تقارير

"أيقونة" الكاريكاتير ناجي العلي.. رحيل بطعم "الحنظل"

ناجي العلي.. دافع عن فلسطين بريشته ومات مقتولا في أحد شوارع لندن- (إنترنت)

 جريمة عمرها 33 عاما لا تزال مفتوحة ولم تغلق رسميا، القاتل بلا ملامح باستثناء صورة تقريبية لهوية منفذ عملية الاغتيال عرضتها الشرطة البريطانية (سكوتلانديارد) إلى جانب صورة للمسدس الذي استخدمه القاتل بجريمته.
 
في 22 تموز (يوليو) من عام 1987، كان رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي يسير بطمأنينة اعتيادية في أحد شوارع لندن، متجها إلى مقر عمله في مكتب صحيفة "القبس" الكويتية، قبل أن تفاجئه رصاصة من شخص مجهول أدخلته في غيبوبة امتدت 38 يوما قبل أن يفارق الحياة في 29 آب/أغسطس من العام نفسه.

 


 
كان ناجي العلي قد تلقى تهديدات بالقتل بسبب رسومه الكاريكاتيرية التي سخر فيها من ساسة وقادة وشخصيات من الشرق الأوسط.
 
هاجر ناجي سليم حسين العلي، المولود عام 1937 في قرية الشجرة الواقعة بين طبريا والناصرة، عام 1948 مع أهله إلى جنوب لبنان، وعاش في مخيم عين الحلوة، سافر بعدها إلى طرابلس ونال منها شهادة ميكانيكا السيارات، ثم التحق بالأكاديمية اللبنانية عام 1960 ودرس الرسم فيها.
 
اكتشفه القاص والروائي والصحافي الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني بعد أن شاهد رسوماته أثناء زيارته لمخيم عين الحلوة، فنشر له أولى لوحاته في مجلة "الحرية" عام 1961، وكانت دولة الكويت الولادة الفنية له فقد أصاب فيها حظا واسعا من الشهرة والإبداع بعد أن فتح الباب له ليعمل محررا ورساما ومخرجا صحفيا في عدة صحف ومجلات كويتية من بينها: "الطليعة"، "السياسة"، "القبس"، "القبس الدولية"، إضافة إلى "السفير" اللبنانية. 

رافقت جميع رسومات ناجي، شخصية الصبي "حنظلة" التي تمثل صبيا في العاشرة من عمره، ويرمز للفلسطيني المعذب والقوي، ورغم كل الصعاب التي تواجهه فهو شاهد صادق على الأحداث لا يخشى أحدا وغير مكترث، أدار ظهره للعالم ويداه خلف ظهره. 

 



يقول ناجي إن "حنظلة" ولد مع حرب الخامس من حزيران/ يوينو 1967، مؤكدا أن "حنظلة" هو بمثابة "الأيقونة التي تمثل الانهزام والضعف في الأنظمة العربية".
 
وعن "حنظلة" يقول أيضا: "ولد حنظلة في العاشرة من عمره وسيظل دائما في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء".
 
وأما عن سبب تكتيف يديه فيقول ناجي العلي: "كتفته بعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبع".
 
وعندما سُئل ناجي عن موعد رؤية وجه "حنظلة" أجاب: "عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته".
 
قدم ناجي شخصيات أخرى من بينها شخصية المرأة الفلسطينية والتي تمثلها "فاطمة" وهي شخصية قوية وغاضبة لا تهادن، مواقفها واضحة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، بعكس شخصية زوجها الكادح والمناضل النحيل ذي الشارب، المتردد والمستكين، وهو في النهاية رجل طيب ومسالم.

 


 
مقابل هاتين الشخصيتين تقف شخصيات أخرى، فهناك شخصية السمين صاحب المؤخرة العارية والذي لا أقدام له مقلدا به بعض القيادات الفلسطينية والعربية والمطبعين، وأيضا شخصية الجندي الإسرائيلي، طويل الأنف، الذي في أغلب الحالات يكون مرتبكا أمام حجارة الأطفال، شريرا أمام القيادات الانتهازية.
 
نقده الشديد والمباشر وعدم مهادنته لأي نظام سياسي كانا السبب وراء إطلاق النار عليه في لندن، فتلقى رصاصة في رقبته من الخلف في وضح النهار بينما كان يترجل من سيارته إلى مكتب صحيفة "القبس" حيث كان يعمل في ذلك الوقت.
 
وتابع الشهود المسلح المشتبه به وهو يتبع العلي، ثم لاذ بالفرار من الموقع على قدميه. 

وجرى وصفه بأن عمره يبلغ نحو 25 عاما، وأن ملامحه شرق أوسطية، كما أبلغ شهود عن رؤية رجل آخر في الخمسينيات من العمر، وأصوله شرق أوسطية أيضا، وهو يركض قريبا من الحادثة، ويده داخل جيبه كما لو كان يخفي شيئا ثم دلف إلى سيارته المرسيدس، وقادها مبتعدا.
 
