أفكَار

اتحاد كتّاب تونس والأدوار المفقودة زمن الإرهاب المعولم

مثقفون تونسيون يناقشون واقع ومستقبل اتحاد الكتاب ودوره في دعم الانتقال الديمقراطي (أنترنت)

يقف المطالع لرواية "ليلة السنوات العشر" للباحث والأديب التونسي الراحل الدكتور محمد صالح الجابري على حيرة ثلّة من رفاق الصبا والدّراسة، تلاقوا بعد فرقة عشر سنوات كاملة، فرقة طويلة جعلت كلّ واحد منهم يسلك طريقه على غير هدى الصّحب، فمنهم من تقاذفته رياح السياسة، ومنهم من كابد المصاعب ومنهم من استلذّ الوقوف على ربوة أبي هريرة محايدا يرقب الأحداث من عل.

قد تكون الصدفة وحدها التي جعلت معاصرة رواية الجابري لأحداث 78 الدّامية، التي عرفت تمزّقا اجتماعيا ومخاضا فكريا طبعا صراع السلطة مع المنظمة الشغيلة، تتطابق حدّ التماهي مع نفس الظروف التي يعرفها الكتّاب التونسيون ومنظّمتهم بعد عشر سنوات من الثورة، من انقطاع عن مجتمع الفعل والتـأثير، يطاردهم قلق الكتابة المحمّلة بسيرورة الأسئلة، تفتنهم فضاءات الحريّة أكثر ممّا أغوتهم إكراهات الدكتاتوريّة من قبل، فغدوا أشبه بمصارعي ثور "لاس فالاس" الهواة، الذين يشدّهم الصخب ويسرّهم أنين جرحى الثيران الهائجة.

ونحن على أبواب الذكرى التاسعة لثورة 17 كانون أول (ديسمبر) 2010 ـ 14 كانون ثاني (يناير) 2011، ومع ما رافق التحوّلات السياسية والاجتماعية المتسارعة من سطوة مجامع استلاب الوعي المعولم زمن الفضاءات المفتوحة وانتشار فضاءات التواصل الاجتماعي، عكسه افتقار جانب كبير من المضامين الإعلامية للقيم المهنيّة والمادّة الفكريّة المضافة، رغم أهميّة المنجزين السياسي والديمقراطي الذين تعرفهما البلاد، يغدو التساؤل مشروعا عن أدوار البنى الفكريّة ومؤسسات صناعة القيمة في تونس في فرملة الانزياح المتواصل نحو منظومة ربحيّة-تجاريّة على حساب منظومتي الجودة والإبداع الفكريين.
 
كما يستفسر التقرير عن أسباب تخلّي اتحاد الكتاب التونسيين عن دوره في تأطير الكتّاب والدفع بهم إلى واجهة الفعل الثقافي المقاوم، في الوقت الذي تواجه فيه منظومة القيم، في دول الربيع العربي عموما، وفي تونس على وجه الخصوص، امتحانا حقيقيا خلّف صدمة المثقف وانكفاءه وعدم انخراطه النوعي على الرغم مما بذره وقدّمه إلى مصلحتها سابقا، وفق قراءة الكاتب المغربي سعيد أقيور. 

الكتاب وسطوة ظاهرة الكتابة المكثفة

مع البدايات الأولى لزمن الصورة، كتب الروائي الأمريكي برادبوري، صاحب رواية "فهرنهايت 451" محذّرا حينها من تهديد جهاز التلفاز المرتقب لمكانة الكتاب الورقي وقيمته المعرفيّة، هذا التهديد الفعلي لدور الكتاب الورقي بدأ يتعاظم مع الانتشار الواسع للوسائط الرقميّة وسطوة ما بات يعرف بالقراءة والكتابة المختصرة أو المكثفة.

وعلى الرغم من هذا التهديد البيّن للوسائط الاجتماعية والرقمية، فإن صلاح الدين الحمّادي، الرئيس الحالي لجمعية اتحاد الكتاب التونسيين، يقلّل في تصريحات لـ "عربي21" من آثار هذه الوسائط، مرجعا العزوف عن القراءة وقلّة الإقبال على الكتاب الورقي إلى ظواهر مرضيّة عابرة تخصّ المجتمعات العربيّة دون سواها من المجتمعات، مستدلا على ذلك بالأهمية البالغة التي يحظى بها الكتاب والمؤلفون في المجتمعات المتقدّمة. مضيفا أنّ الكتاب "لا يزال يحتفظ بدوره وبعلاقات حميمية في مقاهي المجتمعات المتقدّمة وفي غرف نومهم، كما أنّ للكتاب حضور بارز في البرامج والمناهج التعليمية، وهو ما عكس تنامي معدّلات القراءة في مختلف المستويات التعليميّة".

