أفكَار

مؤرخ جزائري: الأرض المغاربية ليست حكرا على البربر والعرب

مؤرخ جزائري: رحل العثمانيون كنظام سياسي، لكنهم بقوا في الجزائر كمواطنين (عربي21)

ـ آبراهام لِينْكُولْنْ والملكية البريطانية إليزابيث الثانية من أصول أندلسية

 

ـ إذا لم يتدارك العرب أوضاعهم فهم سائرون إلى تطبيع أكبر وأخطر

 

ـ النشيد الوطني لدولة الاحتلال في فلسطين ليس يهوديا


جاء إلى عالم التأليف والتاريخ من بوابة البحث في تاريخ يهود الجزائر، كان الفضول بداية مغامرة ممتعة سرعان ما تعمق في دهاليزها المؤرخ والباحث الجزائري فوزي سعد الله، إلى أن وجد نفسه على سواحل فردوس مفقود اسمه "الاندلس"، وجد نفسه في قرطبة وفالينسيا وإشبيلية وغيرها من حواضر الدنيا الرائقة أيام العز الإسلامي.

في هذا الحوار الثري الذي سيبحر فيه مع قراء "عربي 21" الأستاذ فوزي سعد الله، حديث مؤلم دام عن أكبر عملية تطهير عرقي وديني مسكوت عنها في العالم، تعرض لها الأندلسيون الموريسكيون في أعقاب السقوط المدوي لغرناطة الحلم، وما تلاه من شتات أندلسي وضياع لا يقل إجراما عما تعرض له الهنود الحمر في العالم الجديد أمريكا، إنما ضمن تلك النكبات، كان الأندلسيون نجوما لامعة في الابداع والفن والتكنولوجيا حيثما حلوا وارتحلوا.. حتى صارت أياديهم البيضاء تغمر كل منطقة جنوب المتوسط.

في الأثناء، مفاجآت وكشوفات هائلة، عن العثمانيين ومآثرهم، وعن اليهود الذين عاشوا معنا ردحا من الزمن معززين مكرمين، وعن الثقافات والموسيقى التي تمتد بعيدا.

س ـ ما هي الفوارق التي يمكن ملاحظتها بين الوجود الأندلسي في الجزائر والوجود الأندلسي في تونس أو المغرب مثلا؟ 


 ـ هي على العموم متشابهة في الثقافة الاجتماعية والعادات والتقاليد واللسان وفي الحمية، الجهادية بسبب ما عانوه على يد النصارى في بلادهم، وأيضا في أنماط الإنتاج والاستهلاك والتقنيات وحب الموسيقى، لاسيما الموسيقى الأندلسية، وفي الفنون المعمارية والعمران. لكن ظروف كل بلد على حدة أعطت بعض الخصوصيات لجالياتها الأندلسية. مثلا: شيوع الاضطرابات والنزاعات السياسية في المغرب عندما جاء الموريسكيون في بداية القرن 17م أدت إلى تورُّط الموريسكيين فيها وتوريطهم في مؤامرات وانقلابات القصر، مما سبب لهم توترات وحتى مواجهات مع خصومهم من أهل المغرب قبل أن يعم الاستقرار لاحقًا، بينما في الجزائر لم يحدث هذا ولم يتورّطوا في الفتن السياسية، لأن النظام كان مستقرًّا بعد أن وحَّد العثمانيون البلاد وبسطوا فيها الأمن والاستقرار مبكِّرًا منذ أربعينيات القرن 16م. 

من جهة أخرى، كثيرا ما كانت العائلة الواحدة تنتقل من بلد إلى آخر من البلدان المغاربية، حيث يطيب لها العيش وبعضُها مُشتَّت بين هذه البلدان على غرار أحد فروع عائلة بن يَغَّش الغرناطية المغربية الجزائرية وعائلة بْرِيهْمَاتْ العريقة في مدينة الجزائر وهي أندلسية عاشت لفترة ما في تونس قبل استقرارها النهائي في الجزائر خلال العهد العثماني مثلما وقع لعائلة القَرْضَنَاشْ (Cardenas)، نسبةً إلى رب الأسرة مصطفى القرضناش بن عبد العزيز، التي لجأت في بداية القرن 17م من مدينة كارْدِينَاصْ (Cardenas)  في إسبانيا إلى تونس لِعدة عقود قبل استقرارها بشكل دائم في مدينة عَنَّابَة في منتصف القرن 17م. وأطلال قصر مصطفى القرضناش المعروف بقصر السّْرَايَا ما زالت موجودة في عنابة العتيقة إلى اليوم. وهي أطلال بسبب الإهمال...