ويكتنف الغموض اغتيال ناجي العلي فبعد اغتياله راجت عدة فرضيات حول الجهة التي نفذت عملية الاغتيال من بينها "الموساد" الإسرائيلي، وأطراف فلسطينية، أو نظام عربي أزعجته انتقادات ناجي اللاذعة.
 
وتقول التحقيقات البريطانية التي نشرت سابقا إن أحد المشتبه بهم يدعى بشار سمارة كان منتسبا إلى منظمة التحرير الفلسطينية لكنه في الواقع كان عميلا لدى "الموساد" الإسرائيلي. 

وقامت الشرطة البريطانية، باعتقال طالب فلسطيني يدعى إسماعيل صوان ووجدت أسلحة في شقته، ولم توجه له تهما تتعلق بجريمة اغتيال ناجي رغم الشكوك بعضويته في "الموساد".
 
وكانت لدى الشرطة البريطانية قناعة بأن "الموساد" متورط بالجريمة، والذي رفض بدوره، وبشكل رسمي التعاون مع التحقيقات البريطانية، ما أثار غضب رئيسة وزراء بريطانيا حينذاك مارغريت تاتشر التي قامت بإغلاق مكتب "الموساد" في لندن.
 
وبحسب شهادات لعدد من الكتاب والصحفيين الفلسطينيين والعرب، فقد واجهت جريمة اغتيال ناجي حملة تضليل واسعة منذ اليوم الأول، وحاولت وسائل الإعلام البريطانية إلصاق التهمة بإيران التي كانت تخوض مع العراق حرب الثماني سنوات، وما لبثت وسائل الإعلام نفسها أن ألصقت التهمة بالعراق نفسه، رغم أن ناجي لم ينحز إلى أي طرف في تلك الحرب، كما أنه تم التلميح إلى شاعرين وروائي فلسطيني، ما زاد في التمويه وإرباك الرأي العام وحرف الأنظار عن القاتل الحقيقى ومدبر عملية الاغتيال.
 
وتميل الفرضيات إلى أن "الموساد" هو الذي دبر الاغتيال وذلك لانتماء ناجي إلى "حركة القوميين العرب" التي قامت "إسرائيل" باغتيال بعض قياداتها، من بينهم غسان كنفاني مكتشف ناجي. وتشير بعض المعلومات إلى أنه عقب فشل محاولة "الموساد" في اغتيال خالد مشعل في عمان، فقد قامت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية بنشر قائمة بعمليات اغتيال نفذها "الموساد" وذكر اسم ناجي العلي في القائمة. 

وتخليدا لذكراه فقد قام الفنان نور الشريف بعمل فيلم باسم "ناجي العلي" أدى فيه شخصية ناجي العلي، وأثار الفيلم ضجة في وقتها وطالب بعض المحسوبين على الحكومة المصرية بمنع الفيلم، بسبب انتقاد ناجي للنظام المصري وتحديدا فترة الرئيس المصري السبق محمد أنور السادات وتوقيعه "اتفاقيات كامب ديفيد".
 
قبل رحيله أصدر ناجي العلي ثلاثة كتب، ضمت مجموعة من رسومه المختارة، كما أنه حصل على العديد من الجوائز، بينها الجائزة الأولى في معرضي الكاريكاتير للفنانين العرب في دمشق عامي 1979 و1980، وصنفته صحيفة "أساهي" اليابانية كأحد أشهر عشرة رسامين للكاريكاتير في العالم، وقالت إن "ناجي العلي يرسم بحامض الفوسفور" في إشارة إلى صراحته المباشرة في رسوماته، بينما قالت عنه مجلة "التايم" إنه الرجل الذي "يرسم بعظام البشر".
 
تميز بالنقد اللاذع، والسخرية السوداء، عبر 40 ألف رسم كاريكاتيري كانت تأخذ شكلا تحريضيا حينا، وشكلا ثوريا حينا آخر، كما يقول عن رسوماته.
 
استمد العلي موضوعاته من معاناة الناس وهمومهم ومن الحالة السياسية السائدة في المنطقة، وعكس فيها انتقاد الشعوب للحكومات والقيادات العربية والفلسطينية، فرسم الكثير من الرسوم الساخرة للقادة والزعماء العرب.

يرقد الشهيد ناجي العلي الذي نجح في صياغة الوعي والذاكرة الفلسطينية، الأب الروحي لرسامي الكاريكاتير في العالم العربي، بسلام في مقبرة "بروك وود" الإسلامية في لندن، ويحمل قبره الرقم 230190.

قال عنه الاتحاد العالمي لناشري الصحف: "إنه واحد من أعظم رسامي الكاريكاتير منذ نهاية القرن الثامن عشر".