أفكَار

تونس.. حضور التشيّع بين توجس طائفي وانجذاب ثوري (2من2)

العلاقات بين إسلاميي تونس والإيرانيين قائمة لكن من دون تأثيرات مذهبية- (إنترنت)

على خلاف تجارب حركات الإسلام السياسي في العالم العربي، تمكن إسلاميو إيران الذين وصلوا إلى السلطة عام 1979 في ثورة شعبية، أسقطت حكم الشاه وأقامت نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، من ترسيخ تجربة سياسية مختلفة، ولم تكتف فقط ببناء الدولة والتأسيس لنموذج في الحكم يستمد أسسه من المرجعية الإسلامية الشيعية، بل وتحولت إلى قوة إقليمية وامتد نفوذها إلى عدد من العواصم العربية.

ومع أن التجربة الإسلامية في إيران، قد أثارت مخاوف المنطقة العربية، التي وقفت ضدها في حرب الثمانية أعوام من خلال دعم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في تلك الحرب، فإنها لم تحظ بالاهتمام الفكري والعقلاني الهادئ، لفهم أسرار قوة هذه التجربة، وفهم آليات تمكنها من الحكم، وقدرتها على مواجهة الحرب مع العراق بالإضافة إلى الحصار الإقليمي والدولي.

وتزداد أهمية قراءة التجربة السياسية في إيران، هذه الأيام، بالنظر إلى صعود نفوذ طهران السياسي في المنطقة بشكل عام، ولا سيما في دول الربيع العربي، التي تمكنت طهران من أن تكون واحدة من أهم القوى النافذة فيها، إن لم يكن بشكل مباشر كما هو الحال في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، فمن خلال السياسة الناعمة كما هو الحال في علاقاتها مع باقي دول الربيع العربي.
 
"عربي21"، تفتح ملف التجربة الإيرانية، ليس فقط من زاويتها الدينية أو السياسية أو الدفاعية، وإنما أيضا من زاويتها الفكرية بهدف فهمها أولا، ثم معرفة أسرار نجاحها وتمددها في المنطقة، واستحالتها أخيرا إلى قوة إقليمية ودولية. 

يشارك في هذا الملف الأول من نوعه في وسائل الإعلام العربية نخبة من السياسيين والمفكرين والإعلاميين العرب، بتقارير وآراء تقييمية للنهج الشيعي في الدين والسياسة والفكر.

اليوم يبحث الكاتب والباحث التونسي بحري العرفاوي في حقيقة الحضور الشيعي في تونس بين التوجس الطائفي والانجذاب الثوري.. 

4 ـ نظام ابن علي والصداقة الإيرانية  

تعرض الإسلاميون التونسيون في ظرف عقد واحد إلى ثلاث محاكمات: محاكمة 1981 بتهمة الخمينية، ومحاكمتي 1987 و1992 بتهمة محاولة قلب النظام.

محاكمات ثلاث أضعفت الحركة وجعلتها تنكفئ على نفسها وتغيب عن الساحة تنظيما وفكرة ونشاطا. نظام ابن علي الذي استفاد من غياب أكبر منافس له أصبح يمارس سياساته بأريحية في الداخل وفي الخارج، كان يبحث عن توسيع علاقاته لتحقيق مشروعية خاصة أمام موجات الانتقاد الحقوقية بسبب ملف الإسلاميين سجنا وتعذيبا وتشريدا.

أقام نظام ابن علي علاقة مع الإيرانيين وسمح بتبادل زيارات التعارف بين وفود من تونس لإيران ووفود من إيران لتونس كما أسهم كرسي ابن علي لحوار الحضارات في فتح خط تواصل مع علماء ومفكرين إيرانيين زاروا تونس وشاركوا في تأثيث ندوات فكرية وحوارية.