 



في ذات السياق، يشير الحمّادي إلى أن ظواهر الكتابة الجديدة من قبيل الأدب الوجيز والقصّة القصيرة جدّا والقصيدة الومضة التي باتت تعدّ للملتقيات بدعوى ميل القارئ للكتابة المكثفة والمختصرة سوف تضمحلّ بانتفاء أسبابها والمرتبطة أساسا بغياب الإرادة السياسية الدّاعمة للكتاب، مؤكّدا على أنّ الكتاب سيحتفظ بسلطانه في المجتمع الإنساني ولا سبيل إلى إلغاء دوره إذا رمنا الرقي والاستقرار، والكتابة الفكرية لا يمكن أن تكون إلا معمّقة وغير وجيزة ومحللة تحليلا تفصيليا، ولو كان الأمر قائما على الاختصار، لألغيت البحوث الجامعية المعمّقة وبحوث الدكتوراه".

في ذات المنحى، تؤكّد ريم العيساوي، القاصّة والناقدة الأدبيّة، في تصريحات لـ "عربي21"، على أنّ الكتاب لا زال يحتفظ ببعض بريقه ومكانته الخاصّة لدى النخبة وقطاع واسع من الشباب رغم كل التحديات المستحدثة والمرتبطة أساسا بسطوة الوسائط الرقمية وفضاءات التواصل الاجتماعي الجديدة، مؤكّدة على "ضرورة تأقلم المؤلفين مع هذا الوضع الجديد والاستفادة منه في اتجاه فتح نوافذ وعوالم جديدة تساعدهم على نشر كتاباتهم، ربما كانت عصيّة عليهم من قبل، ومع أنّ الومضة تقتصد المعاني اقتصادا جميلا، فنحن نحتاج إلى كل الأجناس والطرائق التعبيرية حتى لا نظلّ رهينة للقوالب الجافّة". 

 



من جهته، يرجع محمد المي، كاتب وصحفي، في تصريح لـ "عربي21"، تراجع الإقبال على الكتاب المقروء إلى غياب ثقافة القراءة لدى المجتمعات العربيّة بصفة عامّة، والمجتمع التونسي على وجه الخصوص، مستدلاّ على ذلك بالدّراسة التي قامت بها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، والتي تفيد بأن المواطن التونسي يقرأ فقط بمعدل ثلاث دقائق في السنة الواحدة أي بمعدل ثانيتين في اليوم الواحد، معتبرا أن ذلك مؤشرا سيئا ومنذرا بتفشي الجهل وارتفاع نسبة الأمية وانتشار الإرهاب، مشدّدا في الأخير على أنّ حب الكتاب وامتلاكه وتكوين مكتبة منزليّة هي ثقافة مكتسبة أو لا تكون.

 



اتحاد الكتاب التونسيين والتحدّيات المطروحة

مع بروز التحدّيات الجديدة التي تعترض انتشار الكتاب المقروء وتوسّعه على النطاق التونسي، وفق دراسة اليونسكو المذكورة أعلاه، تتجه سهام النقد كذلك إلى أدوار جمعيّة اتحاد الكتّاب التونسيين، تأسست سنة 1971، ومدى فشلها في التعريف بالكتاب التونسي والمؤلفين بصفة عامّة، خاصّة مع ما بات يعيشه المؤلّف من عوز مادّي وتحيّل واستغلال من قبل دور النشر، الأمر الذي يعدّ مكبّلا حقيقيا ومباشرا لعمليّة التأليف في مختلف أجناس الكتابة.

تعتبر ريم العيساوي، قاصّة وناقدة أدبيّة، أنه رغم كل الانتكاسات والمنعرجات التي طبعت مسيرة اتحاد الكتاب التونسيين، وهي التي واكبت انطلاقته منذ فترة الراحل محمد العروسي المطوي، فقد حافظ على مكانته وبقي خيمة للأدباء والكتاب يتفيؤون ظلالها وتدفعهم إلى المحاورة والجدل النزيه، مؤكّدة في نفس السياق على أنّ اتحاد الكتاب التونسيين يتطور باستمرار ويحافظ على سلطته الأدبيّة بين جموع منظوريه وأنه "مازال يعاني عديد الصعوبات والعراقيل وهو صامد وهو منخرط في صلب الحياة الاجتماعية والثقافية وهو لا يزال مؤثرا، رغم ما يعاب عليه من صعوبة التأقلم مع الواقع المجتمعي المتحوّل، وإن كان يتوجّب عليه بوصفه حاضنة الكتّاب والمبدعين على مزيد الانفتاح الكلي على القضايا الحارقة".