س ـ الموسيقى الأندلسية في الجزائر تحظى بانتشار كبير، هل هذه الموسيقى المتميزة لها ذات الانتشار في المغرب وتونس؟ وما هي خصائصها الفنية؟


 ـ صحيح، وهذه الموسيقى الحضرية التي نَبَعَتْ من المُدن وانتشرتْ فيها منذ بداياتها مِن مؤثرات الأندلس والاختلاط على مدى قرون بين الأندلسيين والمغاربيين على ضفتي البحر المتوسط، حيث كان أندلسيون كُثر يعيشون أيضا في المغرب الإسلامي بأشكال دائمة ومؤقتة، بما في ذلك في الصحراء كتاهرت والميزاب وإقليم تْوات.

وجود الموسيقى الأندلسية في هذه البلدان أقْدَم من تاريخ سقوط غرناطة للأسباب سابقة الذِّكْر. لكنها أخذت لمسات محلية عبْر القرون لتصل إلينا مثلما نعرفها اليوم في فاس وتطوان وتلمسان والجزائر وقسنطينة وتونس وطرابلس.
 
في الجزائر، على سبيل المثال، أسّس أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت الإشبيلي الأندلسي مدرسةً لتعليم الموسيقى في مدينة بجاية في القرن 11م. ولمَّا كان أندلسيونا ينحدرون من مناطق أندلسية مختلفة الأساليب الغنائية / الموسيقية، فإن هذه الأساليب اجتمعت في مدننا وأحيانا امتزجت في المدينة الواحدة على غرار غناء المالوف الإشبيلي الذي استقر في قسنطينة وبجاية وعنابة، والغناء الغرناطي في تلمسان ومجال تأثيرها القريب، وخليط من الغناء القرطبي الغرناطي البلنسي في مدينة الجزائر والبليدة والقليعة وشرشال التي استوطنها أهالي غرناطة وقرطبة وبلنسية. فاس وتِطوان مثلاً غلب عليهما الأسلوب الغرناطي، مقابل الإشبيلي في تونس وليبيا لأسباب تاريخية.

ومن بين خصائص هذه الموسيقى الغنائية أنها حوصلة فنية تاريخية لأجمل ما في الغناء العربي / الإسلامي مِن بلاد فارس / إيران وما جاورها إلى بيزنطة والمدينة المنورة ومكة المكرَّمة ودمشق وبغداد حتى القيروان والحواضر الأندلسية وعلى رأسها قرطبة زرياب في عهد بني أمية. بالإضافة إلى مؤثرات إسبانية وصِقْلَبِيَة تنحدر من أوروبا الوسطى والشرقية تَرَكَتْ لمساتِها حتى في المدائح الدينية وترتيل القرآن.
 
هذه الموسيقى تُؤدَّى وفق نظام غنائي من 24 نوبة مقاماتها الموسيقية تتناسب مع مزاج الإنسان في كل ساعة من ساعات اليوم الـ: 24. لذلك هي موسيقى نفسية إلى حدٍّ مَا متناغمة مع النفس البشرية. اليوم، لم يبق موجودا أكثر من حوالي نصف هذه النوبات. وهناك جهود هامة لحفظها من الضياع حتى تبقى للأجيال المقبلة.
  
س ـ لماذا تحظى الدراسات الأكاديمية الأندلسية الموريسكية باهتمام خاص داخل المغرب العربي علاوة على اسبانيا برأيك؟ 


 ـ في الحقيقة، إسبانيا، التي بدأ مستشرقوها يهتمون بالدراسات الأندلسية / الموريسكية بشكل مركَّز خلال السبعينيات، قفزتْ قفزات نوعية جبارة في هذا المجال وتفوقت على المغاربيين منذ التسعينيات مِن حيث كمّ البحوث ونوعيتها العِلْمِية ومجالاتها. وهي اليوم تجاوزت التاريخ الكلي (Macro histoire) إلى التنقيب في التاريخ الجزئي (Micro histoire) على مستوى المدن والبلدات والحومات، فيما لم نقتحم نحن هذه الدراسات إلا باحتشام وما زلنا في مجالها العام الكلي، بالرغم أن تونس قامت بانطلاقة رائدة وقوية منذ نهاية الستينيات على يد المؤرخ عبد الجليل التميمي مؤسس مركز الدراسات الأندلسية والموريسكية بمدينة زغوان، وهو ذاته ينحدر من أصول أندلسية. لكن يبدو أن هناك تراجعا حاليا في تونس، بما في ذلك في مركز زغوان. 