 



سمح نظام ابن علي لشيعة تونس بنشاط ثقافي أساسا، حيث تم بعث "جمعية آل البيت الثقافية" التي تأسست عام 2003 على يد السيد عماد الدين الحمروني، وتحيي هذه الجمعية عادة مناسبات لدى الشيعة من مثل أعياد ما تسميه مواليد الإمام علي، والإمام الحسين، والسيدة فاطمة الزهراء، وعيد الغدير، وكذلك إحياء مآتم عاشوراء باللطميات المعروفة لدى الشيعة، هناك "جمعية المودة الثقافية الشيعية التونسية" التي يقودها "مراد الشلبي" وهو تونسي يقال انه اعتنق المذهب الشيعي.

هناك "رابطة التسامح" يرأسها الأستاذ صلاح المصري وأنشطتها ثقافية فكرية داعمة للمقاومة ضد الاحتلال وهي لا تميز بين مقاومة سنية أو شيعية إلا أن البعض يتهمها بكونها متشيعة وهو ما ينفيه رئيسها الاستاذ صلاح المصري إذ يقول: "إن الرابطة ليس لها انتماء شيعي وإنما هي رابطة للتسامح تفتح أبوابها للكل دون استثناء وفي حالة الخروج عن هدف الجمعية الأساسي والحياد به إلى تنفيذ مشروع شيعي في تونس سأكون أنا أول المستقيلين من الرابطة". 

وهو يؤكد أن "الرابطة التونسية للتسامح تعتبر حرية المعتقد وحرية الانتماء السياسي حقا مقدسا للتونسي وهي ترفض مطلقا ممارسة سلوك محاكم التفتيش بالنسبة للمسألة الدينية وهي تعتبر الاختلاف حالة طبيعية وتعتبر الأطراف التي تقاوم الاختلاف والتعددية الدينية والمذهبية إنما يعبرون عن حالة امتداد وتواصل لنظام الحزب الواحد المنغلق المستبد".

ولشيعة تونس مكتبتهم وسط العاصمة تونس قرب جامع الفتح وهي تعرض مؤلفات لمراجع شيعية ويُقبل عليها خاصة اتباع المذهب الشيعي وباحثون في مجال المعرفة الدينية والأكاديمية.

ولعل من أبرز "رموز" الشيعة في تونس مبارك بعداش رحمه الله مؤسس "الحوزة" أو "الحسينية" بقابس، ومحمد التيجاني السماوي صاحب كتاب "وأخيرا اهتديت" وهو كتاب يعرض فيه المراحل المعرفية التي مر بها حتى "اهتدى" للمذهب الشيعي الذي كان يجهله كما قال.

لم تكن تلك العلاقة محل ترحاب لدى أوساط عربية ولدى الحركة الإسلامية التونسية لأنها ترى في تقارب النظام التونسي مع النظام الإيراني وفي غياب الحركة الإسلامية تهديدا محتملا باختراق النسيج العَقَدي التونسي.

 



وقد عبر الدكتور كمال عمران رحمه الله عن هذا التخوف حين قال: "إن المجتمع التونسي مازال يتذكر الحسين سبط رسول الله وسيد شباب أهل الجنة وأنه ككل الصحابة في قلوب السنة قبل الشيعة ولكن ذلك لا يعني الغلو والتطرف في المواقف إلى حد تكفير بعضهم لصحابة رسول الله وأمهات المؤمنين وما حصل من شتم لعقائدنا من قبل ياسر الحبيب، متطرف شيعي مقيم في لندن منذ سنة هو دليل عما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع إن فتح مجتمعنا الباب للغلو الطائفي ولدعاة الفتنة، مجتمعنا متسامح فتاريخه الذي كان مهدا لعديد المذاهب ومنها المذهب الشيعي أيام الدولة الفاطمية دليل على تفتح التونسي ولكن هذا لا يعني تجاوز الخطوط الحمراء".

5 ـ الدستور التونسي والحضور الشيعي

ينص الفصل السادس من دستور 2014 على أن "الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي، تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها".

هذا النص يحسم حرية المعتقد ويمنع التضييق على الآخرين في معتقداتهم الدينية أو المذهبية وهو ما يُفترض أنه يمنع كل خطاب طائفي أو تكفيري منعا  لكل فتنة أو احتراب ديني في دولة تريد أن تكون مدنية لا تتعارض مع قيم الإسلام ولا تحارب الإسلام أيضا.

