قضايا وآراء

وقفات مع الرافضين لفتاوى منع الجمعة والجماعات بسبب كورونا

1300x600

ما أن أعلنت منظمة الصحة العالمية عن وباء (كورونا) وباءً عالميا، وإمكانية تحوله لوباء يؤدي لكوارث إنسانية، وبدأت الدول التي حدثت فيها إصابات بالمرض بالإعلان عن الأعداد، وبعدما ازدادت أعداد المصابين والأموات من المرض، حتى بدأت عدة أسئلة شرعية تسأل في هذا الإطار، فالمرض ينتقل عن طريق التجمعات، وهناك شعائر تؤدى في الإسلام عن طريق الجماعة، كصلاة الجماعة، والجمعة، والعمرة والحج، بل حتى أحكام الميت المسلم الذي يموت بمرض الكورونا، من تغسيل، وصلاة جنازة، ودفن، وعزاء، وكلها ممارسات فيها تجمعات، تحتاج لفتاوى.

صدرت عدة فتاوى بخصوص تأييد إجراء ترك صلاة الجماعة في المساجد، والجمعة، عن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وهيئة كبار العلماء بالأزهر بمصر، وهيئات علمية أخرى جماعية وفردية، وكلها بناء على أدلة ونصوص بنيت على حرص الشريعة على حياة الإنسان وصحته، إذا تم التيقن من احتمالية الضرر والعدوى فعندئذ يتخذ كل إجراء يؤدي إلى حفظ صحة الإنسان والمجتمع.

 

انشغل الغرب بالتنافس في اكتشاف الدواء، وشغلنا نحن بأمور أخرى، رغم أهميتها، لكنها تضاف إلى تقصير الأمة وتأثمها في وقوعها في عدم القيام بفرض كفاية


لكن بعض الفتاوى الفردية صدرت ترفض ما ذهب إليه الكثيرون من أهل الفقه والعلم، وليست المشكلة في فتوى تبنى على أدلة معتبرة، وقواعد فقهية مرعية، لكن المشكلة أن معظم الرافضين تكلموا بلغة وعظية، وبلغة نظرية المؤامرة في الموضوع، فأحدهم كتب أن المحاولات المستميتة لمحاربة المساجد لم تفلح، لكنها أفلحت الآن في أزمة (كورونا)، وكأن العلماء الذين أفتوا بترك الجمعة والجماعات يخدمون أهداف أعداء الإسلام دون أن يدروا!!

وأحدهم تحدث، أن المساجد أماكن للبركة والطاعة، ولا يمكن أن يأتي منها ما يضر أو يعدي، وهو كلام يتناقض مع أسس السنن الإلهية، التي طلب الإسلام من المسلم مراعاتها، وعدم تجاوزها، فقال تعالى: (ولن تجد لسنة الله تبديلا) (ولن تجد لسنة الله تحويلا).

أما الأغرب والأعجب بالنسبة لي، فهو أحد المعقبين على الفتاوى، وقد كان لي معه موقف ومجموعة ممن جئنا إلى تركيا، وقد كنا نسكن في أماكن قريبة من بعضنا، فنصحنا بألا نصلي الفجر جماعة في المسجد، لأننا نعارض الانقلاب العسكري المصري، ولا ندري لعلنا نكون مرصودين، ويقوم أحد بالاعتداء علينا، وأن الإنسان يحتاج لمن يسعفه إذا تعرض لاعتداء لحوالي نصف ساعة، وفي توقيت الفجر لا يتسنى لنا ذلك لو حدث. فحتى لا نعرض حياتنا للخطر، فقد نصح واقترح: أن نصلي جماعة معا في بيوتنا.
 
وقد امتثلنا بالفعل لنصيحته ورأيه، فكنا نصلي الفجر جماعة معا في بيت أحدنا. ونصيحته وفتواه صحيحة وإن كانت مبنية على احتمال وليس يقينا. ولذا استغربت أن يجوز الأمر لنا، في احتمالية الخطر علينا، ونحن عدد قليل، بينما احتمالية إصابة الناس بالعدوى من مرض خطير كـ (كورونا)، فنشدد في الأمر على عموم الناس، والخطر أكبر، والمصيبة أعظم.