وفي المغرب، تحركت ماكينة البحث العلمي بشكل هام منذ الثمانينيات وأنتجت باحثين ممتازين معروفين، لكن في تقديري ما زالت هذه الجهود غير كافية. 

أما الجزائر، فتأتي، برأيي، في مؤخرة الترتيب وما زالت متأخرة كثيرًا في هذا المجال رغم إنشاء مركز الدراسات الأندلسية في تلمسان سنة 2011م والذي لم نسمع بإنتاج يُذكَر له باستثناء بعض "الندوات الدولية" المعلَنة المحدودة كمًّا ونوعًا والتي ارتبطت بتظاهرة "تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية".

س ـ كيف جاءتك فكرة كتاب مثير مثل “يهود الجزائر هؤلاء المجهولون؟ هل كنت تدرك من البداية حساسية موضوع كهذا فقررت كسر مثل هذه الطابوهات بإصدرات أخرى عديدة عن اليهود في الجزائر؟


 ـ التأليف في هذا الموضوع كان في الحقيقة جوابا على تساؤلاتي الذاتية وتساؤلات الجزائريين بين سنتي 1989م و1991م عندما احتل هذا الموضوع صدارة الأحداث لالتحاق خبراء يهود أجانب في التجارة الخارجية بوزارة الاقتصاد كمستشارين في سياق صراع شديد بين "المحافظين" و"الإصلاحيين" آنذاك. وازداد الموضوع أهمية بعد اتفاقيات أوسلو. 

طبعا، كنتُ أدرك حساسية الموضوع، لكن لم أفكر في كسر طابو بل أردت أن أفهم وأتقاسم ما فهمت مع الجزائريين الذين اختلطت عليهم آنذاك الأمور وما وجدوا من يشفي غليلهم، باستثناء مقالات صحفية سطحية تنبعث منها رائحة التوظيف السياسي والمناورات وتصفية الحسابات بين زمَر النظام. وعكْس ما اعتقدتُ، اكتشفتُ أن الموضوع متشعب ومتعدد الجوانب وعميق فغرقتُ فيه لسنوات طويلة أنجَبتْ هذه الكُتُب الثلاثة المكمِّلة لبعضها.

س ـ ماهي العوائق والصعوبات وربما حتى المخاطر التي واجهتها وأنت تتحدث عن يهود الجزائر؟ 


 ـ كنت أوَّل جزائري اقتحم هذا الموضوع في مشروع كتاب وفي وقت شديد الحساسية، لأنني بدأتُ البحث فيه في خريف 1992م وأتممته نهاية عام 1995م ونشرته بعد المراجعة في ربيع 1996م. كنتُ أعرف أن هذا الكتاب قد يُزهِق روحي، لكنني لم أهتمّ كثيرًا بهذا الجانب وباشرتُ العمل بإمكانياتي المتواضعة: قلم رصاص وورق وسنوات من القبوع في المكتبات بالتوازي مع مواصلة دراساتي الجامعية في معهد العلوم الاقتصادية ومعهد اللغات الأجنبية والعمل الصحفي في الوقت ذاته. 

لم يكن الأمر سهلا لغياب مصادر جزائرية ولرفض مؤرِّخينا الذين اتصلتُ بهم التعاونَ والمساعدةَ على الأقل بقبول حوارات أو مراجعة ما كنت أكتب... ربما الأجواء المضطربة أمنيًا كانت تُلقِي بضلالها عليهم وتشحذ الهواجس وأنا أتفهم وإن شعرتُ بخيبة كبيرة حينذاك. إجراء حوارات في هذا الموضوع وتسجيل الشهادات كان في تلك الظروف من المستحيلات، لأن القادرين على الخوض فيه يرفضون باستثناء بعض المواطنين البسطاء الذين عاشوا مع اليهود كجيران وأصدقاء وزملاء خلال الحقبة الاستعمارية قَبِلُوا أن يدلوا بشهاداتهم. 

