أخبار ثقافية

عصرٌ جليدي: مقالٌ ليس عن (پيتر هاندْكَه)!

پيتر هاندْكَه روائي حائز على نوبل

كَمُعظَمِ الناسِ في بُقعَتِنا مِن العالَم، لم أكُنْ أَعرِفُ اسمَ (پيتر هاندْكَه) الفائزِ بجائزة نوبل في الأدب لعام 2019 حتى طارَ خَبرُ فوزِه على مواقعِ التواصُلِ الاجتماعي. ومع الخبرِ تصاعَدَ الجَدَلُ حولَ الموقِفِ الأخلاقيِّ لجائزةِ نوبل من (هاندكه) مُنكِر مذبحةِ سْرِبْرِنِيتْشَه التي ارتكبَها صِربُ البوسنة بِحَقِّ الشَّعب البوسني. ثم عرفتُ أنّ هاندكه فاز عام 2014 بأرقى جوائز الإنجاز المسرحي العالمية وهي جائزةُ إبسن التي تمنحُها النرويج، وفي أوسلو قُوبِلَ وصولُه إلى مسرح إبسن بتظاهُراتٍ حادةٍ تطالبُ بسَحبِ الجائزة منه. (انقر هنا)

 

ذكَّرَتني هذه التظاهرات النرويجية – فضلاً عن الجدل الذي تجدَّدَ مع حُصولِ هاندكه على نوبل بخصوص آرائه السياسية (المتطرّفة)- نصًّا مسرحيًّا عنوانه (عصرُ الجليد Eiszeit) للكاتب الألماني الراحل تانكرِد دورست Tankred Dorst (1925-2017). في هذا النَّصِّ يَعرضُ علينا المؤلِّفُ بطلاً في التسعين من عمره، نرويجيًّا كذلك، أديبًا حاصلاً على نوبل قبل الزمن الافتراضي للمسرحية بثلاثين عامًا تقريبًا، وهو في زمنِ المسرحيةِ نزيل دار مُسِنِّين. يواجِه هذا الأديبُ المُسِنّ تهديدًا قويًّا من حكومة بلادِه بمصادرة أموالِه وممتلكاتِه، خاصةً قطعةَ الأرضِ الزراعيةِ التي قضى سنواتِ عمره الأخيرةَ يَعملُ فيها ويرعاها بنفسِه. ومنشأ هذا التهديد هو الغضب الشعبي تجاه الأديب – الذي لا يعرض علينا دورست اسمَه أبدًا خلالَ حوار المسرحية- لمساندتِه أدولف هتلر والنازية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، لاسيّما أن النازيين تسببوا في خسائر بشرية واعتقالات معتبَرَة للشعب النرويجي خلال سنوات الحرب. والمحور الأساسي الذي يحرّك أحداث المسرحية هو خضوع الأديب المُسِنّ للجنة مكوَّنَة من طبيب نفسي ومُساعِدَتِه وصحفي وقَسّ ومُدير بنك وطني، هذه اللجنةُ مهِمَّتُها فَحصُ القُوَى العقليةِ للأديب الكبير وتقريرُ ما إذا كان مُختَلاًّ وبالتالي غيرَ مسئولٍ عمّا أبداه مِن مَوقِفٍ سياسيٍّ، أم أنه في كامل قُواه العقلية، وبالتالي يتحمَّلُ المسئوليةَ كاملةً ويَحِقُّ للدولة أن تُصادِرَ ممتلكاتِه. 


ما لا يذكُرُه النص، وإنما يذكرُه المؤلف في تعقيبِه عليه صراحةً، هو أنَّ أحداثَ المسرحية مبنيّة على شخصية حقيقية وموقفها السياسي المعروف تمامًا، وهي شخصية الأديب النرويجي كْنُوت هامْسُن Knut Hamsun (1859-1952) الحاصل على نوبل في الأدب عام 1920. فالمعروفُ عن (هامسون) أنه خلال حياتِه تبنَّى عِدَّةَ مواقِف تُوصَفُ اليومَ في إطار الصوابية السياسية Political Correctness بأنها متطرِّفة. فمثلاً بعد عودتِه من رحلته الطويلة في أمريكا كتبَ كتابَه (الحياة الثقافية لأمريكا الحديثة Fra det moderne Amerikas Aandsliv (1889)) وهاجمَ فيه التزاوُجَ المختلَطَ بين العِرقيّات البيضاء والسوداء، فقال: "الزُّنوجُ زنوجٌ وسيظلّون كذلك. شكلٌ بشريٌّ ناشئٌ مِن المنطقة المَداريَّة، أقربُ إلى أن يكونوا أعضاءَ بُدائيَّةً على جسد المجتمع الأبيَض. وبدلاً من أن تؤسِّسَ أمريكا نُخبةً فكريَّةً، أسَّسَت مزرعةً للخُيول الهَجينة".


