشيد، والصّوفيّة تعتمده سبيلا للتّزكية.. غيرَ أنّ ‏الشّيعة جعلوه من الطّقوس الشرعيّة الواجبة، فأوجدوا له من الآثار والرّوايات ما يجعله ‏محلّ احتفاء واهتمام بل جعلوا له مكانة مركزية؛ مما ساهم في تطويره بشكل كبير.

وهكذا يتصدّرُ اللّحن الضّارب على أوتار الرّغبات ‏النفسيّة العميقة؛ فتنقادُ عقولٌ ونفوسٌ شتّى للفكرةِ الثَّأريّة‏، وليسَ لها من مرجعٍ مقرِّرٍ ولا مستقطبٍ مؤثّرٍ إلا الصّوتَ الشجيّ.‏