أفكَار

إسلام الدولة ودولة الإسلام.. قراءة المفاهيم والتاريخ (1من2)

منذر جلوب: الدولة مفهوم غربي حديث وطارئ على الفكر الإسلامي (عربي21)

على الرغم من صعود عدد من قادة الحركات الإسلامية إلى رأس السلطة في العديد من الدول العربية والإسلامية، إلا أنهم لم يتمكنوا من تقديم نماذج ذات خصائص محددة يمكن أن نطلق عليها مصطلح الدولة الإسلامية.

من إيران إلى السودان مرورا بباقي الدول العربية التي تنص أغلب دساتيرها على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، ظل هيكل الدولة الحديثة هو الوعاء الذي اندرجت فيه مختلف الاجتهادات السياسية. 

ومع أن المكتبة الإسلامية تزخر بآلاف الكتب التاريخية التي توثق مختلف مراحل تطور المنطقتين العربية والإسلامية قديما وحديثا، إلا أنها في الجانب الدستوري والقانوني المتصل بالدولة ظلت في أغلبها أقرب إلى الترجمة والنقل من التجربة الغربية منها إلى النحت الإسلامي. كما هيمن عليها الاصطفاف الأيديولوجي الذي قسم المنطقة العربية والإسلامية، بين شق وطني يعتقد بثراء المكتبة الإسلامية وتقدمها عن غيرها من الاجتهادات الفكرية، وبين نخبة تعتقد بأن العلم لا وطن له، وأن التلاقح الفكري والثقافي من أهم أسباب التطور في مختلف المجالات.

ولكن الحاجة إلى مفاهيم وآليات دستورية وقانونية لإدارة الدولة لم تظهر بشكل جلي وواضح، إلا مع ثورات الربيع العربي، التي أعادت صياغة المشهد السياسي بالكامل، وفتحت الباب على مصراعيه أمام مختلف التيارات السياسية الوطنية للبروز وتصدر المشهد، وكان من بينها تيار الإسلام السياسي الذي ظل ينظر للدولة الإسلامية منذ مطلع القرن الماضي.

"عربي21"، وفي سياق متابعتها للحراك الفكري الذي تعرفه المنطقة العربية والإسلامية، تعيد فتح ملف الدولة الإسلامية كمفهوم وآليات، وتطرحه على قادة المجتمع السياسي والفكري في العالمين العربي والإسلامي.

اليوم يناقش الدكتور منذر جلوب أستاذ أستاذ الفلسفة في جامعة الكوفة بالعراق في الجزء الأول من هذه الورقة التي أعدها خصيصا لـ "عربي21"، مفهوم الدولة وعلاقة الدين بالدولة. 

دولة الإسلام وإسلام الدولة

في البدء لابد من الإشارة إلى أن الحديث عن دولة الإسلام وإسلام الدولة بهذا التعميم، لابد من أن يستدعي بالضرورة حديثا عن التاريخ. وليس هناك ما هو أشد خطورة من الحديث عن تاريخ معبأ بمشاعر مشبعة بالقدسية وترتقي عند حامليها إلى مرتبة المقدّس. فما يكون موضوعا للدرس يكون موضوعا للفحص والتقييم، ولا يمكن تقييم المقدس إلا بنزع القدسية عنه. وذلك يتطلب جرأة يمكن زعم تسويغها بادعاء الموضوعية، وهو تسويغ غير كاف لأن الموضوعية ادعاء شبه مجاني برسم الجميع. فلن نغامر في هذا الاتجاه لكننا سنعرض تعريفات ووقائع ومقارنات وتقييم لها مع الحذر عند نقاط الالتقاء والتقاطع مع المقدس. 

سننظر في مفهوم الدولة ومفهوم الإسلام، والمفهوم الناتج من بناء المفهومين في المفاهيم الناتجة من مقاربة المفهومين مع بعضهما. وفي سياق ذلك ننظر في سؤالين مهمين هما:

1 ـ هل وجد كيان اسمه (دولة إسلامية) قبل القرن العشرين؟
2 ـ مفهوم (دولة إسلامية) من حيث الفحوى والدقة.