من جهته، يؤكّد صلاح الدين الحمّادي، رئيس الاتحاد المنتخب منذ المؤتمر التاسع عشر المنعقد في شهر كانون أول (ديسمبر) 2014، على أنّ اتحاد الكتّاب التونسيين، يضمّ زهاء 1226 منخرطا من المؤلفين في جميع الأجناس الأدبيّة والفكريّة، يشهد نقلة نوعية في مستوى الأداء، وهو واع بجملة التحدّيات الجديدة التي تعترض المؤلفين، ومقرّ العزم على المساهمة الفعّالة في الارتقاء بمستوى الكتابة التونسيّة التي تحظى بسمعة طيبة في مختلف المسابقات الإقليمية والدّوليّة، مضيفا بالقول أنّ الاتحاد يسعى، بداية من السنة القادمة، إلى الحضور في المعارض الدولية وإعداد منصة الكترونية لبيع الكتاب أملا في تنمية موارده المالية والتي من شأنها المساعدة على الحفاظ على استقلاليته في علاقة بالسلطة السياسية.

في المقابل، يرى محمّد المي أنّ "اتحاد الكتاب وغيره من الاتحادات فكرة اشتراكية نشأت في نطاق هيمنة الدولة على الأفراد وإحلال نفسها محلهم، فالدولة هي التي ترعى المجتمع وتفكر عوضا عنه، من ذلك كان الاتحاد يقيم الندوات الفكرية ويساهم في التعريف بالكتب والكتاب وتسويقهم في الخارج لإظهار الجانب النير للدولة وتساعدهم على نشر كتبهم، كل هذا كان مبررا قبل انهيار المنظومة الاشتراكية، أما وقد شهد العالم تحولاته الكبرى فإن دور الاتحاد تراجع وكان من الأجدر أن يغلق ابوابه".

غياب دعم الدولة للكتاب

يرى جلّول عزّونة، مؤسس رابطة الكتاب الأحرار التي تأسست سنة 2011 كردّ فعل على تدجين سلطة الرئيس الراحل زين العابدين بن علي لدور اتحاد الكتاب التونسين، في تصريح لـ "عربي21" أنّ تشجيع الكتاب وصناعته بقي يراوح مكانه وظلّ مهمّشا مقارنة بما تحظى به قطاعات أخرى كالسينما والمسرح من اهتمام ودعم كبيرين، مشيرا في ذات الصدد إلى أنّ إهمال الحكومة الحاليّة للكتاب متواصل رغم النداءات والمراسلات المتكررة الموجهة من قبل رابطة الكتاب الأحرار لوزير الثقافة الحالي محمد زين العابدين والمنادية بضرورة دعم الكتاب والعودة إلى تفعيل الجوائز التشجيعية السنوية، والتي تم التوقف عن العمل بها منذ الثورة، رغم أنها كانت تقدم لمدة تناهز 35 سنة، مضيفا بالقول أنّه "من المؤسف أن نقول أن التشجيع للكتاب تقلص حجمه بعد الثورة عكس المأمول والمنتظر، فالجائزة التقديرية كانت تسلم لكبار الكتاب تقديرا لمجهوداتهم الإبداعية طيلة العهدين البورقيبي والنوفمبري، وهاهي تتوقف في حكومة ما بعد الثورة".

 



ويستغرب عزونة تحويل وجهة أموال صندوق الدعم الثقافي المخصصة لدعم وزارة الثقافة إلى وزارة المالية، مذكّرا أنّ "هذا الصندوق كان قد أحدث بقانون سنة 1983 في فترة تولّي الراحل البشير بن سلامة حقيبة وزارة الثقافة، وهو عبارة عن أداء استثنائي قيمته 1 بالمائة عن بيع كل المشروبات الكحولية في تونس"، مضيفا أنّ تحويل وجهة أموال صندوق دعم الثقافة هو دليل بيّن على أنّ "مسؤولي الحكومات المتعاقبة بعد الثورة بعيدون عن الثقافة ولا يفقهونها".

اتحاد الكتاب وصياغة الشخصيّة التونسيّة

يؤكّد صلاح الدّين الحمّادي على وجود جهد مبذول في الجانب السردي في الكتابة الروائيّة والقصصيّة بوصفها القادرة على تبليغ الشخصية التونسية ونقل مشاكلها وأفكارها، مضيفا أنّ الاتحاد يدافع عن إيلاء الأدب التونسي المكانة التي يستحقها في المناهج التعليمية وأنّه من المؤسف أن يقابل الإنتاج الأدبي والفكري في تونس بكثير من التجاهل في مناهجنا التعليمية في الوقت الذي يسجلّ فيه تميزا على المستويين العربي والعالمي في مختلف المجالات وآخرها جوائز كتارا التي حصل خلالها تونسيان على جوائز في الرواية وفي كتاب الطفل.

