أخبار ثقافية

رواية "اسمي سلمى" والمقولات الجاهزة

اسمي سلمى

تقوم رواية "اسمي سلمى" للروائيّة فادية الفقير البريطانيّة من أصل أردنيّ على قصّة ذات بعدين: يتناول الأوّل منهما جرائم الشرف والنظام الأبويّ في المجتمع العربيّ والإسلاميّ، والآخر يتتبع ما يتعرّض له المهاجرون من بؤس وظلم وتحيّز في بلاد الشتات. وأودّ أن أتناول هنا إحدى أكثر القضايا حضورا في الرواية، وهي تقديمها لمقولات جاهزة عن المجتمع العربي باعتباره مجتمع القهر والبطش بشكل مطلق وطبيعيّ، لا سيّما فيما يتعلّق بالمرأة وبتعامل المجتمع معها وبحضورها فيه. 


تنظر رواية اسمي سلمى إلى المجتمع باعتباره كتلةً واحدة كليّة لا تتمثّل معالم حياتها إلا من خلال العنف والقمع للمكوّنات الضعيفة المتمثّلة بشكل رئيس بالمرأة، بالإضافة إلى الحيوانات وكل ما لا يملك قوّة أو بأسا. ومصدر هذا العنف هو الرجل الذي يظهر في الرواية بصورة غير جدليّة على الإطلاق، فهو نمطٌ واحدٌ منجزٌ سلفا، لا يحتمل أي تفاعل ولا يتغيّر أو تنتابه ولو لحظات عابرة يكون فيها رحيما. في الوقت نفسه، تظهر المرأة ضعيفة ومسحوقة ومجرّدة من أيّ قوّة أو حتى إرادة امتلاك القوّة والهويّة الشخصيّة الفاعلة. تظهر هذه الصور وكأنّها مقولات منجزة، وغير خاضعة لأيّ جدليّة ممكنة.


تصارع سلمى الشخصيّة الرئيسة في الرواية صورة الفتاة البدويّة الكامنة داخلها بعد سنوات طويلة من هربها من قريتها "الحمى" إلى مدينة إكستر البريطانيّة، بسبب علاقةٍ مع شاب من أقربائها اسمه حمدان، الذي أنجبت منه دون زواج طفلة اسمها ليلى لن تراها بعد ولادتها وهي في السجن الذي يهدف لحمايتها من بطش عائلتها ملطخة الشرف. وفي معيشتها في إكستر، لا تستطيع سلمى التخلّص من ذكريات الألم والعذاب والقسوة في مجتمعها الأوّل، على الرغم من أنّها شكّلت أسرة بعد سنوات من التشرّد في بريطانيا، وتزوّجت من رجل بريطاني اسمه جون. وبعد أن أنجبت سلمى طفلا، قررت على الفور العودة إلى الحمى لتبحث عن ابنتها التي لم ترها من قبلُ على الإطلاق، لتجدها قد قُتلت منذ شهرين على يد عمها بسبب فعل أمّها الذي أدّى إلى إنجابها، ولتقتل سلمى نفسُها على يد أخيها للسبب نفسه. 


العنف والقتل في رواية "اسمي سلمى" لا يبدو مجرّد ردّة فعل على حدثٍ طارئ، وإنّما يبدو أمرا أصيلا وشاملا في الأسرة العربيّة والنظام الاجتماعي العربيّ، دون وضع ذلك في إطار من الظروف السياقيّة والتاريخيّة التي تفسّر أحداث العنف وتجعل لها أسبابا، مثل الظروف السياسيّة أو الاقتصاديّة أو النظام التعليميّ. وعدم وجود ذلك السياق السببي يُظهر العنف والقسوة على أنّه من طبيعة هذه المجتمعات والمكان الذي تحلّ فيه. 