الفحص التاريخي لمفهوم الدولة:

كان تأسيس عصبة الأمم المتحدة عام 1919م بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى سببا في تثبيت أسماء متفق عليها للدول الأعضاء، بعد أن لم يكن ثمة اتفاق.

وكان نشوء الدولة الحديثة مقترنا ببزوغ عصر الحداثة الذي شكلت الثورة الفرنسية عام 1799م علامة فارقة فيه، وكان من مميزات عصر الحداثة العقلنة والأنسنة والتنظير للأفكار القومية وتبلور الأيديولوجيا عموما.

قبل ذلك لم تكن تسميات الدول متفق عليها لا بين أهل الدولة الواحدة أنفسهم ولا من قبل من هم خارج تلك الدولة وما يطلقونه عليها من تسميات. فهناك بلاد الروم وبلاد الفرس وبلاد العرب أو بلاد المسلمين أو المحمديين وبلاد الهند والصين... الخ. 

وحتى بالرجوع إلى المراسلات لاتجد التسميات لتلك الكيانات بتحديد قاطع أو موحد، وإنما تكون بأسماء الحكام أو الأرض أو الأقوام، فبدءا من مراسلات الرسول (ص) تجد نصوصا من قبيل "من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس" أو "من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط" أو "من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة". وجميع تلك الرسائل لا تشير إلى اسم "رسمي" للبلد أو الكيان السياسي الذي يحتل الرسول (ص) قمة هرمه، ولا للكيانات التي تم توجيه الرسائل إلى حكامها، فلا إشارة إلى "دولة الإسلام" أو "الدولة الإسلامية" أو ما شابه ذلك. 

 

المشكلة بدأت بعد حياة الرسول، حيث بقيت المرجعية النظرية ثابتة وهي القرآن، وسيرة الرسول، إلا أن النص القرآني تعدد فهمه، واختلف في أكثر من موضع فيه، كما أن سيرة الرسول لم يكن متفقا على دقة توثيقها التاريخي


والأمر نفسه يسري مع خلفاء الرسول (ص) وهم رؤساء الكيانات السياسية الإسلامية المتعاقبة، فالرسائل كانت تبدأ بالقول "من عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى..." أو "من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى..." فلا تسمية للكيان السياسي والإداري، فكأن الحديث عن "كيان" للمؤمنين وهو أمير عليه. 

وباستمرار لقب أمير المؤمنين استمرت عناوين الرسائل على المنوال نفسه، فكانت رسالة شهيرة "من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم"، في حين نجد الطرف الآخر يعنون رسالته "من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب" كذلك نجد رسالة "من ريكاردوس قلب الأسد ملك الإنكليز إلى صلاح الدين الأيوبي ملك العرب". 

وهكذا غابت مصطلحات (الإسلام) أو (دولة الإسلام) من تلك المراسلات. ومع أننا نجد في كتب التاريخ المعاصرة تسميات من قبيل دولة الرسول أو دولة الخلفاء الراشدين أو الدولة الأموية أو الدولة العباسية، الدولة الأيوبية، الدولة السلجوقية، الدولة المملوكية... الخ، إلا أن تسمية الدَّولة إنما هي تسمية حديثة وضعها المُعاصرون من المؤرخين، ولم تكن معروفةً في عصر تلك الكيانات، وقد عُرفت بِتسمياتٍ مُختلفةٍ في عصرها والتسميات التي نألفها حاليا تشكلت بمرور الزمن على حقب من التاريخ حتى استقرت مؤخرا فتلقيناها مع تصور ثباتها. 