لكنَّ خطأه الذي هُوجِمَ بسببِه وحرقَت الجماهير النرويجيَّةُ كُتُبَه من أجلِه كان الدِّعايةَ لهتلر ومساندةَ ألمانيا خلال الحربين العالميتين، وُصولاً إلى مَقالِه الذي رَثَى فيه هتلر فقالَ عنه: "لقد كان هتلر مُجاهِدًا، مُجاهِدًا من أجل الإنسانية، ونبيًّا لإنجيل العدالة باسمِ كُلِّ الأُمَم". (انقر هنا)


عودةً إلى النّصّ المسرحي، نَجِدُ أنَّ العنوانَ (عصر الجليد) يَرِدُ في سِياق الحِوار مرَّةً واحدةً لا نكادُ نتبيَّنُ مِحوَريَّتَها، فخلالَ الفحص النفسي الذي يتعرّض له بطل المسرحية، يُطلَبُ منه أن يَشرَحَ معنى عِدَّةِ كلماتٍ تُلقَى عليه، منها (جزيرة – وثيقة – ابن العم – الدفاع عن النفس – الانتقام – رصاصة – الرِّيح – مدينة – عصر الجليد). وهو يُجيبُ عن بعضِها، ولا تُسعِفُهُ الكلماتُ في البعض الآخَر، لكنه حين يَصِلُ إلى (عصر الجليد) يرفضُ أن يُجيبَ ويُشيحُ بيَدِه علامةً على الكراهية. هذا الحُضورُ العابِرُ للكلمة في نَصّ (دورست) يستدعي محاولةً لتأويلِ اختيارِها عنوانًا للنّصّ، وفي تقديري أنَّ عصرَ الجليد هنا هو تلك المرحلةُ من عُمر الأديب الكبير التي تكونُ قَناعاتُه السياسيَّةُ والفكريةُ والجَماليَّةُ قد استقَرَّت فيها وتجمَّدَت ولم يَعُد مُجدِيًّا أن نُناوِشَه بشَأنِها أو نَلومَه على تبنِّيها أو نُجادِلَه آمِلِين أن يُغَيِّرَها. في نَصِّ (دورست) يتحدثُ الشيخُ/ (هامسون) كثيرًا عن قَناعاتِه التي طالَما دافعَ عنها في مراحل سابقةٍ من عمره، ويُوحِي إلينا بأنَّه لا معنى الآن للحديثِ عن ندمِه أو تمسُّكِه بتلك القَناعات. إنه يقولُ في لحظةٍ ما: "لقد ناضَلتُ. لقد عَمِلتُ على أن تكونَ أُمَّتُنا قَوِيَّةً وعزيزة. ناضَلتُ مِن أجل إمبراطوريةٍ جرمانيَّةٍ قويةً على أن تتبوَّأَ فيها أُمَّتُنا مكانها اللائقَ بها بكل شرفٍ وكرامة. ولكنَّ قُضاتي الآنَ يقولونَ إنَّ هذا العملَ كان خِيانة." إذَن فقد انطلَقَ (هامسون) في دِفاعِه عن هتلر والنازي من قَناعاتٍ قوميَّةٍ عميقة. فماذا عن (هاندكه) بعد كُلِّ ذلك؟!    


* سَطوَةُ المعلومةِ المغلوطة:


حين يتعلَّقُ الأمرُ بالنوازِع القوميَّة، لا أظنُّ الأمرَ يَحتاجُ أكثرَ من بعض المعلومات المغلوطة، تَدعمُها بعضُ التحيُّزات المسبقة، ليَكونَ المرءُ مُدافِعًا عن أكثر النُّظُم السياسيةِ وحشيَّةً في تاريخِ الإنسانية، وفي تصوُّري أنَّ هذا المُرَكَّبَ الفكريَّ شديدُ الوطأةِ لدَرَجَةِ أنه لا يُفلِتُ بعض المعدودِين من النُخبَةِ الفكريَّةِ للقوميِّين. أذكُرُ أحدَهم وقد كان مُدافِعًا لا يَلِينُ عن تمسُّك روسيا بحُكم الشيشان، استنادًا إلى القوميّة الروسية في مواجهَة ما أسماهُ نزعةً انفصاليَّةً إسلاميّة. وبالبَحثِ تبيَّنَ لي أنَّ الشيشان لم تُصبِح جزءًا من روسيا القيصرية إلا في بدايات القرن الثامن عشر، وتحديدًا بعد الحرب الروسية الفارسية (1722-1723)، حين أرادَ القيصر الروسي بطرس الأول توسِعَةَ رُقعة مُلكِه على حساب الصفويين في إيران. والأهمُّ من ذلك هو فَرقُ العائلةِ اللُّغَوِيَّة بين الشيشانية والرُّوسيَّة، مع مراعاةِ ما لِلُّغَةِ مِن مكانةٍ في الفكر القوميِّ بصِفَتها أهمَّ أركانِ القوميَّة المُشتَرَكة. فالروسية لغة سلافية شرقية تنتمي لعائلة اللغات الهندوأورُبِّيَّة كما هو معروف، أمّا الشيشانيَّةُ المجهولةُ بالنسبةِ لنا فهي من لغاتِ شَمال شَرق القوقاز، وهي عائلةٌ لا تكادُ تَمُتُّ بصِلَةٍ إلى السلافية!