في المقابل يعتبر محمّد المي أنّ ضعف الإمكانيات المرصودة لاتحاد الكتّاب التونسيين، فضلا عن عدم استشارته في رسم السياسات والبرامج التعليمية، من شأنها أن تضعف أثره في نحت الشخصية التونسية.

العلاقة بين اتحاد الكتاب التونسيين والسلطة الحاكمة

يؤكّد صلاح الدّين الحمّادي أنّ اتحاد الكتّاب التونسين، ومنذ تولّيه مسؤوليّة رئاسته، صار حاضنة للكتاب، مستدلاّ على ذلك بما أسماه بعودة عدد لا بأس به من المؤلفين لهذه الحاضنة، فضلا عن الإقبال الكبير على مناشط الاتحاد، مضيفا أن الاتحاد يتعامل على قدم المساواة والاحترام مع مختلف منظوريه بغضّ النّظر عن خلفيّاتهم الفكرية والسياسية، وأنّ المعضلة الأساسية التي تعترض نجاحه هو "غياب إرادة سياسية حاكمة تؤمن بدور الكاتب في اجتراح الحلول الملائمة لمشاكلنا".

وأضاف في ذات السياق أنّه على عكس فترات الحكم السابقة التي نصّب فيها رجال دولة مثقفون على رأس وزارة الثقافة من قبيل محمود المسعدي والشاذلي القليبي ومحمد مزالي والبشير بن سلامة والذين تركوا آثارا طيبة على مستوى ما قدّموه من خدمات جليلة للكتّاب والثقافة بصفة عامّة، "هناك غياب وعي سياسي وفكري، ومن غير اللائق أن يكون ساستنا لا يقرؤون ولا يؤمنون بالكتاب وبالقراءة، وأنّى لهؤلاء أن يكونوا مؤمنين بالثقافة وهم جاهلون بالثقافة وخير دليل على ذلك استبعاد الرئيس ورئيس الحكومة المكلف بدعوة اتحاد الكتاب التونسين للتشاور حول مستقبل وبرنامج الحكومة المرتقبة في الوقت الذي وجّهت فيه الدّعوات لمن هب ودب".

ويشير الحمّادي إلى أن الاتحاد يعاقب لأنه لم ينخرط في المناشط الاحتجاجيّة بعد الثورة، عكس بقية الجمعيات والقطاعات، وأنّه هناك "رغبة في تحييد دور الثقافة لأنها قادرة على تعرية مستوياتهم وبالتالي ليس من مصلحتهم دعم الفكر الحر والثقافة الحرّة، والاتحاد كان يحسب على السلطة الحاكمة، ولم يكن يمثل بالفعل الحاضنة لكل الكتاب نتيجة غياب الديمقراطية وسيطرة أسماء بعينها على الجمعيّة منعت من اتخاذ مواقف لصالح الكتّاب رغم وجود دعم مادي سخي من قبل السلطة الحاكمة والذي كان بمثابة الرشوة السياسية". 

من جهته، يرى محمد المي أنّ الاتحاد في وقته الحالي لا يمثل واجهة سياسية للسلطة الحاكمة باعتبار أنّ هذه الأخيرة لا تولي اهتماما بالمسألة الثقافية، مستدلاّ بالتمويل الضعيف الذي تمنّ به الدولة على الاتحاد، ولو كان هذا الأخير واجهة سياسية كما كان من قبل لضخت له أموالا حقيقية،  مضيفا أنه يكفي أن زيارة مقر اتحاد الكتاب التونسيين للوقوف على حالة البؤس التي هو عليها.

بحكم المتغيرات السياسية والاجتماعية المتسارعة التي تعرفها البلاد منذ ثورة 2011، وفي ظلّ تراجع منظومة القيمة لدى الناشئة التي تتهدّدها سياقات العنف والإرهاب المعولم، يكون من الضروري أن تعيد السلطة الحاكمة في تونس الاستثمار في الثقافة والفكر وصياغة قراءة متأنيّة للواقع عبر البحث مع منتجي المعرفة والقيمة، والكتاب والمثقفين على وجه الخصوص، عن أنجع السبل القادرة على ترميم الانهيارات القيمية الخطيرة التي يشهدها المجتمع التونسي.