 

اقرأ أيضا: رواية "حائط الصفصاف".. من صرخة الولادة إلى شهقة الموت

تظهر جميع الشخصيّات في قرية الحمى ذات بنية واحدة ثابتة، تكوينها الجوهري قائم على القسوة لا سيّما مع النساء، فهذه الشخصيّات لا تتنوّع ولا تختلف طبيعتها من فرد لآخر، مهما اختلفت علاقة القرابة والمكانة. ولعلّ أبرز هذه الشخصيّات هي شخصية والد سلمى الذي يبدو متسلّطا دائما وقاسيا بشكل مطلق، ولا يشعر بأيّ عطف أو إحساس بالأبوّة، وهو أيضا خالٍ من أيّة ملامحَ داخليّة ونفسيّة. وبعد حادثة ابنته مع حمدان، يصبح همّه الوحيد هو الانتقام لشرفه. الرواية لا تمنح الأب على الرغم من أهميّته في بناء وجهة النظر المسيطرة فيها أيّ صوت أو فرصة للتعبير إلا ما يظهر من أقواله على لسان سلمى، وهي السارد الوحيد في الرواية. بناء على هذا، يمكن القول إن شخصيّة الأب هي صورة نمطيّة أو مقولة عن العنف منجزة مسبقا، وهي مقولة غير جدليّة وغير خاضعة لعوامل موضوعيّة معيّنة. 


تنطبق صورة الأب هذه على الرجال جميعهم في عائلة سلمى وقبيلتها، فإخوة سلمى وأعمامها وجميع أقاربها لا يختلفون عن الأب في القسوة والعنجهيّة والوحشيّة، ولا يقلّون عن الأب في إثارة الرعب، فهم عبارة عن نسخ متعددة لشخصيّة واحدة. على سبيل المثال، محمود أخو سلمى لا يحضر إلا وهو جاهز للقتل، "خنجره موثّق بحزامه، وبندقيته محشوّة". ويمارس هؤلاء الرجال عنفهم أيضا على من يُمسّ عرضُه من الآخرين بأيّ خدش، فهذا والد سلمى تحوّل بعد أن نجت سلمى من عقابه "إلى عجوز يمشي بصعوبة، ويتكئ على عصا. لقد تحوّل من فارس للقبيلة إلى أضحوكة ومصدر لسخرياتهم وتهكمهم. ابنته لطخت شرف القبيلة ونجت بجلدها".


وبعد عودة سلمى لرؤية ابنتها وأثناء لقائها بأمها بعد سنوات طويلة، تسأل عن ابنتها ليلى، فتخبرها أمها بعد أن تمنّت أنها عمياء القلب وفاقدة للوعي مثلما هي عمياء البصر وفاقدة له: "قبل شهرين رماها عمها الذي لا يساوي شيئا في البئر الطويلة. كان لسان حاله يقول: ’البنت صورة عن أمها‘. انتشلها أبوك وصديقه جدعان، ودفنا جثتها في المقبرة، خلافا لرغبات رجال القبيلة". في هذه الجريمة يشترك كلّ رجال القبيلة مع عمّ الضحيّة، ذلك أنّ رفضهم لدفنها في المقبرة يعبّر في المقام الأوّل عن موافقتهم على قتلها. والعمّ القاتل بلا اسم ولا هوية، وهذا يجعل شخصيّته قابلة للتعميم على الآخرين. 


وتستمر الحالة الدمويّة بقيام أخ سلمى بقتلها وهي في حالة حزن لا تُحتمل، على الرغم من توسّلات أمه له ألا يفعل ذلك، فيصيح أحد أقاربه: "إنّه واجبه. يجب أن يظلّ رأسه مرفوعا. العار لا يمحوه إلا الدم." في تلك اللحظة يصرخ ذلك الأخ شاتما أمَّه قبل أن يرمي أخته بالرصاص: "يدكِ عنّي أيتها المرأة العجوز المعتوهة".


هذه السلسلة اللامتناهية من أعمال العنف والقسوة تتحوّل إلى مقولات عن المجتمع وليست صورة يمكن تمثّلُها على أنّها فعليّة فيه، لا سيّما إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ شخصيّات النساء في المقابل تدلّ على حالة مطلقة من الضعف والاستكانة وفقدان القيمة. كلّ هذا يجعل الرواية صورة مضطّربة عن أفكار متوتّرة عن المجتمع ونمطا حادّا من المبالغات التي تشمل مكوّنات الرواية الأخرى التي يضيق المقام عن ذكرها.