كتاب عربي 21

عودة فرنسا إلى الشرق: عن قابلية الاستعمار والبديل المطلوب

1300x600
شهدنا مؤخرا عودة الدور الفرنسي بزخم إلى منطقة شرقي المتوسط، وتمثّل ذلك من خلال الدور الكبير الذي لعبه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في معالجة الأزمة اللبنانية، وزيارته إلى العراق، والدور الفرنسي الواضح في مواجهة تعاظم الدور التركي في منطقة البحر المتوسط. وقد اندفع بعض اللبنانيين المتحمسين للمطالبة مجددا بعودة الانتداب الفرنسي إلى لبنان للتخلص من مشاكله السياسية والاقتصادية والمالية، وخصوصا بعد انفجار مرفأ بيروت الكارثي وما أصاب لبنان واللبنانيين من تداعيات خطيرة.

كما استقبل اللبنانيون الكثير من المسؤولين الأجانب بترحاب، وعادت بعض الأساطيل الأجنبية لزيارة مرفأ بيروت لتقديم المساعدات أو عرض العضلات.

ما جرى في لبنان يشبه إلى حد كبير ما يجري في بعض الدول العربية والإسلامية الأخرى التي لم يعد لديها أية مشكلة أو حساسية في الاستعانة بالقوات الأجنبية لحمايتها، أو معالجة مشاكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كما أن الحساسية تجاه التدخلات الغربية والأجنبية في بلادنا العربية والإسلامية تراجعت إلى حد كبير، وأصبح القبول والترحيب بهذه التدخلات وبالقواعد الأجنبية عاديا.

فكيف نفسّر هذا المنطق اليوم؟ وهل هناك من حل لهذه الأزمة الخطيرة؟

لا يمكن تفسير هذه الحالة إلا من خلال العودة إلى التحليل الرائع الذي وضعه المفكر الجزائري مالك بن نبي قبل عشرات السنين، تحت عنوان "القابلية للاستعمار". وقد شكلت مشكلة الاستعمار الذي اجتاح البلدان الإسلامية في غضون القرنين التاسع عشر والعشرين أرقا فكريا للمفكر مالك بن نبي، جعله لا يقنع بالمبررات الظاهرية التي قدمت لتفسير هذه المعضلة، فحاول شرح هذه الإشكالية الخطيرة والتي تفسر لجوء الشعوب لقبول الاستعمار وعدم مقاومته.

ففي كتابه "شروط النهضة"، عرض مالك بن نبي لرؤية عميقة لشرح هذا المفهوم، إذ أبرز "الدور الخفي للمستعمِر في إعادة التهيئة النفسية للشعوب المستعمَرة، تهيئة تولد في نفوس أفرادها روحا جديدة تطبعها سمة الرضوخ والاتكالية والجبن وتكلس العقل والإرادة، حيث تحدث بن نبي عن "مُعَامِلَيْنِ: "المعامل الاستعماري" و"معامل القابلية للاستعمار" وهما السبب الأساسي لقبول الاستعمار وسيطرته على الشعوب".

"وقد شرح ذلك بشكل دقيق الكاتب حرز الله محمد لخضر في إحدى مدوناته ومما جاء فيها: "إن المعامل الاستعماري هو عامل خارجي يفرض على الكائن المغلوب على أمره الذي يسميه المستعمِر "الأهلي" نموذجا محددا من الحياة والفكر والحركة، وحين يكتمل خلق هذا النموذج يظهر من باطن الفرد "معامل القابلية للاستعمار"، وهو معامل يجعل الفرد يستبطن مفاهيم المستعمِر عنه ويقبل بالحدود التي رسمها لشخصيته هذا المستعمِر. وليس هذا فحسب، بل يصبح يدافع عنها ويكافح ضد إزالتها.. فعامل القابلية للاستعمار كما يشرحه مالك بن نبي هنا هو العامل الداخلي المستجيب للعامل الخارجي، إنه رضوخ داخلي عميق لعامل الاستعمار يُرَسِّخُ الاستعمار ويجعل التخلص منه مستحيلا".

وهذه القراءة الدقيقة لرؤية المفكر مالك بن نبي تشرح لنا بوضوح ما يجري اليوم في العديد من الدول العربية والإسلامية. فهذه الدول التي لا تزال خاضعة للأنظمة والثقافات والمؤثرات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي صنعها الاستعمار في بلادنا؛ لا تزال لديها القابلية لعودة هذا الاستعمار بقوة بل بترحيب، ودون مقاومة كما كان يحصل سابقا. وأما الدول العريقة والتي نجحت في إقامة دول حقيقية مستقلة وعلى أسس ثقافية وفكرية واجتماعية قوية، فهي التي نجحت في مواجهة عودة الاستعمار الجديد والقبول به.

على ضوء هذه الملاحظات العميقة يمكن أن نقرأ ما يجري في العالم العربي والإسلامي. فكلما فشلنا في إقامة الدولة القوية القائمة على أسس المواطنة والكفاءة والاقتصاد القوي بعيدا عن الفساد والزبائنية، وكلما فشلنا في إقامة الدولة الرافضة للتدخلات الخارجية، وكلما كانت دولنا ضعيفة وتعاني من الطائفية والمذهبية والدكتاتورية والظلم والاستبداد وقمع الحريات والنظام الاقتصادي الضعيف، كلما كانت هذه الدولة والشعوب تعاني من المشكلة التي سمّاها المفكر مالك بن نبي: القابلية للاستعمار.

واليوم عندما يصبح التدخل الخارجي في دولنا مرحبا به ومقبولا به ولا يقاوم، بل إن بعض الشعوب والدول أصبحت لا تشعر بالأمان إلا من خلال استدعاء الأجنبي والمستعمر الجديد بكافة أشكاله، فهذا يعني أننا لم نتحرر بشكل حقيقي وعميق، وأن هناك أزمات عميقة تواجهنا، وأننا لم ننجح لا في إقامة الدولة الحقيقية ولا نجحنا في تخليص مجتمعاتنا من أزماتها العميقة.

هذه القضية تستحق البحث والنقاش بعمق اليوم، وفي ظل عودة الاستعمار إلى بلادنا دون أية مقاومة أو مواجهة، بل بترحيب وقابلية كبيرة.

twitter.com/KassirKassem