قضايا وآراء

ماذا تخفي نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية في تونس؟

1300x600
قد لا يختلف اثنان في أنّ وصول السيد قيس سعيد ونبيل القروي إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية التونسية ليس مجرد حدث عابر، بل هو علامة فارقة في التاريخ السياسي للبلاد. ولكنّ الاختلاف يبدأ حين يحاول المشتغلون بالشأن التونسي تفسير هذا الحدث أو بيان استتباعاته وانعكاساته على مسار الانتقال الديمقراطي، من جهة أولى، وعلى التغييرات الممكنة في استراتيجيات مقاومة هذا الانتقال من لدن الدولة العميقة وواجهاتها المختلفة، من جهة ثانية.

لقد مثلت نتائج الانتخابات في الدور الأول من الرئاسيات "صدمة" لكل الأحزاب الكبرى، خاصة أحزاب الائتلاف الحكومي بنهضوييه وتجمعييه الجدد. فقد جاءت تلك النتائج مخيبة لممثلي المنظومة القديمة (المنتمين أساسا إلى نخب الحكم من جهة الساحل وبلدية العاصمة، أي عائلاتها الكبرى)، كما جاءت لتؤكد الانحسار الكبير في شعبية حركة النهضة، بصرف النظر عن تبريرات أتباعها أو التفسيرات السطحية للكثير من أعدائها.

فتبريرات النهضويين بأن انحسار شعبيتهم هو كلفة "منطقية"، باعتبار ما قاموا به من "تنازلات مؤلمة" و"تضحيات" لعدم إفشال مسار الانتقال الديمقراطي، وتفتيت منظومة الحكم التقليدية في الآن نفسه، هي تبريرات لم تعد لها قوة إقناعية كبيرة لشريحة واسعة من التونسيين (بل من القواعد النهضوية أو المحافظين) الذين رأوا في السلوك السياسي لحركة النهضة شيئا لا علاقة له "بالحتمية"، واعتبروه خيارا سياسيا واعيا، مما يستوجب توصيفه بالانحياز المشبوه للمنظومة القديمة في أسوأ الحالات، وبسوء تقدير للموقف السياسي الأمثل في أفضل الأحوال.

أما الواجهات السياسية المختلفة لمنظومة الحكم القديمة، فقد أكدت الانتخابات عمق الانقسامات التي تخترقهم، وعجزهم عن تقديم مرشح توافقي بعد رحيل "البورقيبي الأخير"، المرحوم الباجي قائد السبسي. كما أكدت الانتخابات أن "المسؤول الكبير" القادر على فرض مرشحه داخل المنظومة القديمة هو مجرد خرافة، سواء أكان هذا "المسؤول الكبير" هو "صانع الرؤساء" ومن وراءه في المركّب الجهوي المعروف، أم كان السفارات الأجنبية، خاصة السفارة الفرنسية. وهو ما يُظهر (في أدنى التأويلات التي تقرّ بتبعية المنظومة القديمة لمراكز قوى داخلية وخارجية) ارتخاء قبضة تلك المراكز أو عجزها عن فرض "مرشّحها" على جميع المتنافسين التابعين لها. وقد لا يكون من المبالغة أن نقول إن الثورة قد حررت حتى أعداءها من "عرّابيهم"، ومن المتحكمين في حجم المربع السياسي الذي عليهم أن يتحركوا فيه ولو على كُره منهم.

وفي ما يخص اليسار التونسي بمختلف فصائله، أكدت نتائج الانتخابات أنّ قوة هذا اليسار هي "قوة نوعية أساسا، وليست راجعة إلى أي عميق شعبي. فالنتائج "الصفرية" لهذا اليسار تنسف أي ادعاء لتمثل "الشعب"، ولكنها لا تنسف كونه سيبقى أحد "اللوبيات" أو "الأقليات الأيديولوجية" المؤثرة في المشهد التونسي العام. فقوة اليسار مستمدة أساسا من هيمنته على العديد من مفاصل الدولة والمجتمع المدني والإعلام، وهو ما يعطي لدوره "الوظيفي" في منظومات الحكم المتعاقبة قبل الثورة وبعدها أهمية كبيرة.

