مقالات مختارة

إياد الحلاق: ضحية أخرى من ضحايا القتل الوحشي الذي يتعرض له الفلسطينيون

1300x600

قتل الشرطة لرجل فلسطيني يعاني من التوحد يسلط الضوء تارة أخرى على التباينات الغريبة التي غدت سمة أساسية من سمات الدولة الإسرائيلية.

غادر إياد الحلاق منزله في السادسة من صباح ذلك اليوم، وتقول عائلته إنه كان رائق المزاج. يظهر في مقطع فيديو التقطته كاميرا أمنية مثبتة غير بعيد عن منزله وهو يمشي قدماً ويحمل في يده كيس قمامة، فقد تعود باستمرار أن يأخذ القمامة معه كلما غادر منزله في الصباح. 

كان الحلاق في طريقه إلى مركز الرعاية الذي تعود التوجه إليه كل صباح منذ ستة أعوام. دخل مدينة القدس العتيقة من بوابة الأسد وانطلق نحو شارع الملك فيصل، أول طريق الآلام. كان يقصد مركز الوين القدس لأصحاب الاحتياجات الخاصة، على بعد بضع مئات من الأمتار عن بوابة الأسد، بالقرب من مدخل ساحة المسجد الأقصى. 

العالم في خراب


لم يكتب للحلاق الوصول إلى وجهته يوم السبت الماضي، حيث بدأ عناصر من شرطة حرس الحدود الإسرائيلي في مطاردته وهم يصيحون "إرهابي! إرهابي!" لسبب غير واضح. ثم أطلقوا النار عليه، فأصابوه في ساقه. ركض مذعوراً باتجاه حجرة لتجميع القمامة على جانب الطريق في محاولة للاختباء. 

كما أن المشرفة عليه في مركز الوين، وردة أبو حديد، والتي كانت هي الأخرى في طريقها إلى المركز، حاولت الاختباء في غرفة القمامة للنجاة بنفسها من الشرطة ونيران أسلحتها. 

سرعان ما وصل ثلاثة من ضباط شرطة الحدود إلى باب غرفة القمامة، وكان الحلاق ممدداً على ظهره فوق أرض الغرفة القذرة. رأت المشرفة أن ساقه كانت تنزف. وقف رجال الشرطة الثلاثة هناك، وقد وجهوا بنادقهم نحوه، يصيحون في الحلاق: "أين البندقية؟ أين البندقية؟"

صرخت فيهم مشرفته وردة أبو حديد بالعربية وبالعبرية: "إنه معاق! إنه معاق!" وكان الحلاق يصرخ قائلاً: "أنا معها! أنا معها!" استمر ذلك لما يقرب من خمس دقائق، ثم أطلق أحد الضباط النار من بندقيته الإم 16 على الحلاق من مسافة قصيرة، فأصابته رصاصة في خاصرته واستقرت في نخاعه الشوكي متسببة أثناء اختراقها لجسده في إتلاف مختلف أعضائه الداخلية، فأردته قتيلاً في الحال. 

وبذلك انتهت حياة إياد الحلاق القصيرة، الشاب الفلسطيني ذي الوجه الملائكي، الذي كان يعاني من التوحد. كان في الثانية والثلاثين من عمره، قرة عين والديه اللذين ما فتئا يتفانيان في رعايته طوال تلك السنين، ثم فجأة غدا عالمهما خراباً.

يصعب على المرء أن يتصور ماذا كان سيحدث لو أن فلسطينياً هو الذي أقدم، وبنفس الأسلوب، على إعدام شاب إسرائيلي من ذوي الاحتياجات الخاصة. ولكن، عندما يكون الضحية فلسطينياً فكل شيء تقريباً يصبح مباحاً. 

قُتل لمجرد كونه فلسطينياً


تم خلال السنوات الأخيرة قتل أربعة فلسطينيين آخرين على الأقل ممن كانت لديهم إعاقات مشابهة إما من قبل الجيش أو من قبل الشرطة. قبل أسبوعين فقط من قتل الحلاق، قتلت قوات الأمن الإسرائيلية مصطفى يونس، المواطن الفلسطيني الذي كان يعاني من اضطرابات نفسية، وذلك على مدخل مركز سبأ الطبي، أحد أكبر المستشفيات في إسرائيل، بعد أن أقدم يونس على طعن حارس أمن. 