المهمُّ الآن، هل ثَمَّ مبرراتٌ لموقفِ (هاندكه) الداعِمِ لمُجرمي الحرب؟ وهل ثَمَّ جدوى لمُطالَبَتِنا الأكاديميةَ السويدية بسَحب (نوبل) منه؟! (انقر هنا)


في الحقيقةِ، حتى الآثارُ الفنّيّةُ الفقيرةُ التي تركَتها لنا تلك المرحلةُ من القومية الصربية المتطرفةِ لا تَدَعُ لنا مُتَّسَعًا للدِّفاعِ عمّا يعتقدُه (هاندكه)، ولا أَدَلَّ على الكراهية تجاه مُسلِمي البوسنة من الأغنية التي تحمِلُ الشِّعار الصربي لتلك المرحلة: "أَخرِجوا الكباب Remove Kebab" أي المسلمين، في إشارةٍ ازدرائيَّةٍ إلى عِرقِ مُسلمي البوسنة وعلاقتِهم التاريخيَّة بالعثمانيين/ الكباب! 

 

أما عن المطالبة بسَحب نوبل بناءً على إنكار مذبحة سْرِبْرِنِيتْشَه، ففي تقديري أنها تُشبه تُهمةَ إنكار الهولوكوست. أتفهمُ بالطبع سعيَ المُطالِبين إلى أن يكون هناك لوبي إسلاميٌّ قويٌّ ومؤثِّرٌ في مجريات الأمور في العالَم، إلا أنني أتصورُ أنَّ الأجدى من مِثل هذه المُطالَبَةِ إعدادُ القُوَّة الكافية لمنع حُدوثِ مثل تلك الاعتداءات الوحشيّة في المستقبَل، والجاهزيَّةُ لرَدع مَن تسوِّلُ له نفسُهُ أن يٌقدِمَ على ما ارتكبَه ميلوشيفيتش وكارادزيتش. أمّا رجالُ الأدب الذين أصابَهم مَسُّ القوميّة المتطرِّفَة، فلعلَّنا إذا فتَّشنا مُنجَزَهم الأدبيَّ نعثُرُ على مبادئَ إنسانيَّةٍ تبرِّئُ ساحتَهم رغمَ إصرارِهم على مواقفِهم الجزئيّة المتطرفة، وفي تلك الحالِ لا يَبعُدُ أن نكتشفَ تيارًا من المعلومات المغلوطةِ وراءَ ما اعتقدُوه صادِقِين! 


ربما يتعيَّنُ على مَن لا تشغلُهُم أولويّاتٌ أخرى – وليس كاتبُ هذا المقالِ واحدًا منهم- أن يقرأُوا مُنجَزَ (هاندكه) بهدوء، ويحاوِلوا محاورةَ فكرِه وموقفِه السياسيِّ مِن داخِلِ ذلك المُنجَز، دُونَ أن يُراوِدَهم الأملُ في إثنائهِ عمّا يعتقِدُهُ في هذه المرحلةِ من عُمره. فكما قال اللاهوتيُّ والفيلسوفُ الاسكولائيُّ (وِليام الأوكامي William of Ockam) ما معناهُ إنه ليس هناك شيءٌ يُسَمَّى هرطقةً في حقيقةِ الأمر، لأنه لا يمكن ُ لأيِّ إنسانٍ أن يعتقِدَ شيئًا آخَرَ بخلافِ ما يعتقدُه! هكذا ينضم (هاندكه) إلى  نادي نوبل، أمّا عن رأيه في مُجرمي الحربِ، فلا حَرَجَ على مَن لَحِقَه عصرُه الجليدي.