وبالنتيجة فإن العصور القديمة والوسطى تميزت "بغياب مفهوم الدولة بشكلها الحالي، حيث انتشرت مسميات مختلفة منها، الإمبراطورية، والسلطنة، والممالك". (تظهر مفردة دولة في تسمية "الدولة العثماني العلية" وهذه تسمية متأخرة لم تكن نفسها في بداية تأسيس ذلك الكيان وإنما جاء بعد قرون من التأسيس).

وإذا أردنا تعريفا لمفهوم الدولة، ذلك المفهوم الذي كان يعني في البدء مفهوم السلالة ثم تطور إلى معنى الكيان السياسي الواسع، اكتشفنا غيابه في العصور الكلاسيكية، وبالأخص في العصور الأكثر حساسية ومفصلية والتي ينافح الداعون إلى (دولة إسلامية) من أجل تقليدها وغاية مرام المخلصين منهم هي نسخها (عصر الرسول وعصور بعض خلفائه على الأقل)، إذا أردنا التعريف نجد "للدولة عدة تعريفات وُضِعت من قبل العديد من المؤسسات ولاسيما الأوروبية منها، إلا أن التعريف الأكثر شيوعاً لمفهوم الدولة هو تعريف المفكر الألماني ماكس فيبر ، Max Weber إذ عرَّفها بأنها منظمة سياسية إلزامية مع حكومة مركزية تحافظ على الاستخدام الشرعي للقوة في إطار معين الأراضي. كما عرَّفت موسوعة لاروس - Larousse الفرنسية الدولة بأنها: مجموعة من الأفراد الذين يعيشون على أرض محددة ويخضعون لسلطة معينة". 

هكذا فإن الدولة تتألف من السلطة وموضوع السلطة المتمثل بالأفراد والأرض وتتمم إدارة هذا الكيان بواسطة مؤسسات ينظم عملها مجموعة من اللوائح والقوانين، وتلك اللوائح والقوانين لابد لها من منظومة فكرية تمثل أساس ارتكازها وتحدد رؤاها وتشريعاتها.

ومن الطريف أن نجد في هذا السياق أن "تنظيم الدولة الإسلامية"، الذي ظهر في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين الميلادي، غارق في نقيضة يبدو أن رجالاته ومنظروه في غفلة عنها، وهي أنهم استخدموا مفهوم (الدولة) الذي هو حديث جدا، وأطلقوه على كيانهم وهذا أمر يتناقض مع محاولتهم إقامة "خلافة على نهج الرسول". فمفهوم الدولة لم يكن موجودا أو مستخدما بهذا المعنى لا في زمن الرسول ولا في زمن الخلفاء، ولو أنهم علموا هذا لحذفوا كلمة دولة من عنوان تنظيمهم ومشروعهم ليكون أكثر اتساقا مع مبدأ المشروع وأساس فكرته.

المرجعية النظرية والمرجعية التطبيقية: 

من مقتضيات أي مشروع لبناء دولة قابلة للحياة وللاستمرار والنمو، لابد من من توفر مرجعية نظرية توفر لها الأسس الفكرية، ومرجعية تطبيقية تنسج على منوالها وتقيس بموجبها النجاح والفشل. وقد كان ذلك منذ بدء البشرية في تأسيس أول النظم الحاكمة في عصر دويلات المدن في بلاد ما بين النهرين، حيث تشير الألواح الطينية إلى أن "الملوكية نزلت من السماء" فكأن هذا الزعم يحمل محاولة إعطاء المشروعية للملك، وربطه بقوة عظمى، كما تشير وقائع التاريخ إلى وجود ترابط شديد بين الحاكم الدنيوي أو الملك في بلاد ما بين النهرين وبين كهنة المعابد، وكذلك في مصر القديمة ربما كانت الصلة بين الميدانين أكثر وثوقا حين توحدت السلطة الدنيوية مع دعامتها الدينية بأن أصبح الفرعون هو الإله. وكذلك كان الأمر في بلاد الإغريق والرومان. 

