قضايا وآراء

السعودية وشد الحزام

1300x600
في تصريحات لوزير المالية السعودي، محمد الجدعان، ذكر أن المملكة العربية السعودية ستتخذ إجراءات صارمة جدا، وأن هذه الإجراءات قد تكون مؤلمة.، وأن جميع الخيارات للتعامل مع أزمة كورونا مفتوحة حاليا، وأنه يجب أن نخفض مصروفات الميزانية بشدة.

كما توقع وزير المالية السعودي ألا يتجاوز السحب من الاحتياطيات النقدية للمملكة خلال العام الحالي من 110 مليار ريال (29.3 مليار دولار) إلى 120 مليار ريال (32 مليار دولار)، أي في نطاق ما هو متوقع في الموازنة، والتوجه نحو إصدار أدوات دين بـ100 مليار ريال (26.7 مليار دولار) فوق ما هو مقدر في الموازنة، بسبب تأثيرات أزمة كورونا، لتضاف إلى الـ120 مليار ريال (32 مليار دولار) السابقة، فيصبح الإجمالي 220 مليار ريال (58.7 مليار دولار)، بجانب السحب من الاحتياطيات حسب المجدول، وفقا لما أعلن عنه ضمن الموازنة.

هذا في الوقت الذي خفضت فيه وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني نظرتها المستقبلية لتصنيف السعودية من مستقرة إلى سلبية، قائلة إن انهيار أسعار النفط زاد المخاطر المالية على المملكة. وأوضحت الوكالة في بيان صدر الجمعة الماضي أن الصدمة الشديدة التي أحدثها هبوط أسعار النفط ستؤدي إلى زيادة ديون السعودية وتآكل الاحتياطات المالية السيادية، وأن التوقعات تشير إلى انخفاض الإيرادات الحكومية للمملكة بحوالي 33 في المئة في عام 2020، وحوالي 25 في المئة في عام 2021 مقارنة بعام 2019.

وبينت الوكالة أن التباطؤ الحاد في نمو الناتج المحلي الإجمالي يقلص أيضا إيرادات القطاع غير النفطي. وتوقعت ارتفاع نسبة ديون الحكومة السعودية على المدى المتوسط إلى حوالي 45 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وأن الإنفاق على القطاع الصحي سيرتفع في إطار جهود احتواء وباء كورونا.

وأشارت الوكالة إلى أن الموازنة العامة للسعودية أصابها ضعف منذ آخر صدمة في أسعار النفط في عامي 2015 و2016. لكن الوكالة مع ذلك أبقت على تصنيفها الائتماني للسعودية عند درجة "أي1" (A1)، قائلة إن الموازنة العامة للمملكة لا تزال قوية نسبيا على الرغم من ذلك التراجع. وقالت إن الحكومة ستعوض على الأرجح بعض الخسائر في الإيرادات عن العامين الجاري والمقبل عبر تخفيضات في الإنفاق.

وتكشف تصريحات وزير المالية السعودي فضلا عن التخفيض الائتماني لموديز مدى عمق الأزمة الاقتصادية في المملكة، والتي يعتمد اقتصادها على الصادرات النفطية باعتبارها أكبر مصدر للنفط في العالم، بمتوسط سبعة ملايين برميل يوميا، وثاني أكبر منتج للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، بمتوسط إنتاج 11.3 مليون برميل يوميا. كما يعكس ذلك أيضا التراجع في الأصول الاحتياطية الأجنبية لمؤسسة النقد العربي السعودي (البنك المركزي)، بنسبة 4.8 في المئة على أساس شهري، حتى نهاية آذار/ مارس الماضي، إلى 1775.2 مليار ريال (473.4 مليار دولار) مقارنة بـ1864.9 مليار ريال (497.3 مليار دولار) حتى نهاية شباط/ شباط الماضي، مما يعني فقدان المملكة 23.9 مليار دولار من احتياطاتها الأجنبية، وكل ذلك جاء بالتزامن مع تداعيات فيروس "كورونا"، وفقدان أسعار النفط ثلثي قيمتها، والتي تعد مصدر الدخل الرئيس للبلاد.

وبذلك تحولت نعمة النفط إلى لعنة ونقمة، ليس فقط بفعل عدم تنوع هيكل النشاط الاقتصادي في المملكة، ولكن كذلك بفعل السلوك غير المدروس للمملكة الشهر الماضي بإغراق السوق بالنفط، وعدم رجوعها عن ذلك إلا بعد تهديدات مباشرة من الرئيس الأمريكي ترامب لولي عهدها محمد بن سلمان، وهو الأمر الذي نتجت عنه لأول مرة موافقة تحالف "أوبك+" على خفض الإنتاج بمقدار 9.7 ملايين برميل يوميا خلال شهري أيار/ مايو وحزيران/ يونيو المقبلين. ويعد هذا الخفض الأكبرَ على الإطلاق، ويمثل 10 في المئة من إجمالي الإنتاج العالمي من النفط.

وكان من نتيجة السياسات الخاطئة للمملكة أن سوق النفط لم ينتظر حتى تنفيذ الاتفاق، فقد شهدت السوق المستقبلية للنفط يوما أسود في تاريخ العقود المستقبلية لأول مرة، وذلك يوم 20 نيسان/ أبريل، حيث أدت مشكلة الزيادة في العرض من قبل المملكة وروسيا في ظل تقلص الطلب بفعل كورونا وعدم وجود مخازن لتخزين الزيادة في المعروض من النفط؛ إلى انفجار في السوق المستقبلية من خلال المشتقات المالية، وبخاصة العقود المستقبلية، حيث تعرض المضاربون المشترون (المحتفظون بمراكز طويلة) لتلك العقود لخسارة فادحة تأثرا بأحداث السوق الحاضر، وهو ما تطلب أخذهم مراكز معاكسة (بائعين أو مراكز قصيرة) لإقفال مركزهم وتقليل خسائرهم من خلال بيع ما بحوزتهم من عقود مستقبلية والدفع للغير لشرائها، وهو ما حقق السلبية في السعر، لا سيما وأن تلك العقود المستقبلية لا يتم فيها غالبا لا تسليم ولا تسلم للنفط، ولكن تسوية فروق أسعار كسبها في هذه الحالة المضاربون على الهبوط وخسرها المضاربون على الصعود.

إن تصريحات وزير المالية السعودي تكشف عن التوجه بقوة نحو شد الحزام من خلال المزيد من السياسات التقشفية التي ستتخذها المملكة، والتي سيكون عبؤها على المواطن السعودي في بداية ونهاية المطاف، لا سيما في ظل ما أبرزته الموازنة العامة للعام 2020 من وصول الدين العام لنسبة 11.2 بالمئة إلى 754 مليار ريال (201.1 مليار دولار)، وتوقع ارتفاع نسبة ديون الحكومة السعودية على المدى المتوسط إلى حوالي 45 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، فضلا عن التفاوت المجتمعي الملحوظ، وارتفاع نسبة الفقر وفق تقديرات غير رسمية إلى نحو 25 في المئة من الشعب السعودي، والبطالة بنفس النسبة تقريبا، وهو الأمر الذي  سينعكس علي المواطن مزيدا من فاتورة الارتفاع في الأسعار والعبء الضريبي، فضلا عن تأثر القطاع الخاص سلبا في ظل ضغط الإنفاق الحكومي وتقلص المشروعات الحكومية، ومن ثم تسريح عمالة سواء أكانت وطنية أو وافدة وإفلاس شركات، وتنام لمعدلات البطالة والفقر.

إن ما يحدث في المملكة لا يمكن تبريره بحدوث كورنا وحده، وكأنه شماعة تعلق عليه الأخطاء، فلا شك في أن كورونا لها تأثير، ولكن ما وصلت إليه المملكة هو نتاج طبيعي لسياسة متقلبة وخاطئة تنقصها الرؤية السديدة والإرادة الرشيدة، بعيدا عن الشعارات المزيفة المرفوعة باسم رؤية 2030.. تلك الرؤية التي قوامها الحول التنموي والإهمال الشرعي، بالتوجه نحو المزيد من القطاعات الريعية بعيدا عن الإنتاج الحقيقي الذي هو كفيل بتحقيق الاسكتفاء والاستغناء للمملكة..

تلك الرؤية التي تتوجه نحو الاستثمار القميء المعادي للشرع في الأندية والبذخ ومراتع الترف في أرض نبتت على طاعة الله.. في أرض كان الإمام مالك في مدينة رسول الله يرفض أن يركب بغلته فيها خشية أن تطأ موضعا وطئه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بقدمه الشريفة.. في أرض حققت من قبل الكفاية لساكنيها، وصدق الله العظيم: "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ".. فهل يفيق أهل القرار قبل فوات الأوان؟!

twitter.com/drdawaba