كتاب عربي 21

من رسائل الحالم للحاكم (2)

1300x600
(1)
أعجبني كلامك عن الحلم يا سيادة الرئيس، وأعجبتني دعوة الناس للتفكير بالأمل والتمسك بأحلام المستقبل..

لكن هل هذا الكلام صادق؟

هل هذه الدعوة حقيقية؟

أخشى أن يكون فهمك للحلم مرتبطا بالمنام أكثر من ارتباطه باليقظة. نحن نحلم مثلك أيها الرئيس لكننا لا نتذكر عادة أحلام الليل؛ ننساها وننشغل أكثر بأحلامنا في النهار، لهذا لا ينبغي أن تظل سياسات وتصرفاتك رهينة أبدية للرؤيا وليس للرؤية، إذ يبدو أن "ليلة الأوميجا" تحولت من مجرد "ليلة" إلى "مصير أمة".

(2)
خبرتي البسيطة علمتني أن الكلمات (مهما كانت حسنة) لا تستطيع تغيير شخص يحرص دوما أن "يكرر ما يقول" و"يبرر ما يفعل"، لذلك لا أرى أي نفع في الكتابة الوعظية، لأنها الوعظ مجرد ترديد لكلمات يؤمن بها من يقولها ولا يمكنها تغيير سلوك من يسمعها، طالما أن لديه قناعاته المضادة. فاللص يعرف مسبقا أن السرقة جريمة وحرام ومخاطرة، لكن معرفته لا تمنعه من السرقة، كما أن مواعظ الشيوخ وضباط الشرطة لا تجدي في تغيير سلوكه.

لكن هل يعني هذا أن التغيير لا يحدث أبدا؟

بالطبع لا، فاللص قد يتغير في لحظة، وهذه اللحظة يا سيادة الرئيس شغلت العقلاء وعلماء النفس والاجتماع، كما حرضت هواة الوعظ على الاستمرار في تقديم مواعظهم، بحجة أنها تساعد في التغيير، لكن تقديري يا سيادة الرئيس أن التغيير لا يحدث لشخص أو لمجتمع إلا إذا كانت الفكرة داخله، وعندما تأتي لحظة الإرادة يحدث التغيير، لأنه كان طوال الوقت مطمورا تحت مشكلات وعقبات تمنع الشخص أو المجتمع من العثور عليه.

من هذا التفسير يمكن أن نعيد بعض الاعتبار للمواعظ وللمعرفة ولحكايات التجارب السابقة باعتبارها مجرد وسائل للحفر والتنقيب عن "كنز التغيير الخفي"، بمعنى أن الموعظة لا تضع الكنز داخل أي شخص، بل فقط تساعده في الكشف عنه، وكذلك تفعل المعرفة وتفعل الصدمات، أما إذا لم يكن هناك كنز ما لدى هذا الشخص أو ذاك المجتمع، فلن نجد بداخله إلا الخراب، مهما أغرقناه بالمعرفة وطاردناه بالمواعظ.

(3)
أرجو ألا يغضبك هذا المدخل العلمي، فهو بطبيعة الحال لا يزال محل خلاف (كمعظم قواعد علمي النفس والاجتماع)، لكنني اخترته كفرضية متفق عليها في الأسس النظرية لحكمك. ولنشرح هذه النقطة باختصار:

أنت لديك تصور لما هو صحيح ولما هو خطأ، ولديك تصور نهائي لمن هو معك، ومن هو ضدك، ولديك تصور نهائي لما يجب أن تكون عليه مصر. ويبدو واضحا الآن أنك لن تغير هذا التصور، وبناء على ذلك فلا فائدة ترجى من مخاطبتك بأي كلام بالعلم وأي موعظة قانونية وأخلاقية، بل إن الشكوى أو المعارضة لن تكون إلا توصيفا لأصحابها بأنهم أعداء مبشرون لك ولتصوراتك النهائية، وهذا ما اتضح في مصائر كل الأشخاص والتنظيمات السياسية التي ارتكبت إثم الموعظة والتحذير، وحتى التبيين والتوضيح والتنبيه. فالكلام انتهى والموضوعات خلصانة (كما كررت قولك)، ولا مجال للمبادرات والنداءات السياسية (كما أعلنت الأبواق الناطقة بحكمك)، لهذا لا يبقى أمامنا أمل في التغيير إلا بطريقيتين:

الأولى: طريقة الإزاحة الحدية لهذا النظام الدوجما الرافض للتغيير، لعدم وجود أي فرصة لإصلاحه.

الثانية: أن تحدث معجزة خفية، وتكون هناك "فرصة" كامنة تسمح بإصلاح النظام من داخله.

ولنتوقف بقليل من التوضيح للسبيلين في الفقرة التالية:

(4)
تبدو الطريقة الأولى ثورية وجذرية، لكن الواقع لا يساعد على نجاحها، فموازين القوى مختلة بين مؤسسات الحكم وأفراد المجتمع، كما أن القوى المرشحة لخلافة النظام هي من عينة النظام نفسه، سواء من داخله أو من خارجه. والأخطر أن مصر بشعبها وأرضها مرشحة لخسائر أكبر في حال الذهاب إلى نموذج من نماذج التغيير بالعنف، لأن التاريخ يثبت أن الصراعات الداخلية تنتهي عادة بهيمنة أجنبية ومكاسب لدول خارج الحدود.