مِن حُسْن حظي أنني كنت أُحْسِنُ العربيةَ والفرنسية والإنجليزية، مما جعلني أستفيد مما كتبه غير الجزائريين عن تاريخ يهود الجزائر مع الغربلة والتحليل بطبيعة الحال. وهذا أيضا كان شديد الصعوبة ومسؤولية كبيرة، ربما كانت مسؤولية أكبر من حجمي، لأنني لم أعثر على كتابات جزائرية اقتدي بها كمعالم، وبالتالي أيُّ خطأ مني كان سيتسبب في تغليط الجزائريين، لأن كتابي كان سيصبح اللَّبنة الأولى في هذا المجال. وبالفعل، ألاحظ أنه يُتَّخذ منذ صدوره كمرجع في الأطروحات والرسائل والمذكرات الجامعية في جامعات جزائرية وغير جزائرية في العالم العربي.

س ـ بالنظر إلى ما خلفته الموسيقى الأندلسية من طبوع وتأثيرات في الجزائر، ترك اليهود بصمتهم الواضحة أيضا في مجال الموسيقى قبل مغادرتهم الجزائر، لكن بصمتهم لم ترق لأن تكون "موسيقى يهودية " منفصلة ومتميزة.. أليس كذلك؟


 ـ صحيح أنهم غنوا هذا الغناء وأحبوه ونبغ فيه بعضهم، وأحيانا بلمسة حزينة خاصة في الأداء، وهذا طبيعي لأنهم بكل بساطة كانوا جزائريين كغيرهم من الجزائريين بثقافة جزائرية عربية إسلامية وبعادات وتقاليد ومخيال جزائري. لا وجود لموسيقى يهودية في الجزائر وفي غير الجزائر، لأن ثقافة اليهودي هي ثقافة البلد الذي يعيش فيه وينتمي إليه. حتى النشيد الوطني لدولة الاحتلال في فلسطين ليس يهوديا في شيء بل هو موسيقى أوروبية شعبية قديمة. لكن غالبية صحافتنا العربية، بما في ذلك في الجزائر، تردد هذه الأكذوبة وفي غالب الأحيان عن عدم اطلاع على الموضوع حتى رسَّخوها نسبيًا في الأذهان مثلما أشاعوا أن غناء المالوف غناء يهودي... شيء لا يُصَدَّق عندما يأتي من صحفيين وهو كارثة بكل المقاييس.

س ـ الأتراك بدورهم والذين عاشوا في منطقتنا حوالي أربعة قرون كاملة، تركوا بدورهم ثقافة وتقاليد غائرة في الرسوخ، وكانوا بذلك تشكيلة أخرى لفسيفساء الوضع الجزائري والمغاربي والعربي حتى، ما رأيك؟


 ـ شخصيا، أفضل القول العثمانيين لتوخِّي الدِّقة، لأنهم ينحدرون من بلدان وأعراق متنوعة كتركيا اليونان، التي ينحدر منها الأخوان عروج وخير الدين، وألبانيا وبلغاريا والبوسنة وتشيكيا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا وجورجيا وغيرها. لكنهم، باستثناء قِلّة منهم ذهبت أو نُفِيتْ، بقوا في الجزائر ولم يرحلوا عنها مثلما أشاع المحتلون الفرنسيون ومن تُطربهم الأطروحات الاستعمارية والصهيونية. وفي تقديري، عددهم اليوم يُقدَّر بالملايين مثل المنحدرين من الأندلسيين.