في ظل هذه الحرية التي يكفلها الدستور ينشط كل ذي فكرة أو معتقد أو مذهب بل حتى ذوي الميولات الجنسية الشاذة يتمتعون بحرياتهم ضمن ما يكفله الدستور من حرية شخصية.

حضور الشيعة في تونس ليس له أي طابع طائفي، إذ لا يلاحظ التونسيون نشاطا مهددا للنسيج العَقَدي ولا يلاحظون ممارسات علنية صادمة للتقاليد التونسية ـ وإن كان ثمة من يتكلم عن وجود "لطميات" في فضاءات مغلقة في ذكرى كربلاء.

بعض الأشخاص كتبوا عن انتمائهم لآل البيت وعن "استبصارهم" أو "اهتدائهم" وهم معروفون لدى قليل من التونسيين وليس لهم من تأثير فكري أو مذهبي لكونهم لا يمارسون "التبشير" ولا "يُزعجون" غيرهم في هدوئهم العَقَدي، هناك حديث عن "حسينية" في الجنوب التونسي كانت تنشط من زمن ابن علي ولكنها لم تعد فاعلة خاصة بعد وفاة باعثها رحمة الله عليه.

بعد الثورة استفادت كل الأطراف من الحرية واستفاد ناشطون تونسيون شيعة فكانت لهم بعض الجمعيات وصحيفة وهم ينشطون باعتبارهم مواطنين تونسيين في مجال الفكر المقاوم بالتحديد أو في مجال النضال الاجتماعي الثوري ولا يمارسون الدعاية المذهبية ولا يصطدمون مع إخوتهم في الدين والوطن وهم يتعرضون أحيانا لتحريض ضدهم من قِبل أشخاص ليست لهم مهام رسمية في الدولة ولا يمثلون رمزية فكرية أو دينية، أشخاص يُبدون حماسة دينية مبالغا فيها وتخوفا من مدّ شيعي مُتَخَيّلٍ.

6 ـ خطاب المقاومة و"تهمة" التشيع 

انتصر حزب الله في حرب تموز (يوليو) 2006 كان له أثر وجداني وذهني لدى كثير من التونسيين وخاصة من المثقفين ومن الشباب، حزب الله أصبح رمزا للمقاومة وللشجاعة وللمواقف البطولية ضد المحتل وداعميه من غرب وعرب مستبدين.

كان حضور نصر الله في الإعلام أثناء حرب تموز وبعدها حدثا عظيما تقفر الشوارع من المارة لأن عموم الناس يتابعون خطاب نصر الله، لم يكن التعاطف بنصر الله تعاطفا مذهبيا ولا دينيا وإنما كان تعاطفا مقاوما وضد الاحتلال تحديدا.

غير أن الحدث السوري وما شهده من تداخل أطراف وقوى إقليمية أعاد خلط المشهد وترتيب الأولويات فأصبح حزب الله حزبا "مجرما" و"قاتلا" للأطفال والأبرياء السوريين وأصبح نصيرا للنظام السوري ولـ "البراميل المتفجرة".

بعض الأطراف كانت حريصة على إخراج "الملف" من طابعه السياسي إلى طابع مذهبي طائفي واتهام حزب الله ومن ورائه إيران بالإنتصار لبشار الأسد لكونه "علويا" وليس لكونه حليفا سياسيا وعسكريا في محور مقاوم.

أصبح كل من يعبر عن دعمه لحزب الله وإيران وسوريا باعتبارهم محورا مقاوما "يُتّهم" بكونه شيعيا ومجوسيا ورافضيا.

رغم أن "التشيع" ليس تهمة في عالم يُقيم علاقاته على المصالح والمعاملات لا على المعتقدات والإيديولوجيات، فإن "جهات" تبدو حريصة على نقل الصراع من دائرة السياسة إلى دائرة المذهبية، تلك الجهات لا تكون إلا منتفعة من "فتنة" يقتل فيها المسلم أخاه المسلم وتحارب فيها دولة مسلمة شقيقتها المسلمة.