قبل أن أناقش الطريقة الثانية، أوضح أن هناك طريقة ثالثة لا أعلمها ولا يعلمها غيري، وهي طريقة التغيير بالقدر والمصادفات والمفاجآت التي يستحيل تحديد مواقيتها أو التفكير فيها كحل سياسي، لذلك ليس أمامنا إلا مناقشة ما نملكه أو ما يجب أن نملكه. وبما أن المعارضة عاجزة عن صنع حلبة من التوازن والضغط من اجل الإصلاح، وبما أن خيار العنف مرفوض تعقلا، فليكن السؤال لك يا سيادة الرئيس: بما أنك ترفض مبادرات الناس ونداءات الأحزاب ودعوات المعارضة، فما هي مبادرتك الشاملة لإصلاح مصر وتحويلها إلى دولة (كما يقول الكتاب)؟

كيف يمكن أن نحقق حلمك أنت؟

وما هي تصوراتك التفصيلية التي يشير إليها كل مسؤول بعبارة "حسب توجيهات سيادتك"؟

ففي كل استعراض لك مع وزرائك يبدو لنا أنك تعرف تفاصيل كل شيء: مشروعات الطرق والأنفاق والكهرباء والثروة السمكية والإسكان والتسليح... إلخ.

لكننا عندما انتظرنا برنامجا انتخابيا لم نجد إلا العموميات، وعندما انتظرنا القضاء على الإرهاب في سيناء لم نحصل على نتيجة نهائية، فلم نحصد أمنها وتنميتها ورخاء أهلها، وعندما انتظرنا الإصلاح الاقتصادي الجريء، فاجأتنا هجمة الأسعار، وعندما انتظرنا تحقيق وعدك ببلد "أد الدنيا" خرجت بنفسك لتصفع أحلامنا بتصريحاتك عن العوز ودولة الأشلاء و"احنا فقرا أووي"!

(5)
أين الحقيقة يا سيادة الرئيس؟

من أنت؟ وماذا تريد منا وبنا؟

هل أنت مجرد حالم لديه مشكلة مع الواقع ويحتاج إلى مساعدة لتحقيق أحلامه "الحلوة" الهادفة لترميم وطن متصدع وبناء أمجاد عصرية تليق بتاريخه؟

أم أنك تعرف ما تريده، وتسعى إليه وحدك، من غير أي حاجة للناس بما تفعل وبما تريد؟

في الحالة الأخيرة، من حقنا أن نعرف ما تريده بكل تفاصيله، فحلم بناء دولة ليس سراً يخصك، إنه "الحلم الوطني" الذي يجب أن يشارك فيه كل مصري، وبما أنك قد دعوت الناس للحلم، فلا بد أن يكون الحلم قوميا، وليس ذاتيا، فلا يصح أن يحلم كل الناس بحلم الأوميجا وامتشاق السيف الموعود..

هذا حلمك الشخصي (وهو حق فردي لا نعاتب عليه)، ما يهمنا هو الحلم العام.. حلم بناء دولة عصرية بنفس الطريقة التي نبني بها أعرض كوبري، ونشق بها طريقا آمنا، ونصلح بها أحوال الإسكان والبحيرات، مسترشدين بالعلم وخبرات الشعوب المتقدمة..

الدول أيضا يجب بناؤها بنفس المعايير يا سيادة الرئيس.. يجب أن نطبق المعايير على الحجر وعلى البشر، يجب أن نحترم الدستور والقوانين، يجب أن نحرص على الحريات وحقوق الناس في العمل وفي البيوت وفي الشوارع وفي السجون، يجب أن يتمتع القضاء باستقلال تام عن السلطة التنفيذية، يجب أن يتحرر الإعلام وتتقدم مؤشرات النزاهة والشفافية، يجب حل البرلمان المؤسف قبل الربيع المقبل وإجراء انتخابات نزيهة لبرلمان الغرفتين كبادرة حسن نوايا تقدم للعالم وإشارة على بدء تغيير ديمقراطي حقيقي في مصر، يجب تمكين المؤسسات الرقابية من القيام بدورها في مكافحة الفساد وإعلان الحقائق على الناس أصحاب الحق والمصلحة، يجب أن تشارك وتساعد في هذا الحلم القومي الضروري يا سيادة الرئيس.. انت ليه ما بتحلمش زينا؟ جرب تحلم مع الناس، جرب تحلم للناس.

وبما أنك تحب الإنجازات والمعجزات، فليس لدينا الآن أعظم ولا أهم من مشروع بناء الدولة العصرية (ببنيتها التحتية وبنيتها الفوقية). لو كانت النية خالصة لله وللوطن، فإن هذا المشروع سيكون والله معجزة كبرى تحسب لك في الأرض ويوم العرض، أما إذا كان الصدر قفراً خاليا من كنز الحلم الوطني، فلن يجد الواعظ إلا الخراب والملاوعة، وحينها لن يتحقق في مصر أي تغيير هادئ، وسيظل كابوس السبيل الأول (وهو سبيل عنيف ومرفوض) يأكل في لحم وأعصاب مصر، وينحر شبابها ويلوّع عائلاتها، ولن يستفيد من هذه الحماقة إلا أعداء البلاد ومن يوالونهم في السر والعلانية.

اللهم يسر لك ولنا سبيل الإصلاح الحق.

والرسائل مستمرة..

tamahi@hotmail.com