في الحقيقة، رحل العثمانيون كنظام سياسي، لكنهم بقوا في البلاد كمواطنين. وهم جزائريون منذ 500 عام بعاداتهم وتقاليدهم وطبخهم وبما تبقَّى في اللسان الجزائري مِن لسانهم "التركي" القديم، على غرار "التشلِّيق" و"التَّبْسي" و"قُوجَة" و"الَّسانْجَاقْ"، وقد أصبحت هذه الخصوصيات جزءا من الهوية الجزائرية. فالبقلاوة الجزائرية جاءت مع العثمانيين والطبخ بالمرق الأبيض في بلادنا عادة تركية أساسًا وبعض المقاطع الموسيقية المعروفة في المالوف القسنطيني وفي الغناء الأندلسي العاصمي و"الشعبي" تركية / عثمانية على غرار التوشية المعروفة بـ: "نوبة السلطان" وتم إدماجها في التراث الموسيقي الأندلسي...إلخ. الناس لا يعرفون أن المْعَلَّم سْفِنْجَة سيِّد الغناء الأندلسي في العاصمة المتوفي عام 1908م ينحدر من أصل تركي مثله مثل الشيخ العربي بن صاري في تلمسان. وينسى الناس أن مصالي الحاج الزعيم الاستقلالي وأب الوطنية الجزائرية المعاصِرة كُولُوغْلِي، أيْ مِن أصلٍ مختلط عثماني/محلِّي... 

س ـ تمتلك رؤية ثاقبة وعلمية لمفهوم الهوية المغاربي، وترفض من خلاله ازدواجية الهوية (عرب أمازيغ) التي تكاد تكون موقفا عاما، ما قصة الأصول الأخرى؟


 ـ في الحقيقة، لم تكن موقفا عاما قبل أن تُفسِد السياسة الخبيثة العقول. الجزائريون في القرن 17م أو 18م كانوا يعرفون أنهم ليسوا فقط عرب وبربر، بل مثل هذا الكلام قد يثير آنذاك سخريتهم وحتى سخرية البربر. وما كانت معرفة ذلك بحاجة إلى مُحلِّلين وخبراء "زُوجْ دُورُو"، كما يُقال، لسبب بسيط وهو أنهم عندما ينزلون إلى ساحة الشهداء في العاصمة أو رحبة الصوف في قسنطينة أو باب الجياد في تلمسان آنذاك يُصادِفون كل العالَم بكل فسيفسائه البشرية حواليهم وكل اللغات والأزياء والأشكال البشرية. 

ففي السوق الكبير وفي القهوة الكبيرة وفي دار السلطان وفي المرسى في باب الجزيرة (باب دْزِيرة بالعامِّية) في مدينة الجزائر في القرن 17م، يمكنك أن تُصادف المهندس البَنَّاء وخبير الرّي المْعَلَّمْ موسى الثغري الأندلسي وابنه المهندس الحاج إبراهيم يتحدثان العربية والإسبانية كالغالبية الساحقة من الموريسكيين على مدى جيلين أو 3 أجيال بعد حلولهم بالبلاد. 

وترى المهندس البنّاء رمضان العلج وهو أوروبي لا يتحدث العربية إلا بالكاد لِحداثة وجوده بالجزائر كأسير مؤقتًا، والبنَّاء يوسف اليوناني الذي كان يتحدث اليونانية وقليل من العربية، وكذلك جزء كبير من الانكشارية الذين ينحدرون من تركيا وأوروبا لم يكونوا يتكلمون لا العربية ولا القبايلية أو التارقية ولا الشاوية بل لغات بلدانهم وما تيسر من العربية، بمن فيهم البايات والدايات والآغوات ورياس البحر.

مثلما كان رعايا بريطانيون، أسرى أو تجارًا، يتحدثون بالإنجليزية. وجزائريو اليوم، يعني أنت وأنا والآخر، ننحدر من كل هؤلاء ومن كل تلك الأعراق والشعوب ونحن حوصلة كل تلك الثقافات... ثم يأتيك مُسَيْلِمَة الكَذَّاب اليوم في شكل صحفي أو كاتب أو مؤرّخ أو سياسي لِيقول لك نحن فقط بربر أو فقط عرب وعندما يريد أن يظهر توافقيًا يتكرّم بالقول إننا عرب وبربر. وفي الأصل هذه نقاشات متخلفة لأن الذين نجحوا في بناء دول قوية ومزدهرة، كأجدادنا في العهد العثماني وفي الأندلس وفي بغداد العباسية ودمشق الأموية وفي مكة والمدينة في صدر الإسلام، ليس لديهم وقت للخوض في هذه النقاشات العقيمة وبخلفيات تفكيكية لبث الفتنة باستثناء أقليات قليلة لديهم متخلِّفة مثل مُتخلِّفينا الذين يحتكرون مع ذلك خطاب التنوير وهم أعداء التنوير في حقيقة الأمر.

