قضايا وآراء

حكومة الفخفاخ المنتظرة.. بين الخيار "الثوري" والخيار "التوافقي"

1300x600

1- ثورية الغنوشي الهادئة

 

السياسة ليست فروسية لغوية، والثورية ليست بلاغة وغرْفا من قاموس الشتائم والسباب وهتك الأعراض، ولا هي "استحواذ على مشترك قبل القسمة" كما يقول القانونيون. فالجشعون يخرجون من غفوتهم وبرودهم ليُعلنوا أنهم أعلنوا "نية" الثورية، ثم يبالغون فيحتكرونها لأنفسهم، ويصبحون يقسّمون المشهد بين قوى الثورة وغير قوى الثورة.

الثورة (بنظري) هي في ما يتحقق من أشواق الثوريين للتحرر والعدالة والتنمية والأمن والسيادة الوطنية، وفي محاربة الفساد والفاسدين، وفي منع حدوث خيبة أمل الناس بعد أن انشرحت أنفسهم للمستقبل إثر فرار رأس النظام ذات كانون الثاني/ يناير 2011. الثورة هي في ما يتحقق دون كلام، وليست كلاما دون تحقق.

تحقيق هذه الأشواق لا يحتاج سخونة لغوية وإنما معرفة بالكيفيات، وامتلاكا لبنك معلومات لا تكون ولا يمكن أن تكون في متناول المبتدئين والعاطفيين الحماسيين.

وحرص الأستاذ راشد الغنوشي على تشريك حزب "قلب تونس" في حكومة إلياس الفخفاخ؛ يبدو أنه بسبب حرصه على منع حصول محظورات ثلاثة:

1- منع تشكل معارضة قوية عدديا من أطراف متقاربة في المنشأ السياسي: فكتل المستقل وقلب تونس والإصلاح بإمكانها تصديع رأس البرلمان ورئيس البرلمان.

2- تشكل "كتلة معارضة" قوية عدديا سيُغري أصحابها بالدعوة إلى سحب الثقة من رئيس البرلمان.

3- سحب الثقة من رئيس البرلمان سيغري بالاشتغال على إسقاط الحكومة، وقد تؤول بعدها للكتلة الأكبر التي قد يكون التحق بها حزب محسوب على الثورة ومعاد للنهضة وللغنوشي عداء أيديولوجيا.

سياسيا، أرى أن موقف الأستاذ راشد الغنوشي هو موقف براغماتي عملي، وهو رجل لا تغريه الشعارات ولا يُزعجه انتقادٌ ووصْمٌ بـ"اللاثورية"، فقد ثار الرجل حتى تلطفته الثورة أن يكون واقعيا. وهو يشتغل اليوم على استمرار "الاستثناء التونسي" بعد خيبة الربيع العربي في غير تونس، فالأستاذ راشد الغنوشي استطاع إنقاذ المسار التونسي عبر اجتراح آلية "التوافق"، وهو وفيّ له حتى الآن، ولذلك يصرّ على إشراك حزب "قلب تونس" في حكومة الفخفاخ.

2- تساوق مساري "الثورة" و"الديمقراطية"

أن يكون اسم رئيس حكومة ما بعد 2011 أشبه ما يكون بـ"اللغز" يُثير رغبة التونسيين في معرفته قبل أن تعلن عنه الجهة المعنية بتكليفه، وأن تظل تزكيته أيضا محل شك قبل عرضه على البرلمان، فهذا أمر مشرّف للتونسيين ومعبّر عن كوننا نعيش زمنا سياسيا مختلفا عما سبقه في تاريخ بلادنا، بل ومختلفا عن واقع العرب جميعا.

ما ضجّ به عالم فيسبوك منذ موسم الانتخابات إلى اليوم من تعليقات وتحليلات وحتى تندر وكاريكاتير؛ إنما يعبر عن كون السياسة في تونس لم تعد شانا حزبيا ولا حكرا على جهاز الحكم أو غُنما، فأصبحت شأنا وطنا وشاغلا شعبيا يخوض فيه الجميع بمختلف مستوياتهم وأعمارهم ومواقعهم الاجتماعية، ولا أحد يمتلك حق إلزام الآخرين برؤيته ومواقفه وأحكامه.