وكانت النقلة مع مفهوم العقد الاجتماعي في أوروبا الحديثة، والذي رأى في الحكم مشروعية تستند على عقد بين الحاكم والمحكوم. وتم تبني هذا الفهم والتطبيق في الولايات المتحدة الأمريكية على يد الآباء المؤسسين. فكان بناء نظرية الدولة على أساس الدساتير والنظريات السياسية الأوروبية من الناحية النظرية، وتكون أنظمة الحكم القائمة في أوروبا مرجعية تطبيقية لتجربة الدولة الأمريكية الوليدة. ونتيجة لهذا الوضوح والدقة في البناء نشأت الدولة الأمريكية قوية راسخة منذ البدء.

 

التفت عبد الرحمن بن عوف إلى علي بن أبي طالب قائلاً: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسُنّة نبيّه، وفعل أبي بكر وعمر؟ فأجابه علي: (بل على كتاب الله، وسُنّة رسوله، واجتهاد رأيي )


الاسلام الذي قام منذ البدء على أساس دعوة الرسول (ص)، برسالة اجتماعية ثقافية سياسية (فضلا عن الجانب الروحاني) أخذت فرصتها في التطبيق على يد الرسول نفسه. فهو من هذه الناحية مشروع ضخم في هذه المجالات. 

ومن أجل تنفيذ أي مشروع من هذا القبيل لابد من توفر مرجعية نظرية ومرجعية تطبيقية. والمرجعية النظرية هي النص القرآني واجتهاد الرسول نفسه (في حياته) وسيرته بعد وفاته. أما المرجعية التطبيقية فكانت تتفاوت. ففي حياة الرسول، وهي مرحلة التأسيس، كانت المرجعية التطبيقية عبارة عن تحصيل حاصل، لعدم إمكان قيام التفاوت بين النظرية وفهمها أو تطبيقها لأن القائم على التطبيق هو الرسول نفسه. 

والمشكلة بدأت بعد حياة الرسول، حيث بقيت المرجعية النظرية ثابتة وهي القرآن، وسيرة الرسول، إلا أن النص القرآني تعدد فهمه، واختلف في أكثر من موضع فيه، كما أن سيرة الرسول لم يكن متفقا على دقة توثيقها التاريخي، وهذا أدى إلى اختلال في الارتكاز على المرجعية النظرية. وكان الاختلاف في تفاصيل المرجعية التطبيقية سببا مبكرا في ظهور عدم الاتفاق على الاستخلاف أيام الراشدين. فمن الاختلاف في سقيفة بني ساعدة بين من آوى ونصر وبين ذي قربى وهاجر، إلى الاختلاف في مجلس الشورى الذي عينه عمر بن الخطاب بقصد تحديد من يخلفه، حيث ظهر الاختلاف في المرجعية التطبيقية أشد وضوحا:

"فالتفت عبد الرحمن بن عوف إلى علي بن أبي طالب قائلاً: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسُنّة نبيّه، وفعل أبي بكر وعمر؟ فأجابه علي: (بل على كتاب الله، وسُنّة رسوله، واجتهاد رأيي )".

هذه الخلافات تؤكد قوة البناء في تجربة قيام الكيان الإسلامي ولا تدحضه، فهو لم يقم على أساس التجربة والخطأ، وإنما استنادا إلى رؤية قد يختلف فيها وحولها لكن وجودها شاخص صلب لا محيد عنه. فقد صار الكيان الذي أنشأه الرسول في المدينة مرجعية تطبيقية ومدينة فاضلة يكون تكرارها هو غاية الطموح، وكذلك عصر الخلفاء الراشدين أخذ مكانة قريبة من مكانة عصر الرسول في ذهن جمهور المسلمين وفي أذهان دعاة الحكم الإسلامي وأذهان المخلصين ممن تنطعوا للحكم في أرجاء العالم الإسلامي على مر العصور.
 
كذلك جاءت فترات الخلافة (أموية، عباسية، عثمانية) على الخط نفسه بوصفها مرجعيات تطبيقية على درجات متفاوتة من المقبولية.