يا سيدي الكريم، الأرض تنطق بهذا التنوع قبل الكُتُب: في "القصبة" كانت توجد حومة السّْلاوي (نسبةً إلى سَلاَ المغربية)، وحومة الجْرابة (نسبة إلى جزيرة جربة التونسية)، وحومة البْلاَنْسَة (نسبة إلى مدينة بَلنْسيَة في الأندلس / إسبانيا)، وحومة الثَّغرِيِّين خارج أسوار المدينة حيث فندق الأوراسي اليوم (نسبة إلى أهل الثغور الأندلسية على الحدود مع النصارى)، وجامع سيدي علي الفاسِي الشهير (نسبةً إلى مدينة فاس المغربية) في حومة الجْنَايَزْ المحاذية لحومة الزُّوجْ عْيُونْ، وعقيبة الجُورْجِي (نسبةً إلى جُورْجْيَا) في القصبة العُليا، وجامع مِيزُّو مُورْتُو (Mezzo Morto) وهو جامع من أهم جوامع المدينة بناه الدّاي مِيزُو مُورْتُو وهو إيطالي، وجامع علي بتشين (Piccinin) وعلي بتشين كان من أكبر رياس البحر الجزائريين  والقائد العام للأسطول البحري الجزائري في عهده في القرن 17م وهو أيضا إيطالي...إلخ.

س ـ بالنظر إلى حالة التطبيع شبه العامة الحاصلة اليوم في العالم العربي مع الدولة الصهيونية، كيف تقرأ هذا التوجه من الناحية التاريخانية؟ وهل يمكن تجاوز العوائق النفسية والعقدية لتطبيع شامل من دون استعادة الحقوق العربية؟


 ـ التطبيع حالة سياسية طبيعية مرتبطة بضُعف الدولة العربية، وهذا أيضًا ما كان يحدث للدويلات الأندلسية والمغاربية في التعامل مع أعدائهم من ملوك نصارى الشمال في إسبانيا. وبقدر ما تتفكك الدولة تزداد ضعفا وتزداد بالتالي تبعيةً وخضوعا للإملاءات. وإذا لم تتدارك الدولة العربية أوضاعها فإنها سائرة إلى تطبيع أوسع وخضوع أكبر ليس للاحتلال الصهيوني فحسب بل للاحتلالات المتعددة والمتنوعة التي سنتعرض لها وهي قادمة في الأفق.,,وليبيا خير مؤشِّر على ما أقول...

هكذا كانت الأنظمة السياسية المهلهلة في الجزائر وتونس والمغرب تتسابق في القرن 15م على خيانة شعوبها وتتناحر في ما بينها بدلا من توحيد الصُّفوف فكانت تبيع ذممها للإمبراطورية الإسبانية من أجل البقاء كأنظمة وتقبل بالإذلال مثلما فَعَلَ سالِم التُّومِي الثَّعالِبِي، الذي بَرْبَرَهُ البعض كذبًا وتزويرًا، في مدينة الجزائر وحامِد العَبْد في مدينة تنَس وغيرهم في المغرب والحفصيِّين في تونس إلى أن ظهرتْ قوى سياسية / جِهادية قلبتْ الطاولة على رؤوس الجميع وكنستْ هذه النفايات ووَحَّدَتْ الصفوف وحررتْ الأرض والإنسان والثقافة، وهذا ما فعله تحالفُ القوى الرَّافضة للأنظمة الذليلة مع الأخوين العثمانيين عروج وخير الدين.

 

العالم يتحرّك ويتغيِّر بسرعة حاليًا في تحوُّلات عميقة تهدد حتى الكيان الصهيوني في وجوده، وهو يعلم ذلك جيدًا دون أن يعلنه. أما الدُّول العربية فستسلِم من العاصفة لكنها ستتغير خرائط بعضها وتدفع الثمن غاليا إن لم تُسارع إلى توحيد الصفوف وإن لم تظهر فيها قوى حرة تقاوم بذكاء وشجاعة الذل والمهانة وتتعاون مع مَن يتقاسم معها قيَم الحرية وإحقاق الحقوق مثلما فعل أجدادنا في جيجل وبجاية والجزائر قبل 500 عام.

 

إقرأ أيضا: مؤرخ جزائري: الأندلس كانت صرّة العالم كما هي أمريكا اليوم