قد يُقال إن فائض الحرية الذي نعيشه أفرز ظواهر ومواقف غير مناسبة للحرية ذاتها، ولكن المرحلة الانتقالية التي نمر بها تسمح بتبرير ما يحصل من "انفلاتات" كونها تعبيرا عن شحنة مختزنة من الحرمان والخوف والقلق ترسبت بفعل عقود الاستبداد.

لماذا ظل التونسيون ينتظرون بشغف إعلان رئيس الجمهورية عن اسم المكلف بتشكيل الحكومة؟ لماذا ظلت التسريبات تتالى متضاربة ومتقاربة ومتطابقة وكأن البلاد تنتظر "ولادة" كائن جديد سيغير من حالها وسيفعل ما لم يحصل منذ تسعة أعوام من عمر أشواق الثورة؟

ربما نفهم من تلك الانتظارات أنها تعبر عن حرص التونسيين على مجيء من يخدم بلادهم، ومن يعالج مشاكل البطالة والتنمية والجريمة وغيرها من المشاكل التي يتوالد بعضها عن بعض، كتوالد جرائم القتل والسرقة و"البراكاجات" والاغتصاب عن جريمة ترويج المخدرات والمشروبات الكحولية في كل الأحياء والأزقة وفي واضحة النهار.

غير أن هذا "التعلق" بشخصية سياسية، سواء كانت في رئاسة الحكومة أو رئاسة الجمهورية أو في المعارضة أو في النقابة أو في العسكر أو الأمن، إنما يُعبر عن حالة من "التعويل" على الشخص المنقذ الذي تنتظره البلاد ليعالج أزماتها ويُخرجها من "الظلمات إلى النور"، كما لو أنه يمتلك عصا سحرية، وكما لو أن واقع البلاد جهاز الكتروني ينتظر صاحب اختصاص يعيد إليه سلامته وينقله من حالة عطالة إلى حالة اشتغال.

3- بين "الوعي المُواطني" و"الجبرية السياسية"

هذه "الانتظارية" لا تعبر فقط عن حالة نفسية، بل وتعبر عن أزمة وعي حين يظن الناس أن الواقع يتغير على أيدي أفراد وليس على أيدي عموم المواطنين.
إن التونسيين هم المسؤولون عن واقع البلاد قبل وبعد 2011، وهم من يمتلكون ناصية الإقلاع اقتصاديا وثقافيا ومعرفيا وفنيا ورياضيا إذا ما أرادوا، وإذا ما رسموا منهجا للحركة والفعل والإبداع والإصلاح.

نحتاج وعيا بمفهوم المواطنة بما هي عنوان مشترك بيننا على اختلاف انتماءاتنا السياسية والأيديولوجية، ونحتاج للارتقاء بقاموس خطابنا في مناقشة خلافاتنا، ونحتاج رحاب صدور لتحمل الأخطاء والتجاوز عن صغائر الأمور، ونحتاج كيمياء تؤلف بيننا، فنتحرك كقوة مادية وذهنية ونفسية، نفكك مشاكلنا ونعالج أعطابنا، ونصنع واقعا جديدا تتحقق فيه مقتضيات العيش والأمن، ونضمن للأجيال القادمة ظروفا أحسن للتحرر من أعبائنا نحن ومن مخلفات نظام الاستبداد والتبعية.

ليس مهما من يكون رئيس الحكومة المقترح من رئيس الجمهورية سوى من حيث هو عنوان لأهداف معينة ومنهج محدد في الحكم، ولكن الأهم هو مدى استعداد التونسيين للعمل والإنتاج واحترام القانون، والترفع عن صغائر الأمور والتحرر من الأنانية ومن الأوهام.

النهوض بتونس مُتاحٌ للتونسيين وهم في زمن الحرية، وليس لأحدنا التعلل باستبداد أو تسلط، فإرادتنا ووعينا هما الضامنان لمنع عودة الاستبداد والتسلط. وتلك هي روح الثورة حين نتحرر في جهازنا النفسي وبنيتنا الذهنية من كوننا عاجزين أو مفعولا بنا وفينا.

من معاني الثورة تحررنا من العجز والكسل، ومن "الجبرية السياسية" التي حولت فكرة "المهدي المنتظر" إلى قاعة انتظار نستقبل فيها الفقر والبطالة والأوبئة والظلم وتشرئب أوهامنا للمخلّص الفرد.

"المهدي المنتظر" عند المفكر حسن الترابي رحمه الله هو "الشعب" حين يريد.