قضايا وآراء

إيران ولعبة الوقت الثمين

1300x600
يطيب لبعض المحللين والكتاب أن يغوصوا في بحر العلاقات الإيرانية الأمريكية، التي ولا شك قد أضحت مثيرة للجدل بطريقة مختلفة بعد اغتيال رجل إيران الصلب، الجنرال قاسم سليماني في بغداد، وبطريقة استخباراتية عبر عملية عميقة هي نفسها تحتاج إلى تحليل سياسي وأمني واستخباراتي؛ قد يطول الكلام في وصفها وجدواها وقدرة اختراقها للجمهورية الإسلامية.

ولكن ماذا عسى إيران أن تفعل وهي بنظر البعض مكبلة بانتظار رسم حل سياسي في أرض اليمن بعد أعوام الصراع الذي لن تنهيه المملكة العربية السعودية بطريقة فيها إزعاج لحديقتها الخلفية، ومهما بلغت التضحيات والتكاليف، وهي العالمة أن جارتها ليست في أحسن أحوالها.

كذلك تدرك إيران جيدا أن اللعب بالساحة العراقية المعقدة أصلا ليس بالأمر السهل، في ظل وجود احتجاجات شعبية عارمة وبعضها في مواجهة النفوذ الإيراني نفسه، وهذا ما عوّل عليه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو فور إعلان الانتهاء من عملية اغتيال سليماني عبر تغريدة قائلا: "إن العراقيين رقصوا في الشوارع من أجل الحرية، وردَّدوا لا سليماني بعد اليوم". وتاليا، ماذا عن المكونات العراقية الأخرى التي بعضها يجاهر بالولاء والتعاون مع الحكومة الأمريكية لما هو برأيها فيه خير العراق، وذلك عبر اللقاء مع الأمريكي بالمباشر أو عبر الناتو أو أي قوات حليفة أخرى تنضوي ضمن الحلف نفسه؟

أما سوريا فتجمع التقارير على أن الوجود الإيراني بات في خطر، خاصة بعد التمدد الروسي الظاهر في الشهور الأخيرة وكأنما الدب الروسي يقول: في المياه الدافئة الأمر لي، ناهيك عن الضربات الإسرائيلية المتلاحقة للمواقع الإيرانية في سوريا، والتي تزيد من حرجة الموقف استفزازا لإيران.

ولبنان بات ساحة لا تحتمل اللعب في ظل تعقد حكومة اللون الواحد، أو ما يسميها البعض حكومة الوقت المستقطع حتى تنجلي الصورة في المنطقة، وبالتالي فإن الحكومة "الديابية" الجديدة ستكون تحت مجهر قوة الناس المنتفضة في الشارع المطالب بحكومة اختصاصين مستقلين لم يحصل عليها، وأصبح الشارع ملجأه الوحيد وتحت مجهر أكبر القوى الدولية بكافة مسمياتها، عبر مؤتمر سيدر أو البنك الدولي أو أمريكا نفسها، من سيغال ماندلكر وديفيد شينكر عبر الإدارة المالية في الولايات المتحدة، إلى ديفيد هيل وكل المبعوثين الدوليين أمريكيين كانوا أو أوروبيين، وبالتالي إن المساحة للأمريكيين والإيرانيين لا تستطيع الضغط أكثر في لبنان، حيث لغة الأرقام تكشف عن قدرة هشة لدى اللبنانيين حكومة وشعبا واقتصادا لمواجهة الضغوطات المتأتية من كل حدب وصوب.

وهنا لا بد من التأكيد بأن قواعد اللعبة القديمة انتهت، ونحن أمام قواعد جديدة صيغت بالدماء من بغداد مع حادثة الاغتيال، فحواها أن أمريكا لم تعد تستطيع تحمل التمدد الإيراني في المنطقة. وظهر ذلك جليا في كلام وزير الدفاع الأمريكي السيد إسبر قبيل اغتيال الجنرال سليماني؛ بأن "قواعد اللعبة تغيرت".

وبالتالي، الولايات المتحدة تغامر إلى حدود المقامرة في حرب إقليمية تتوقف عند حدود القرار الإيراني بالمواجهة، وهو قرار لم تستخدمه الجمهورية الإسلامية حتى الساعة بالمعنى الحقيقي، خاصة إذا ما أنصتنا إلى بعض الساسة الإيرانيين على غرار وزير الخارجية محمد جواد ظريف؛ الذي يقيس كلماته وألفاظه على وزن دبلوماسيته المشهودة في الدفاع والهجوم في آن، حتى أن تصريحاته باتت مثيرة للجدل في إيران نفسها.

وبناء على ذلك جاء الرد الإيراني المحسوب على قاعدة عين الأسد، في ظل دور قطري ظاهر دبلوماسيا لاحتواء الأزمة بين دولتين مهمتين لها في مجالها الحيوي والسياسي، وفي ظل تخبط الاقتصاد العالمي بأزمة ديون قاتلة حيث كشفت بيانات حديثة لبنك التسويات الدولية ارتفاع الدين العالمي بالعملات الصعبة (الدولار واليورو والين الياباني) إلى مستوى قياسي يتجاوز 16 تريليون دولار. وتجاوز الدين الحكومي في الولايات المتحدة مستوى 23 تريليون دولار في نهاية 2019، وذلك لأول مرة على الإطلاق.

وهذا الرقم يشمل الدين العام بحجم 17 تريليون دولار، وديون الأجهزة الحكومية بحجم ستة تريليونات دولار. وارتفع الدين الحكومي في الولايات المتحدة بنسبة 16 في المئة منذ تولي دونالد ترامب الرئاسة الأمريكية في كانون الثاني/ يناير 2017، حين كان الدين عند مستوى 19.9 تريليون دولار.

وكخاتمة، فإن الوضع الاقتصادي الإيراني ما عاد يرضي صديقا أو عدوا للجمهورية الإسلامية، في ظل ركود اقتصادي هو الثالث عالميا على أبواب شباط/ فبراير 2020 ونسبة بطالة هائلة لا سيما بين الشباب الإيراني، تضاف إليها خطورة انهيار أسعار الريال الإيراني المصحوبة بالانكماش الاقتصادي الممزوج بنقص في الاحتياطيات من النقد الأجنبي في البنك المركزي الإيراني نتيجة العقوبات الأمريكية الشهيرة.

لذا انطلاقا من أن لعبة الوقت الثمين بدأت، وجب على إيران الشروع في مفاوضات مباشرة مع أمريكا دونالد ترامب مباشرة، وترتيب أرضية عمل سياسية- أمنية- اقتصادية، وذلك ضمن شروط "لا يموت الديب ولا تفنى الغنم"، لأن إمكانية التفاوض الحالية مع أمريكا أجدى وأقل كلفة على إيران إذا ما استطاع ترامب الوصول إلى ولاية ثانية في البيت الأبيض، خصوصا مع ما يشاع عن تسليفات كبيرة سيقدمها الأخير من حساب الشعب العربي الفلسطيني للوبي الإسرائيلي في أمريكا ضمن ما تسمى صفقة القرن أو الرؤية الأمريكية للسلام.