وبصرف النظر عن الأسباب الموضوعية التي أدت إلى هذه الهيمنة (كإقصاء الإسلاميين من مفاصل الدولة والنقابات والمجتمع المدني زمن المخلوع، أو احتياج النظام النوفمبري إلى حلفاء "أيديولوجيين" موثوقين بحكم عدائهم المطلق للإسلاميين، بل بحكم عدائهم أحيانا للهوية الجماعية ذاتها.. إلخ.. إلخ)، فإننا أمام حقيقة موضوعية سيكون لها دور مؤكد في "تأزيم" مسار الانتقال الديمقراطي، خاصة في حال وصول السيد قيس سعيد إلى الرئاسة، وتغيّر تركيبة المجلس النيابي بصورة لا تخدم مصالح المنظومة القديمة.

وقد يكون أحد أسباب معاداة اليسار الوظيفي للسيد قيس سعيد (وحياديته المزعومة في الدور الثاني، رغم أن الواقع يؤكد أنه حياد إيجابي لفائدة: سقط المنظومة" أو ابنها العاق نبيل القروي)، هو أن قيس سعيّد قد أثبت إمكانية تجاوز الصراعات الهوياتية، وتقديم بديل "مواطني" قادر على سحب البساط من كل أولئك الذين يتحدد دورهم الوظيفي في تغذية الصراعات الهوياتية، وحرف الأنظار عن الصراعات الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية، بل صرف الأنظار عن العدو الحقيقي للشعب.

ولكنّ العدائية التي تواجه السيد قيس سعيّد تتجاوز اليسار الوظيفي؛ لأن نجاحه ذاته سيكون أكبر دليل على إفلاس المنظومة كلها، وحاجة الشعب إلى بدائل حقيقية تنطلق من تغيير النخب السياسية، وتنتهي بالاشتغال النقدي على النظام السياسي ذاته، وما أنتجه من تنظيم للحكم، وما انبنى عليه من توجهات سياسية كبرى في الداخل وفي علاقته بالخارج. ولكن "الخطر الأكبر" الذي يمثله قيس سعيد يتمثل أساسا في قدرته على تجميع التونسيين (خاصة الشباب منهم)، بعيدا عن الخطابات الأيديولوجية ورهاناتها "المشبوهة" من منظور الجمهورية الثانية ، تلك الرهانات التي جعلت من السرديات الكبرى جميعا مجرد ملحقات وظيفية بمنظومة الحكم، وذلك بصرف النظر عن مزايدات أصحابها بالطهورية والثورية والمظلومية وغيرها.

قد يكون من المبالغة القولُ إن وصول السيد قيس سعيد للرئاسة يمثّل نهاية منظومة الحكم الحالية؛ التي هي في جوهرها مجرد نسخة منقحة لمنظومات الحكم المتعاقبة على تونس منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. ولكن من المؤكد أن وصوله إلى قرطاج سيكون شرخا جديدا في البنية السلطوية، وهو شرخ لن يؤذن بنهايتها القريبة، ولكنه قد يكون مدخلا جيدا لإضعاف "المنظومات الحجاجية" للمدافعين عنها، وتفتيت "ركائز" النظام الجهوي- الزبوني في معاقله المؤسسية المختلفة. فرغم الصلاحيات المحدودة لرئيس الجمهورية التونسية حسب القانون المنظم للسلطات، فإن رمزية هذا المنصب (ورمزية الانتصار في بلوغه ممن تعتبرهم منظومة الحكم "شعبويين" ومن خارج النخب الجهوية "المعترف بها" تقليديا) ستكون لها تداعيات تتجاوز الحقل السياسي برمته، بل تتجاوز الشأن التونسي الداخلي.