ما يجعلنا نطمئن إلى كون حملات التحريض المذهبي تلك لن تحقق أكثر مما حققت هو وجود نخب عاقلة متوازنة وشجاعة لا تقبل الانخراط في هذه الخدعة وهي تحسن توصيف الخلاف ضمن عالم السياسة والجغرافيا وليس ضمن غبار التاريخ وأوهام الطائفية.

6 ـ علاقة النهضة بإيران بعد 2011

بعد هروب ابن علي وصعود حركة "النهضة" كقوة أساسية بالبلاد بزعامة الأستاذ راشد الغنوشي سارع الإيرانيون إلى مباركة ما اعتبروه "صحوة إسلامية" وحاولوا الاقتراب من قيادات "النهضة" ووجهوا للكثير منهم دعوات فزاروا إيران.
 
كما حاول القادة الإيرانيون ربط علاقات تجارية وسياحية مع تونس في ظل حكم الترويكا ولكن يبدو أن ضغوطا خارجية كانت تمنع ذلك.

 



في طهران يوم 1 تشرين أول (أكتوبر) 2011 وفي لقاء مع رئيس مجلس الشورى الإيراني سألته: لماذا منعتم الأستاذ راشد من حضور المؤتمر السابق لدعم المقاومة بعد أن وجهتم إليه الدعوة؟ أجابني بأنهم يتعاملون مع الدول وحين اشترط وفد ابن علي عدم حضور الغنوشي اللقاء لكي يشارك في المؤتمر قال فضلنا التعامل بمنطق الدولة فاعتذرنا للأستاذ راشد.

الأستاذ راشد حظي باهتمام كبير لدى الإيرانيين وقد وجهوا إليه عدة دعوات لزيارة طهران ولكنه كان يعتذر بسبب كثرة التزاماته مع أنه لم يعترض على زيارة عدة قيادات من حركته لإيران. 

كان منتظرا أن يكون الأستاذ راشد الغنوشي ضيفا رئيسيا في معرض طهران الدولي للكتاب في أيار (مايو) 2018 وقد رتبوا له حفل توقيع لكتبه الثلاثة التي طبعها الإيرانيون بمناسبة الزيارة المرتقبة غير أن الغنوشي اعتذر في آخر لحظة بسبب التزامات طارئة.

الغنوشي لبى عديد الدعوات في احتفاليات السفارة الإيرانية بذكرى الثورة وتعرض لانتقادات شديدة من قبل خصوم إيران وخصوم الشيعة تحديدا، بل ثمة من وصم الغنوشي بالتشيع وهو وصم لا تخفى دوافعه السياسية في ظل صراعات على الحكم لم تتوقف منذ هروب ابن علي.

 



في لقائه بوزير خارجية الجمهورية الإسلامية الإيرانية محمد جواد ظريف بمقر إقامة سفير إيران يوم 31 آب (أغسطس) 2015 قال الغنوشي لمُضَيّفه: "يبدو أن المسلمين يتجهون نحو انتحار جماعي" وهي جملة تختزل الخشية من انتهاء المسلمين في هذا العصر إلى فتنة مذهبة هي أشبه بعملية انتحار جماعي. 

خاتمة

يبقى الوجود الشيعي في تونس مجالا للبحث والمتابعة لأكثر من سبب، سبب معرفي إحصائي، سبب علمي اجتماعي، سبب ديني مذهبي، سبب سياسي طائفي، سبب تاريخي ثقافي، ويبقى أيضا منهج البحث موجها من خلفيات متعددة تجاه الوجود الشيعي في تونس، ثمة من سيعتبر الأمر محسوما بالدستور ضمن عنوان المواطنة وحرية المعتقد، وثمة من سيرى الأمر متعلقا بالنسيج العَقَدي للتونسيين وبما قد يتهدده من اختراق مذهبي طائفي.

التقديرات العددية للوجود الشيعي في تونس ليست دقيقة بل وليست متقاربة إذ تتراوح بين العشرين ألفا والمائة ألف شيعي وهي تقديرات تراوح بين "المبالغة" للتهويل والتخويف وبين "التهوين" لـ "التقية" كما يؤول متابعون.

 

إقرأ أيضا: تونس.. حضور التشيّع بين التوجس الطائفي والانجذاب الثوري1من2