لقد كانت عاطفة من رفضوا الفتاوى، أن المساجد ستعطل عن العبادة، بينما بينت بعض الفتاوى التي صدرت: أن المؤذنين والأئمة يقومون بمهامهم من إقامة الشعائر، بما يحفظ حياتهم، ولا يتعارض مع أداء وظيفتهم، وبذلك يتم بث شعائر الصلاة في ميكرفونات المساجد، ويمنع التجمع الذي يؤدي إلى الإصابة بالمرض.

الخلاف بين الموافقين والرافضين لمنع الجمعة والجماعات، لم يكن بالدرجة الأولى نصوصا شرعية، بقدر ما كان في أمر آخر مهم، وهو ما ينبغي التنبه إليه في مثل هذه القضايا التي تتعلق بالشأن العام. فمن يرفضون ذهبوا إلى التاريخ الإسلامي وأنه وجدت أوبئة كبرى من قبل، ولم يفت العلماء بمنع الجمعة والجماعات، وهو كلام لا يتسم بالدقة منهجيا ولا فقهيا.

 

كانت عاطفة من رفضوا الفتاوى، أن المساجد ستعطل عن العبادة، بينما بينت بعض الفتاوى التي صدرت: أن المؤذنين والأئمة يقومون بمهامهم من إقامة الشعائر، بما يحفظ حياتهم، ولا يتعارض مع أداء وظيفتهم


لقد كتب شيخنا العلامة القرضاوي كتابا تبناه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، بعنوان: (موجبات تغير الفتوى) وقد جعل من هذه الموجبات التي تغير الفتوى: تغير المعلومات، فالزمن الماضي كانت فيه معلومات المرض والأوبئة والعدوى، محدودة، ولم تكن بنفس الدرجة التي وصلت إليه في هذا الزمن، وهو ما ينبغي علينا أن نراعيه في الفتوى، وأن تتغير الفتوى بناء عليه، فما كان يعتقده فقهاؤنا القدامى معلومة صحيحة، أثبت العلم خطأها، ولذا يسقط الرأي الذي بني عليها، وتتغير الفتوى حينئذ، وكما تغير المعلومات الفتوى، فكذلك التقنيات الحديثة، وهناك رسالة دكتوراة بعنوان: (أثر التقنية الحديثة في الخلاف الفقهي) وهي مفيدة في هذا الباب جدا.

والعجيب أن نفس المشايخ الذين يرفضون فتوى منع الجمعة والجماعات، بناء على معلومات طبية، هم أنفسهم يحرمون التدخين بمعلومات الطب، وليست بأقوال الفقهاء السابقين، فكتب التراث التي تناولت التدخين، دار معظم كلامها في إطار الكراهة، ولم تكن لديهم معلومات دقيقة بما يسببه التدخين من أضرار متيقنة تؤدي للوفاة، فهل بعد هذه المعلومات يقبل هؤلاء المشايخ القول بكراهة التدخين بناء على النقول التي قال بها علماء سابقون تناولوا الأمر بعيدا عن رأي الطب والصحة؟!!

ولماذا يقوم هؤلاء المشايخ بتطعيم أبنائهم ضد شلل الأطفال، والتطعيم ضد الجدري، وضد أمراض كثيرة، وليس لديهم معلومات شخصية عن نسبة الأضرار أو الإصابة بها، ومع قلة من يصاب اليوم بشلل الأطفال، فكلها إجراءات احترازية مقصود بها حفظ صحة الطفل مما يتوقع إصابته فيما بعد.

في الحقيقة كانت معظم الفتاوى تعبر عن حالة وعي بالخطر من المرض، إلا ما غرد خارج السرب من فتاوى أخرى ترفض، وهي مقدرة بلا شك، ومقدر دوافعها، ولكن للأسف شُغلتْ الأمة الإسلامية بمواجهة تداعيات (كورونا) من حيث الفتاوى، بينما لم تنشغل الأمة بفتوى توجب على الأمة من باب فرض الكفاية السعي لاكتشاف دواء للمرض، فقد انشغل الغرب بالتنافس في اكتشاف الدواء، وشغلنا نحن بأمور أخرى، رغم أهميتها، لكنها تضاف إلى تقصير الأمة وتأثمها في وقوعها في عدم القيام بفرض كفاية، قال الفقهاء والأصوليون عنه: إذا لم يقم به أحد تأثم الأمة كلها.

Essamt74@hotmail.com