كان من الممكن إلقاء القبض على يونس، ولكن الأسلوب المستورد من المناطق المحتلة إلى إسرائيل يقضي بأن إطلاق الرصاص الحي هو الخيار المفضل لدى قوات الأمن بدلاً من الملاذ الأخير. 

ولكن لنكن واضحين: فحقيقة أن هؤلاء الضحايا كانوا معاقين عقلياً ليست القضية، فهم لم يقتلوا لأنهم كانوا معاقين وإنما قتلوا لكونهم فلسطينيين. 

قتل عشرات الفلسطينيين على أيدي القوات الإسرائيلية خلال العام الماضي، والذي يعتبر واحداً من أهدأ السنين في تاريخ هذا الصراع الدموي. وفي كل حالة من الحلات تقريباً لم يكن هؤلاء الفلسطينيون يشكلون تهديداً لأي أحد، وكلهم تقريباً كان يمكن إلقاء القبض عليهم، أو على الأقل إصابتهم بجروح، بدلاً من قتلهم. 

بعد يومين من مقتل الحلاق، أخبرني والده المكلوم إنه تيقن حينما بلغه أن ابنه كان قد أصيب بجروح بأنه قتل. وقال والد الحلاق وهو يتحدث داخل خيمة العزاء في حي وادي الجوز: "لا يكتفي الجيش الإسرائيلي أو الشرطة الإسرائيلية أبداً بجرح ضحاياهم، بل يقتلونهم".

وكان من بين الفلسطينيين الذين قتلوا داخل المناطق المحتلة خلال الشهور الأخيرة شابات فلسطينيات حاولن استخدام مقصات في الهجوم على الشرطة المسلحة عند نقاط التفتيش، وشبان حاولوا طعن جندي ولكن بالكاد تمكنوا من إصابته بخدش، وأشخاص داخل سيارات ألحقوا أضراراً بعربات عسكرية، ربما عن غير قصد أو ربما في هجمات متعمدة، وشباب ألقوا حجارة وفي بعض الأوقات مولوتوف ولم يتسببوا في إصابة أحد أو في إلحاق أي أضرار، ومتظاهرون غير مسلحين وأشخاص كانوا يحاولون التسلل إلى داخل إسرائيل، وبعض أشخاص لم يفعلوا شيئاً على الإطلاق أو لم يخططوا بتاتاً للقيام بأي شيء – أشخاص مثل إياد الحلاق، الشاب الذي وصفته والدته بالملاك. 

وسائل الإعلام المتواطئة

 
ليس من المصادفة أن يكون جميع الأشخاص تقريباً، الذين وقعوا ضحايا للشرطة الإسرائيلية التي تزداد عنفاً عاماً بعد عام، داخل إسرائيل هم من مواطني إسرائيل الفلسطينيين. في بعض الأحيان يكون الضحايا من اليهود الإثيوبيين. وفي كل مرة يكون المستهدف بزعمهم لص سيارات أو متظاهراً أو شخصاً سلوكه يثير الريبة، أو شخصاً آخر ترديه الشرطة بإطلاق الرصاص عليه، وفي كل واحدة من الحالات تقريباً يتبين أنه عربي. 

وهذا لا يتعلق بالاحتلال ولا يتعلق بالإرهاب، وإنما بالإصبع الموضوع على الزناد، والذي يستسهل الضغط عليه وإطلاق النار عندما يكون الهدف فلسطينياً. ففي إسرائيل اليوم لا يوجد أرخص من حياة الفلسطينيين. 

