أخبار ثقافية

رواية "حياة معلّقة".. حساسية "الفني" وعدوى "السياسي"

رواية كتاب حياة معلقة عاطف أبو سيف - تويتر

يحار الداخل إلى أجواء الرواية في تحديد الشخصية الرئيسة فيها، الشخصية التي تمثل بؤرة الأحداث، والممسكة بخيط السرد من أول الرواية إلى آخرها.


وتتلاشى حيرة القارئ تدريجيا، حين تغرقه الرواية في أمواج من الأحداث المتتابعة والمصائر المتقاطعة، التي تجري وتتشكل في مدينة غزة، وتتلاطم كتلاطم أمواج بحرها. ويترك القارئ البحث عن الشخصية الرئيسة فيها، مدركاً أن الرواية لا بطل واحداً فيها، يحتل قمرة القيادة، ويوجه دفتها.


تتكشف الرواية، الصادرة عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع عام 2014، عن بطولة جماعية، في مدينة محاصرة من كل الجهات، حتى الجهة البحرية منها، تشبه الزجاجة المغلقة التي تتقلقل في داخلها حيوات الشخصيات، بحثاً عن متنفس فيها، أو مخرج من هذه الصدَفة القاسية والشفافة في الوقت نفسه، فلا هي تمكنهم من الخلاص من سجنها، ولا هي تحجب الآمال عنهم.  


لا يمكن تصنيف الشخصيات في هذه الرواية، التي رشحت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، إلى رئيسة وثانوية حسب التصنيف النقدي النمطي، فالحشد الكبير من الشخصيات التي تدور في فلك الاحداث، لا تسمح بأن يبرز منها بطل واحد مركزي، فالشخوص تظهر وتغيب بعد أن تؤدي دورها في الملحمة الغزية، التي ترصد الرواية أحداثها وتفاصيلها منذ النكبة وحتى الربيع العربي.


يتصدر (نعيم) واجهة الأحداث في الفصل الأول من أحد عشر فصلا في الرواية، لكنّ بطولته، برغم صلابة شخصيته وتشبثه بالحياة، محكومة بالموت منذ العبارة الأولى في الرواية "ولد نعيم في الحرب، ومات في الحرب أيضا". ويتحول موته برصاصة قنّاص إسرائيلي، إلى جدل حول فكرة الشهادة بين ابنه المهاجر (سليم)، وابن أخته المناضل (نصر). ويكشف هذا الجدل عن تعقيدات الحياة في غزة التي لا تمرّ فيها سنن الحياة مروراً طبيعيا.


وبين جنازة (نعيم) الحاشدة في فصلها الأول، وجنازة الحاج (خليل) الأسطورية في فصلها الأخير، تصور الرواية المأساة الغزية من خلال حيوات شخصياتها الحائرة بين خلاصها الفردي من جحيم الحياة في سجنها الكبير المسمى مدينة، وبين النضال الجماعي في أفق سياسي مسدود.


ويمكن تقسيم شخصيات الرواية إلى قسمين، الجيل الأول من أبناء غزة الذين عاصروا النكبة، وذاقوا مرارة اللجوء، وأسسوا لحياة المخيم، واحتفظوا بحلم العودة، وحافظوا على عادات الحياة الأولى، ومنهم المختار، وصاحب الدكان، وناظر المدرسة، والفدائي الذي تنقل بين المنافي، وعاد مع العائدين بعد اتفاقية أوسلو.


أما القسم الثاني من الشخصيات، فهو جيل الشباب الذين ولدوا في المخيم، وفُرض عليهم الخوض في الصراع الذي بدأه الجيل الأول، ومنهم (سليم) و(سالم) و(سمر) أبناء نعيم. ومنهم (نصر) و(ياسر) و(خميس)، و(يافا) ابنة الحاج (خليل)، و(نيفين) ابنة الفدائي (صبحي)، و(يورو) صبي المقهى الذي جاوز الأربعين من عمره ولم يغادر المخيم.


وإذا كان الجيل الأول من الشخصيات استطاع الصبر على حاله، محافظاً على رؤيته الواضحة لأسباب الصراع، وفاهماً أهمية الصمود في المخيم بوصفه المكان الأقرب إلى مسقط الرأس، والأضمن لحق العودة، فإن الجيل الثاني يبدو مغبش الرؤية تجاه المستقبل، نافد الصبر تجاه الواقع، ومتردداً تجاه الطريق الواجب عليه سلوكها. 


ترسم الرواية طرقاً وعرة أمام الشخصيات الشابة، طرقاً محفوفة بالندم والألم والخسارة على اختلاف مساراتها، فمن (سالم) الذي اختار العمل الفدائي، فغيبته سجون الاحتلال، وظل حضوره في الرواية شبحياً وغصة مُرّة في حلق أبيه وأخوته، إلى (سليم) الموزّع انتماؤه الفكري والعاطفي بين غزة وأوروبا، وبين حبّ الصحافية الإسبانية (نتالي) وحب ابنة بلده (يافا)، إلى (ياسر) الذي تحول بحكم عمله مراسلاً لوكالات الأنباء الغربية، إلى مراقب محايد للأحداث، يسجل أحداث الموت والدمار في مدينته من دون أن يكون جزءاً منها، إلى (نصر) المناضل الصلب الذي يجد نفسه في صدام مع أبناء جلدته بعد الانقسام الكبير في السلطة، وانتقالها إلى فصيل منافس للفصيل الذي ينتمي إليه، إلى (يافا) التي يأخذها البحث عن جذورها العائلية المشتتة إلى لبنان، إلى (نيفين) العاجزة عن التكيف مع واقع الحياة في غزة، إلى (يورو) الحالم بالسفر إلى أوروبا بأي وسيلة، هرباً من ظروف حياته القاسية.     


اضطلعت الرواية بمهمة صعبة، هي كتابة الملحمة الغزية المعاصرة، وعلى امتداد صفحاتها التي تزيد عن الأربعمئة، سعت الرواية إلى إدارة حشد الشخصيات، والإمساك بالأحداث المفصلية من تاريخ المدينة، وتصوير واقع الحياة في المدينة، التي حكم عليها التاريخ والجغرافيا أن تكون ساحة لمعاناة إنسانية عز نظيرها في التاريخ المعاصر. 


مزجت الرواية بين البعدين السياسي والإنساني، وراوحت بينهما في توليفة مؤثرة من الأحداث والوقائع التي شكلت ملامح الشخصيات وصاغت مصائرها، على نحو يصعب معه فصل السياسي عن الإنساني، في مستوى التفاصيل الصغيرة، وفي المواقف والأفكار الكبيرة. فالرسالة الأولى التي توجهها الرواية مفادها أن الشأن السياسي يقود على كل ما عداه في غزة، فما دامت حياة  الشخصيات كقيمة عليا رهينة بمجريات الصراع السياسي، فلا عجب أن تغدو الشؤون المهمة الأخرى، كالحب، والإيمان الديني، والحرية، والانتماء، والصداقة، والعلاقات الإنسانية، والأحوال المعيشية، كلها انعكاسات لتعقيدات الواقع السياسي المحيق بالمدينة.


تختل المعادلة الفنية في الرواية في نصفها الثاني، النصف الذي يصور وقائع الانقسام السياسي الكبير في غزة بعد عام 2006. وتظهر في هذا الجزء انحيازات السرد السياسية في تصوير غزة واقعة تحت احتلال الفصيل المسيطر على السلطة، وتحويل الصراع الذي طالما خاضته شخصيات الرواية مع الإحتلال الصهيوني، إلى صراع مع السلطة الجديدة.


يتحول الفدائي القديم (صبحي) إلى موظف أمني كبير في السلطة الجديدة، ويعفي لحيته، ويثري من وظيفته، ويمنع ابنته أن تتزوج من (نصر) المنتمي إلى فصيل منافس، ويتآمر مع تجار أنفاق الحدود على الاستيلاء على التلة المشرفة على المخيم، لبناء مركز أمني ومسجد كبير ومجمع تجاري فوقها. وتُحمّل الرواية التلةَ بعداً رمزياً كبيراً، لتصبح مناط الكفاح الذي يخوضه أهالي المخيم ضد السلطة الجديدة. 


ويضحّي (صبحي) بتاريخه النضالي المشرّف حين يقود حملة قمع عنيفة لإخلاء التلة من المعتصمين بها. وتقع مواجهة يسقط فيها الحاج (خليل)، ويُشيّع في جنازة أسطورية تشي ببشاعة السلطة الجديدة، ورفض الأهالي لها.


ويثرى (خميس) من تجارة الانفاق، ويتسع نفوذه، ويدخل في علاقات مشبوهة مع قيادات السلطة الجديدة، في حالة نمطية من تزاوج السلطة ورأس المال.  


ويعتقل (سليم) ويعذّب في الزنزانة نفسها التي عذّبه فيها المحقق الإسرائيلي أيام الانتفاضة الفلسطينة الأولى، وتتوارد الخواطر إلى ذهنه خلال الاعتقال، بتساوي الموقف القديم مع الموقف الجديد، من دون تفريق بين صراع وجودي مع المحتل الصهيوني، وصراع سياسي بين فصيلين سياسيين وطنيين.


اختلت التوليفة الرهيفة بين السياسي والإنساني، التي نجحت الرواية في البناء عليها في النصف الأول من الرواية، وصورت معاناة الإنساس الغزي نتيجة سياسات محتل لا يُختلف على هويته وأهدافه.

 

وظلّت هوية العدو واضحة، منذ النكبة، ثم النكسة، وخلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية. لكنّ الرواية في نصفها الثاني غيّرت وجه العدو، مغلّبة الموقف السياسي على الإنساني، وانحازت لمنطق غير منطق الفن، وفرضت انحيازاتها على الأحداث والشخصيات، ودفعتها إلى مآلات لا تتسق مع تكوينها الأول، فانحرفت الأحداث عن مسارها فجأة بفعل دافع خارجي، وغامت ملامح الشخصيات كأن يداً غير ماهرة عبثت بها.