ووسائل الإعلام هي أسوأ المتواطئين مع الاحتلال ومع العنصرية داخل إسرائيل، إذ تبادر وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى تبييض صفحة إسرائيل كلما وقعت حادثة قتل آثمة، وذلك في محاولة لغسل اليدين منها أو تبريرها، طالما أن الضحية فلسطيني. بل لا تحظى في العادة مثل هذه الحوادث بما يستحق الذكر من التغطية. والرسالة هي: لا يوجد في موت العربي ما يستدعي الكتابة عنه، فلا يوجد اهتمام بذلك، أو لا أهمية لذلك، أو كلا الأمرين معاً. 

وحتى في الحالات الصادمة، مثل إعدام الحلاق، بالكاد تجد تغطية إعلامية على مستوى الحدث. بل تنزع وسائل الإعلام في العادة إلى التقليل من أهمية الخبر أو قد تتجاهله تماماً. فلا يرغب الإسرائيليون في سماع شيء حوله، وتفضل وسائل الإعلام عدم إزعاجهم بشيء من ذلك. وهي بالمناسبة نفس وسائل الإعلام التي تبالغ في توصيف كل حادثة يصاب فيها يهودي، وكأن ما وقع علامة على قيام الساعة. 

وفي هذه الأثناء تستمر عمليات غسيل الأدمغة داخل إسرائيل، والتي تتضمن نزع الإنسانية عن الفلسطينيين، فكل فلسطيني ما هو سوى عملية تفجير إرهابية وشيكة الوقوع، ما لم يثبت غير ذلك. وكل فلسطيني يتم قتله، فإن قتله مشروع لأن من أعدموه كانت حياتهم، بزعمهم، مهددة بالفناء. 

وحتى اللغة التي تستخدم لوصف عمليات القتل في وسائل الإعلام الإسرائيلية تسرد حكاية مختلفة عندما يكون الضحية يهودياً بالمقارنة مع كونه فلسطينياً. فالفلسطيني لا ترتكب بحقه بتاتاً جريمة قتل على يد جندي أو مستوطن. أما اليهودي الذي يقتله فلسطيني فهو دائماً ضحية جريمة قتل، حتى لو كان الجندي حينها يقوم بعملية اقتحام وحشي لمنزل عائلة الفلسطيني دون مبرر في كبد الليل. 

وهذا التبرير الذي تقدمه وسائل الإعلام مساهمة منها في غسيل الأدمغة، مع ما يرافقه من غياب للعقوبة وتفش للقيم العنصرية التي تهيمن على الضمير الإسرائيلي، يخلق حالة تغدو معها الحياة الإنسانية بلا قيمة. 

لا سلام بلا مساواة


لو أن جندياً أو شرطياً إسرائيلياً أطلق النار على كلب غداً فأرداه قتيلاً، فمن المؤكد أن القاتل سيعاقب بقسوة تفوق ما قد يتعرض له فيما لو أطلق النار على فلسطيني فأرداه قتيلاً. وحتى في وسائل الإعلام، يعتبر قتل كلب ضال خبراً أهم من خبر مقتل فلسطيني. 

إزهاق الأرواح محظور بالطبع، ولكن عندما يكون نبأ قتل كلب أهم من نبأ إزهاق حياة فلسطيني، فلا بد أن ثمة خللاً خطيراً. 

ولربما هنا يكمن مفتاح التغيير، والذي ما لبثت فرصه تتراجع باستمرار: طالما استمر الحط من قيمة حياة الفلسطينيين من قبل الإسرائيليين الذين يتعاهدون فيما بينهم على حماية قدسية حياة اليهود، فلا أمل في التوصل إلى حل سياسي للصراع.  

في ظل القيم التي تسترخص حياة الآخر وتنزع عنه الإنسانية، بل وتبرر قتله وتنكر ما يتعرض له من ظلم، لن تتحقق المساواة في الوعي، وبدون هذه المساواة لن يتحقق السلام بتاتاً. 

وهنا، في الحقيقة، يكمن المبدأ الأساسي، ومفاده أننا وهم بشر متساوون ولنا نفس الحقوق، ولكن كما نحن بعيدون عن ذلك المبدأ في واقع الحياة اليوم. 


مترجم عن موقع "ميدل إيست آي" البريطاني

الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع